ف |
شعر مترجم |
أوجاع الندم .. قراءة نفسية لمجموعة (مواسم التعب) للشاعر عبد الرزاق عبد
الواحد
شوقي يوسف بهنام - العراق
الندم
remorse شعور منغص لراحة الأنا ويعد هذا الشعور من أقدم الحالات النفسية
التي خبرتها النفس البشرية .ولعل المهتم بظاهرة " الندم " سرعان ما يكتشف
ان هناك جوانب غموض في استخدام بعض الباحثين لمفهوم الندم ، فضلا عن علاقته
ببعض المتغيرات مثل " الذنب والخزي " ومع ذلك لا يزال عدد من الباحثين
يصرون على ضرورة التمييز بين هذه المتغيرات ، لأنها تمثل ظواهر مستقلة على
الرغم من وجود ارتباطات متوقعة بينها . كما أيضا اختلف الباحثون في استخدام
مناهج البحث في قياس الندم (1 ) ولا أريد ان أقوم باستعراض مفهوم الندم في
ضوء الدراسات النفسية والاجتماعية أو علاقته ببعض سمات الشخصية . بل همي
الأكبر هو قراءة مجموعة الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد في ضوء هذه الرؤى .
ولا ضير من الانطلاق من واحد من التعاريف التي قدمها احد الباحثين في تعريف
الندم وهو الباحث أوزابيل Ausubel,1955 حيث يعرفه بأنه مشاعر غير سارة
مرتبطة بما اقترفه الفرد من انتهاكات لأمور خلقية أو معايير اجتماعية (2) .
وعلى هذا الأساس سوف ننطلق في قراءتنا لهذه المجموعة الصادرة راهنا (3) .
وسوف أركز على القصائد التي تعبر عن إشكالية الندم عند الشاعر . وعنوان
المجموعة نفسه يحيلنا إلى هكذا استنتاج . فعنوان المجموعة هو ( في مواسم
التعب ) والذي يعد نموذجا لهذه القراءة . هذا يعني ان الشاعر قد مر بمواسم
عديدة وكثيرة من التعب . لا أريد القيام بإحصاء لها .. أنا .. سوف أركز ،
فقط ، على ما هو موجود بين يدي .. اعني في هذه المجموعة على وجه التحديد ..
لا أريد ان أصادر الشاعر وأقول ان حياته كلها مواسم مفعمة بالتعب .. لكن
هناك مواسم .. والفرق بين الحالتين واضح . هناك مواسم قد لا نجد فيها اثر
من أثار التعب .. وهناك مواسم كلها مملوءة بالتعب . تحديد هذا الموسم أو
ذاك مسألة سوف اتركها للشاعر نفسه . كما أني لن أتوقف عند النصوص التي يخرج
الشاعر من خلالها من ذاته ويتجه إلى هذا الموضوع أو ذاك ... مثلا عندما
يرثي أحدا .. أو عندما يقف عند أعتاب قداسة هذا أو ذاك . سأكتفي فقط
بالنماذج التي تجعلني أراها على انها اتجاه نحو الداخل .. أو ما يمكن
تسميته بمناجاة الأنا .. وقد يصطدم قارئ هذه المجموعة بهكذا اعتبار ، لأن
في المجموعة نصوص لا نجد " أنا " الشاعر فيها .. هذه لا شأن لنا بها ..
واليكم النص الأول . يقول الشاعر :-
الله لو
فصلت‘ جلدي مثلما أشاء إذن
تمددت‘
استطلت‘ فيه
أرخيت’ شراييني
تورق‘ ما تشاء .. (
المجموعة ، ص 33 )
****************** هناك
، على ما يبدو ، ظاهرة يقف الشاعر إزاءها مندهشا . هذه الظاهرة هي جلده !!
. اترك لون هذا الجلد للشاعر نفسه . يلونه كما يشاء .. وإذا انطلقنا من
مفردة الشاعر نفسها ، اعني مفردة ( لو ) لرأينا ان هناك مشاعر .. أو قل ،
إذا شئنا الدقة قدرات تحكم فائقة على الذات .. وعلى وجه التحديد .. في
الجسم .. هذا يذكرنا بقدرات أصحاب اليوغا الذين يتفننون في ذلك التحكم .
والتفنن هذا علامة من علامات بالانبهار بالذات . هذا الانبهار يؤدي ،
تلقائيا ، إلى الشعور بالتمايز عن الآخرين . هذا التمايز هو الذي يؤدي إلى
الاغتراب (4 ) . وهذا هو الذي يعانيه الشاعر . ففي قصيدته المعنونة ( قطرة
حزن ) نجد هذا الإحساس . يقول الشاعر
:- وطن
لمخاوف هذا العالم قلبي
من
يعرف أين حدودك َ يا عصفور الخوف ؟ يا
مملكة الخوف
وطن
للآلام ، ويحملني حبي
ارحل‘
منك
،
وارحل‘ فيكَ
أي
صليب يمتد إلى أطراف الأرض رحيلي ؟
يا
قلبي
يا
طيرا ً أنهكه الطوف
ولم
يبرح يسحب في كل جهات الأرض
جناحيه المسحوقين
يا
كنز الخوف
يا
قطرة حزن
تنبض‘ فوق صليب العالم يا
قلبي (
المجموعة ، 34 )
******************** إذن
تلك هي مظاهر الاغتراب ومعالمه عند الشاعر . وبهذا المعنى سوف تزداد مواسم
التعب لديه . لكن المفارقة ، هنا ، في ان هذه المظاهر ظلت محتبسة في أغوار
الشاعر ولم تظهر إلا على شكل قطرة بهذا المعنى يكون الهم لدى الشاعر مثل
البحر الهائج الأمواج . الشاعر يصف نفسه بعصفور مسحوق الجناحين . هذه
الصورة تذكرنا بعصفور ادونيس ذو الصوت المبحوح (5) الذي بح صوته من كثرة
الغناء والزقزقة .. ولكن لا احد تذوق هذا الغناء وتلك الزقزقة .. !!! . هنا
، عبد الرزاق يستبدل الطواف بدل الزقزقة . هذا بالإضافة إلى ان هناك فرق
بين الأسلوبين في التعامل مع العالم الخارجي ، فأدونيس يخاطب العالم ..
يناديه .. يلح عليه .. ولكن بح صوته وعاد إلى مكانه .. بينما عبد الرزاق ظل
يطوف بدون منادة أو بدون إلحاح . الأول ايجابي ... بينما الثاني سلبي !! .
هناك مسألة أخرى لها بعدها النفسي . أدونيس كان يرغب في ان يعرفه العالم ..
اعني انه استعراضي إلى حد ما .. بينما عبد الرزاق بقى صامتا غير مكترث
بالعالم .. هنا شعور بالنرجسية عميق لدى عبد الرزاق . الطواف دليل على عدم
الاستقرار وعلامة على ان عبد الرزاق لم يجد متلقي يفهم ما يريد .. هذا
العصفور الذي أنهكه التعب والطواف سوف يكَون صورة عن العالم ، يمكن القول
انها يتوبيا الشاعر التي يحلم بها . عن اليتوبيا يخبرنا الشاعر
:- يتسع
الزمان
يتسع
المكان
تتسع
الأرقام
تتسع
الأبعاد والأحجام
ويصغر
البشر
فيصبحون
أقزام ...! (
المجموعة ، ص 53 )
******************** الشاعر
غير موجود في عالم الأقزام هذا .. أنه الوحيد .. الطويل القامة بين هؤلاء
الأقزام .. ألم يخبرنا الشاعر كيف انه يستطيع أن يمدد جلده كما يشاء .. مثل
قامات النخيل (6) في العمارة .. ربما أعلى .. حتى أعالي السماء !!!. رغم
هذا فهو وحيد .. بل هو متوحد .. في هذا المعنى يقول
:- لابسا
جلد أخيل
لن
أقاتل
إنني
افرش من لحمي مشاتل
لنبال
مزقت جسد الحسين ( 7) (
المجموعة ، ص 46 )
***************** ان
توحده هذا لم يمنعه من التماهي أو على وجه أدق أن يقارن جلده .. جسده ..
بجسد الحسين . إذن قضية الحسين هي قضية الشاعر . وعبد الرزاق ، هنا ، مثله
مثل أدونيس عندما تمنى أو تخيل ان يكون شاهدا على مقتل الحسين(8) ، على
الرغم من انه لم يكن مع الحسين في تلك الواقعة الأليمة . وها هو الشاعر
كذلك وليس من احد معه . يقول الشاعر في هذا المعنى في قصيدته " انكسار
" :- ليس
لي من احد ليس
عندي إلا رغد
ورغد
غائبة (
المجموعة ، ص 60 )
****************** في
خضم هذه الوحدة ، حيث تستبد به أحزانها ومتاعبها .. حتى يشعر بالدوران حول
نفسه إذا صح مثل هذا التعبير . يصف لنا الشاعر هكذا مشاعر في قصيدته
المعنونة " إدمان " حيث يقول
:- سنوات
وهو يدور
مشدودا
في هذا الناعور
دَميَتْ
منه الرّقبة
وتآكلت
الخَشبَة
من
كثرة ما دار (
المجموعة ، ص 52 )
******************* لا
أريد التعليق على التشبيه . من المؤكد ان للثور ، هنا رمزيته عند عبد
الرزاق . نترك تحديد أبعاد هذه الرمزية ومجالاتها للشاعر نفسه . المهم ،
عندنا ، هو الجانب النفسي عند الثور .. اعني الجوانب الانفعالية لديه ..
إذن ، هنا موسم آخر للتعب يضاف إلى متاعبه .. ويبدو ان سنوات هذا الثور
تمتاز بالرتابة والنمطية . لقد وصفها الشاعر بالدوران حول الناعور .. أليست
هذه الوضعية شبيهة بعقوبة ( سيزيف ) عندما حكم عليه بحمل الحجر إلى قمة جبل
وإلى الأبد ؟؟ . ولكن الثور ، كان متكيفا ، على ما يبدو ، مع واقعه هذا ،
على الرغم من ثورة التمرد الداخلية التي كانت تجتاحه بين الفينة والأخرى ..
. أنه إذن صمت الألم ... هدوء الانكسار ... ابتسامة الفشل .. المهم ان هذا
التمرد لم يكن برانيا .. أي لم يلاحظه احد من الذين يرون هذا الثور يوميا .
أنه ثور هائج بكبت .. متمرد بقمع .. صمت مكره عليه .. أنه إن لسعيد ، كما
كان سيزيف من قبل سعيدا وإلى الأبد ... ولكن الأقدار لم تكن كما يشاء .. أو
على وجه التحديد .. كما يشاء هذا الثور المسكين المعصوب العينين .. لنرى ما
هي هذه الأقدار
:- ذات
نهار
سقط
النير
وقف
الثور مروعا
لا
يدري كيف يسير .. !! (
المجموعة ، ص 52 )
********************* وفي
خضم هذه النمطية في الحياة ... وحيث التوافق بالإكراه ، بحيث لم يرى ان
هناك أملا يلوح في الأفق .. حدث ما لم يكن في الحسبان .. وبدلا من ان يكون
سقوط النير فرصة للخلاص والانعتاق والحرية .. صار سببا للحيرة وشلل الإرادة
وفقدان التوجه .. وتكتفي القصيدة بهذا القدر تاركة الثور يضرب الأخماس
بالأسداس في مواجهة المصير .. وفي هذا الإطار .. أعني إطار حيرة الثور ،
يمكن ان نلج إلى ماضي الشاعر .. ذلك الماضي الموغل في القدم .. اعني قِدم
الطفولة ، لنرى رغبات الشاعر ، منذ كان طفلا تبهره زرقة السماء الواسعة
ولمعان نجومها . يقول الشاعر في قصيدته " منذ ذاك المطر
" :- كنت
طفلا أنام على السطح في
بيتنا في العمارة
كنت
اسبح بين رحاب
الفضاء
وأحلم
ارحل بين الغيوم و
أحلم في
أيَّما غيمة يسكن الله ؟! (
المجموعة ، ص 86 )
******************** اعتقد
، تاركا جمالية اللغة الشعرية ، لغيري ، ان مستوى الذكاء عند الشاعر كان
ممتازا .. ومن المؤسف إننا لا نجد تاريخا للقصيدة .. على أي حال .. فأن في
النص عودة إلى تلك الأيام الأولى من حياة الشاعر تعج التي بالأسئلة . بهذا
المعنى ، كان الشاعر لجوجا .. ملحاحا في السؤال .. يود أن يعرف كل شيئ ..
وعلى رأس هذه الأسئلة .. السؤال عن الله . نميل إلى الاعتقاد ان السؤال عن
الله عند الشاعر إنما هو نتيجة لعدم قناعة الشاعر بالصورة التي قدمها
انتمائه الديني عن هذا الكائن .. ان الشاعر ، بهذا المعنى ، في أزمة ..
وهذه الأزمة تتجلى في رفضه الداخلي عن كل ما هو قائم من تصورات ومعتقدات .
لنرى كيف يصور ، لنا ، الشاعر ، تلك التصورات الجمعية عن الله . يقول
الشاعر
:- كان
المعلم يخبرنا أنه
فوق كل النجوم وكل
السحاب وهو
في كل باب
فأذا
ما دعته القلوب
استجابْ (
المجموعة
، ص 86 )
***************** هذه
هي الصورة التي قدمها المعلم عن الله للشاعر . صورة تقليدية صورة لآله ليس
غير مشبع للحاجات لا مسا عذابات البشر .. شافيا جراح قلوبهم .. ويبدو ان
الشاعر ، غير مقتنع هنا ، بهذه الصورة . والدليل على عدم قناعة الشاعر بهذه
الصورة هو جوابه التالي
:- يا
ما تلمست‘ جنبي
وتمنيت
من كل
قلبي لو
ارى الله .. ثم
أنام
حالما
بألوف الكواكب تحمل‘ فوق الغمام
عرشه
، وهي تسهر وسط الظلام (
المجموعة ، ص 87 )
****************** لازال
الطفل عبد الرزاق .. لاسيما .. قلبه وجوارحه وعقله تواقة لمعرفة السر
الأكبر .. ذلك السر إلي وصفه له المعلم . وصف المعلم وصف المعلم وصف غير
مقنع للشاعر . أليس هذا موسم آخر للتعب يضاف إلى مواسم التعب عند الشاعر ؟؟
. هنا الشاعر يعود إلى الذات وتروح يداه تلامس جنبه . هذا التلامس دلالة
على ان الشاعر يريد ان يفحص نفسه .. هل هو سوي مثل أترابه من الناس ؟؟؟ .
وان هذه الأفكار علامة دالة على المرض . وتقتله الوساوس ويدمره الحزن حتى
الإعياء فينام . انه يعتقد ان في النوم خلاصا من أفكار النهار .. وإذا
بالنوم بداية لمتاهة حلمية لا تنتهي . لقد رأى الطفل عبد الرزاق العرش .
فهنيئا له هذه الرؤية . ولكن يا للأسف في ان هذه الرؤية ليست إلى أضغاث حلم
. .. يبدو ان هذه الأحلام كانت نمطية لدى الطفل عبد الرزاق . بمعنى انها
متكررة ملحاحة .. وفي كل ليلة تظهر بصور وأشكال مختلفة ومتباينة . لنرى ما
حلم الشاعر ، في ليلة ، يمكن ان تكون الليلة الكبرى .. سوف يطلق عليها
الشاعر فيما بعد وفي نص آخر " ليلة القدر " . انها ليلة التجلي الأكبر ..
لنرى تجليات تلك الليلة . يقول الشاعر
:- ليلة
كنت
، أوشك أغفو
عيناي في غيهب تسبحان
وصوت الأذان
والكواكب تنأى وتطفو
فجأة
مرَ سهم من الضوء لصق القمر
تاركا
جرحه في السماء
لست
ادري لماذا تخيلت ان الدماء
ملأت
مقلتي
، وان
المطر
سوف
يهمر ذاك المساء
وانهمر
.. ! (
المجموعة ، ص 87-88)
******************* لا
أريد الدخول في دلالية المطر .. سوف انظر إليها ، فقط ، على انها علامة فرح
في صحراء الألم عند الشاعر .. انها رغبة لدى الشاعر في ان تنتهي مواسم
التعب لديه وتبدأ مواسم الفرح و لا تنتهي !! . ينقلنا إلى عالمه الجواني ..
حيث أحاسيسه ومشاعره وذكرياته .. ومخزون لا وعيه . لنرى دهاليز ذلك العالم
لديه .. يقول الشاعر
:- ذاهلا
كنت’
،
الغيث يهمي
وصيحات أمي
وأحسست في عنفوان المطر (
المجموعة ، ص 88 )
***************** لقد
د‘هشَ الطفل من الموقف . لم يتحمله فأصابه الذهول .. كان في ما مضى يتلمس
جنبه . وها هو الآن تحت تأثير صدمة تجلي الليلة الكبرى . فان من آثار هذه
الصدمة الذهول والتقهقر نحو الذات . ولكن القدر لم يترك الشاعر يعيش أوهام
الذهول هذه . فهناك أمل وعزاء للطفل الشاعر . نعم هناك يد ترعاه من دون ان
يدري . سم هذه اليد بما تشاء . يقول الشاعر
:- ان
قلب السماء انفطر
وتسرب قنديل ضوء
رويدا
تدلى
ومسَ
سريري وصلى
ورأيت
المعلم يبسم‘ وجهي} إشارة إلى اعتقاد المعلم بأن الصبي قد مسه مس
بينما
الله يملأ قلبي
فمددت
يدي نحو صدري أحضنه
بينما
صوت أمي
وهي
توقظني وتسمي
يردد
سبحان ربي يمر
الشتاء كله
دون ماء
ثم
تمطر في شهر تموز ؟؟
سبحان
رب السماء (
المجموعة ، ص ، 88-89 )
******************* لم
يكن هذا الإله .. الذي كان ساكنا في إحدى الغيمات .. منشغلا بذاته انشغالا
حلزونيا ... لقد اكتشف الطفل عبد الرزاق ؛ ان هذا الكائن منفتح وليس منغلق
.. ونتيجة لهذا الانفتاح .. إرساله قنديل الضوء هذا .. والقنديل ، هنا ، هو
رمز لعناية هذا الإله بهذا الطفل .. إذن الطفل ليس متروكا في الأرض .. أو
مقذوفا به في العالم . الطفل في غيبوبة .. في حمى .. في ذهول .. وفي غمرة
هذا الذهول ، لم يسمع الطفل عبد الرزاق .. من الأصوات .. غير صوت أمه ..
صحيح انه رأى المعلم يبسم جنبه ... لكن ، عندها .. كانت حاسة السمع لديه
معطلة . سماع صوت الأم ، عندنا ، إشارة لتعلق أوديبي واضح .. هل من المعقول
.. ان الطفل ، وهو في حالة الإرباك هذه ، ان لا يكون الأب حاضرا ؟؟ اللهم
ان لم يكن في ذمة الخلود .. مهما يكن من أمر .. عبد الرزاق توجه نحو الأم
.. الأم هي الأخرى في حالة دهشة .. ودهشة مفارقة في سياقات قوانين الطبيعة
.. أليس من المفروض ان المطر لا يأتي إلا في الشتاء !! . وها هي اليوم في
قيض تموز وإذا بالسماء تنزل مطرا .. لا أريد ان اعلق على دهشة الأم .. اعني
السماء الماطرة التموزية .. نظرة فاحصة إلى هذه السماء تجعلك تكتشف واحدة
من أماني الشاعر ورغباته .. في ان يكون تموز رمزا للعطاء والخصوبة والخير .
وسوف اترك تحديد دوافع هذه الرغبة للشاعر نفسه .. وانطلاقا من ذلك المطر
التموزي ، بدأ الطفل عبد الرزاق بالأيمان بأن الله يسكن قلبه .. وان الطريق
إليه هو نقاء البشر
:- منذ
ذاك المطر
وأنا
مؤمن بالقدر
مؤمن
ان ربي بقلبي وان
الطريق إليه
نقاء البشر .. ! (
المجموعة ، ص ، 89 )
****************** عبد
الرزاق إذن ، وفي تصورنا ، لا يؤمن بوجود الله خارج ذاته . الأنا هي مكان
هذا الكائن .. انه إذن في الباطن .. وعلى وجه التحديد .. في القلب .. هنا ،
عند عبد الرزاق نزعة إلى التصوف .. أنه على وجه الدقة .. عودة إلى جذوره
المندائية .. وفي الوقت نفسه يتجلى الصراع والتمزق ما بين الموروث والمكتسب
عند عبد الرزاق .. على هذا الصعيد ، يجتر عبد الرزاق ذكرياته الأولى . وقد
لاحظنا في قصيدة " منذ ذاك المطر" كيف يعبر عن أزمة وجدانية ، ما بين حنينه
إلى معرفة أصول البدايات ، وما بين جعل سماء حاضره تموزية الأبعاد !!! .
وها هو في قصيدته المعنونة " عيون الماس " يجتر خبرة ، يمكن تسميتها ؛
بخبرة الحب الأول . وفي ذات الجو الذي تشع بين جنباته نفحات دهشة الطفل
إزاء مجهولية السماء ، ينقلنا ، عبد الرزاق ، إلى عوالم خبرته تلك . يقول
فيها
:- كنت
، منذ الصغر
اسهر
الليل محتفيا بالقمر
كلما
هل
أرنو لأول وجه أصادفه ثم
أدعو
منذ
ان كنت طفلا عرفت‘ الدعاء
وتعودت ان استجير السماء
نجمة
نجمة
ثم
افقدها في ليالي الشتاء
أنت
ِ تدرين كنا
ننام على السطح في الصيف
والنوم فوق السطوح
مجاورة لطمأنينة الله ! (
المجموعة ، ص 144 )
******************** القصيدة
موجهة إلى امرأة .. ودليلنا هو عبارته " أنت ِ تدرين " وهي للدلالة على عمق
الارتباط بها وحميميته في وقت واحد .. ويؤكد الشاعر بأن هناك أنماطا سلوكية
وعادات ، لم تظهر ، على حين غرة ، في مسرح شخصيته .. فهي من ثم ليست وليدة
اللحظة الراهنة .. أو الظرف .. أو ..........!! . وإنما هي جزء من تركيبته
، إذا شئنا الدقة ، الجينية . فهو مطبوع عليها إذن .. وهذه الأنماط التي
لازمته منذ الطفولة ، جعلته صبيا .. ولكن ليس كالصبيان .. بمعنى آخر ، فأن
تفرده كان منذ بدء تكوينه . ان ما يريد ان يقوله لنا عبد الرزاق ، انه منذ
البدء نشأ مغتربا ... متوحدا و....و...و ....... وما تراه عليه الآن من
صفات قد لا تتفق مع تلك الخصائص ، فأن السبب يعود إلى مكايد الآخر وشراكه
.. والشاهد الوحيد على هذا .. هو هذه التي كانت تنام معه على السطح ..
متجاورين على فراش واحد !!! . خلاصة القول ان عبد الرزاق صوفي منذ النشأة
الأولى .. منذ البواكير الأولى لتلك النشأة .. وان " ذات " الصبي ذات
تأملية .. شاعرة .. مفكرة .. وفوق كل هذا هي حزينة .. لأنها تتوه في هذا
الوجود . الجو النفسي واحد في القصيدتين . لنستكشف ، معا ، معالم ذلك الجو
:- نحصي
النجوم
ونراقب كيف تصير الغيوم
أوجها
.. ورسوم
تختفي ثم تطفو
بينما نحن نغفو
وتهاويلها
في كرانا تعوم
.. غير
أني
كنت
، أبقى أتابع وجه القمر
كم
أطلت السهر تحت
هالته كم
حلمت به زورقا في نهر
وأنا فيه اسبح‘ بين الغيوم
وألم النجوم .. ثم
يصبح ‘ بدرا
أتدرين ؟ (
المجموعة ، ص 145 )
******************* لا
يزال عبد الرزاق مستغرقا في تيهه مع نجوم السماء .. ويذكرنا عبد الرزاق ،
هنا ، عندما يحلم بوجه القمر وان يمتطيه كزورق في نهر ، بالصوفي الكبير (
ابن عربي ) عندما أعلن في أحدى المرات بأنه ينكح النجوم .. الرغبة واحدة .
ولكن فعل التحقيق مختلف . و لا يتوجه الشاعر ( الطفل ) عبد الرزاق ، بحيرته
.. الأ إليها فقط .. تلك التي كانت تنام معه في الفراش !!! . ولكن سرعان ما
تهيمن على الصبي المشاعر الأوديبية بشكل يمكن ان يؤول على هذا النحو .. وفي
المقطع التالي سوف تتكشف لنا رمزية البدر عند الصبي عبد الرزاق
:- كنت
، أخاف ، من البدر
تشعر
، أمي
فتضم
عظامي إليها
وتهمس لي ان أسمَّي ! (
المجموعة ، ص 145 )
************* إذن
هي مشاعر الخوف من البدر .. الأ يمكن ان يكون البدر صورة رمزية بديلة للأب
.. لأن عبد الرزاق عندما هاله ضوء البدر ، سرعان ما خاف وراح يتلوى بين
ذراعي أمه .. والأم بدورها وهي تمارس وظيفتها السلطوية ؛ فتهمس له بأن يسمي
.. لكي ينام .. الأ ان مشاعر الخوف هذه لم تفارقه ... على ما يبدو .. فهي
تعيش بين جوانحه .. في السر والعلن .. وكان الصبي ، من جراء هذا يتلوى من
العذاب والحزن والألم .. . حتى نفذ الصبر .. فكانت نوبة الرعب الكبرى
:- مرة
، في أصيل
راعني وهو يصعد بين النخيل
قانيا كان
،
محتقنا كالقتيل
فارتعبت’ لمنظره في السماء (
المجموعة ، ص 145 )
********************* على
الرغم من ان عبد الرزاق ، يتحدث عن القمر بوصفه كذلك ... أي انه موجود في
الخارج .. هناك .. فأن المواصفات التي جاء بها إلينا لا يمكن ان تكون
منطبقة على القمر بحصر المعنى .. فما معنى عبارته
:- قانيا
كان
محتقنا
كالقتيل
*************** صحيح
، قد يكون منظر القمر ، وهو بهذه الكيفية ، مصدر لرعب الشاعر وفزعه ..
وينبغي ان نضع في الحسبان ، ان عبد الرزاق الطفل .. هو وتلك التي معه في
الفراش .. وبينما كان عبد الرزاق وهو يكتب القصيدة ، فأن صورة القمر وهو في
حالته تلك .. من الممكن ان تكون مصدر رعب لعبد الرزاق الطفل .. ولكنها غير
ممكنة له وهو شاعر يكتب القصيدة ... اللهم ألا ان يكون مصابا بأحدى أنواع
الرهابات أو المخاوف المرضية ، فنمت وترعرعت معه عبر الأيام .. وهو ما يمكن
ان يسمى برهاب الفلك Astrophobia ويقول الخولي في موسوعته عن هذا الرهاب "
ان الأصل في اللفظ هو الخوف من النجوم ، ولكنه يستخدم بمعنى الخوف المرضي
من سائر الظاهرات السمائية مثل النجوم والشهب والبرق والرعد .. (9) . عبد
الرزاق ، على ما يبدو ، يعيش أو يعاني من هذا الرهاب .. وقد يكون لمحتوى
الأيمان الديني ما يعزز مثل هذه الحالة . .. ويرى ( مرسيا الياد ) وهو من
كبار الباحثين في تاريخ الأديان ؛ ان القمر يذكرَّ بالتغير ، بالتحول ،
بالعبور من عالم إلى آخر ، بالاكتمال ، بالنقصان .. و " الصيرورة الدائمة
للأشياء (10) . والقمر في القرآن هو كوكب يوم كامل له أهميته .. ويركز (
غراف دو لا سال ) : ان القمر بالنسبة إلى الشرقيين هو شعار الجمال بامتياز
. ويسهم القمر في عدد كبير من شعائر ما قبل الإسلام .. (11). وقد استعرض (
سيرينج ) رمزية القمر .. حيث تمتد هذه الرمزية لكل ما يسيطر عليه أو يبدو
أنه مسيطرا عليه : المياه ، المطر ، النبات ، الخصوبة ، دورة الطمث ،
وأخيرا الوقت (12) . وفي مجال الأحلام يكون القمر لدى الرجال ، المبدأ
الفعال الأنثوي الداخلي ، النساء الأقوى يحلمن بالقمر ليجدن تعويضا ملطفا
(13) . وفي تقديرنا ووفق ما يسرد عبد الرزاق وكما سوف نرى ، فأنه يرمز إلى
السلطة والرقيب . عبد الرزاق ينام معها في الفراش .. ويتمنى ما يتمنى ..
ولذلك كانت هذه الصورة المتعبة للقمر .. أنه اتجاه عدواني نحوه .. في
المقطع اللاحق ... سوف نكتشف ان هناك خلاف بين عبد الرزاق والقمر
:- عندما
نمت‘ ليلتها
كنت‘
احلم أني أعوم على بركة من دماء
‘منذها
،
وأنا أتجنب أن أتأمله
حين
يغدو بهذا البهاء ! (
المجموعة ، ص 145 )
**************** أيحلم
ببركة من الدماء ؟؟ على الرغم من عدم انسجامها مع رغبة الشاعر الظاهرة ، في
تجنب بهاء القمر .. إنما هو دليل أو إشارة .. على الأقل ، إلى الصراع مع
هذا الرقيب والرغبة الدفينة في قتله .. والعوم في هذه البركة هو رمز
للانتصار في هذه المعركة .. والسباحة في رمزيات الأحلام تعني الوصول إلى
الهدف .. (14) . ألا ان فعل التجنب هذا هو عقاب موجه نحو الذات .. ولذلك
راح الشاعر يمارس آلية تكوين رد الفعل وهي اصطلاح لمدرسة فرويد يعني تكوين
اتجاه وجداني أو سلوكي أو سمة أخلاقية تكون مضادة لاتجاهات مكبوتة في
اللاشعور ، كأن تؤدي ميول عداونية مكبوتة إلى تكوين اتجاهات شعورية عاطفية
نحو الشخص الذي تتجه نحوه الميول العداونية المكبوتة ... (15) . يستمر
الشاعر في سرد عواطفه إزاء القمر . وأرجو ان لا يخونني التخمين أن السؤال
موجه إلى الشاعرة الكبيرة " لميعة " . يقول الشاعر
:- تعلمين
لماذا أحب القمر ؟
دافئا
وحميما أحس به
ورحيما أحس به
رغم
معرفتي انه لا يدوم
ورغم
الذي يعتريني لغيبته من وجوم (
الديوان ، ص 146 )
********************** لا
شك ، في اعتقادي ، ان الولع بالقمر هو نقل مشاعر عبد الرزاق من صورة الأب
وتثبيتها على القمر . أيضا يجب ان لا ننسى ان مرجعية الشاعر الدينية تقبل
بمثل هذا الولع للأجرام السماوية . سنرى مصداقية هذا التأويل عندما نسمع
جواب التي كانت مع الشاعر !! . يقول
:- ستقولين
لي :
والنجوم ؟! قد
تأملتها
وتحملتها
في
ليالي الهموم كنت
احسبها نجمة نجمة
كم
بدت لي بعيدة
! لا
يلاذ بها
... كم
بدت ، رغم كثرتها ، لي وحيدة ! (
الديوان ، ص 146 )
****************************** إذن
فكل السماء هي محط انتباه الاثنين ؛ الشاعر و هي . السماء و ما فيها .
القمر والنجوم والكواكب .. الشهب والنيازك . الطفلان متأثران بالصورة التي
تقدمها لهما مرجعيتهما الدينية عن السماء . الشاعر هنا يتوحد مع النجوم ،
فهو لأنه وحيد فيرى النجوم مثله . قد يكون بعد النجوم عن نظر الشاعر سببا
في إحساسه هذا . كل نجمة مشغولة بضوئها .. مزهوة به . هذا الانشغال جعلها
تبدو وحيدة .. بل حزينة . لا يجد الشاعر هو الآخر سببا لهذه الوحدة . لنسمع
إلى سؤاله
:- لست
ادري لماذا حس النجوم
قطرات
من الضوء ليست سعيدة
! انها
خالدة
أنا
ادري
فستين
عاما تأملتهن
وواحدة واحدة
كن
يرمقنني بعيون من الماس
نائية
باردة ! (
الديوان ، ص 146-147 )
****************** يبدو
ان تأمل النجوم ومراقبتها بلغ حد الهوس عند الشاعر . ففعل التأمل هذا لم
ينتهي بانتهاء رفقة الشاعر معها .. بل امتد إلى ستين سنة . أي طوال العمر .
هل هذا التأمل هو وسيلة لإدامة ذكرياته معها . هكذا نفترض حتى لا ندخل
شاعرنا في دائرة هوس عد النجوم !! . ومع ذلك فهو لا يحس بحميمية العلاقة
معها . فهي ترمقه ، طوال السنين الماضية بعيون نائية .. باردة . القمر ابهى
من النجوم هكذا أخبرته أمه ، فهي على ما يبدو ، سلطة مقدسة لا يعلوها مقدس
. هي منبع المعايير ... هي التي أوحت له بل أقنعته بحب القمر . يقول الشاعر
:- غير
أني عشقت القمر
كانت
أمي تقول له : يا
َحبيب
ْ
وَلدي وجهه لا يغيب
! ومع
الوقت خيل لي انه يستجيب
فعلقت’
به
وكان
بيننا خيط
حب غريب (
الديوان ، ص 147 )
****************************** الأم
هي الأخرى كانت من عاشقات القمر . هذا ليس بغريب . فالأم والابن كلاهما
ينتميان إلى مرجعية دينية واحدة . عشق الابن هو امتداد لعشق الأم . هو أمر
منها .. فكيف يجرؤ على الخروج منه . تبدو ، لنا ، ان مشاعر عبد الرزاق
متناقضة بعض الشيء ، كانت مشاعره في الماضي مجرد إعجاب لا غير بل ربما كان
نوعا من القناع .. يخفي وراءه جانب من العدوان . ولكن تدخل الأم غير مجرى
الأحداث ، فكانت نتيجة ذلك حدوث تغيير في مشاعره إزاء القمر .. الأب ..
الله ... المعلم .. الكاهن .. وكل الرموز التي تدخل في هذه الدائرة . فكان
التصالح وعاد الابن إلى أحضان أبيه .. على الأقل على مستوى الذاكرة .
وينبغي ان نشير إلى ان هناك ... وراء خيط الحب هذا نزاعا لا ينتهي في مشاعر
عبد الرزاق . فهو يستخدم مفردة : " ’خيل لي " . هذه المفردة تدل على معاناة
مضنية جثمت على قلب الشاعر . هل يستجيب هذا الذي تقول أمي عنه : " يا َحبيب
" هذه المفردة تستخدم للتدليل في بيئة الشاعر ... بيئة جنوب العراق ...
العمارة .. عبد الرزاق هنا دقيق في التعبير عن هذه المعاناة . انه يستخدم
عبارة " مع الوقت " للدلالة على هيمنة وسطوة رغبة الأم في ان يكون للأب
حضور في شعور عبد الرزاق . وبالفعل تم ما أرادت . بدأ يقتنع أنه كما تصوره
هذه السلطة المقدسة . على وجه أدق بدأ يقنع نفسه بذلك . ولذلك لا نستغرب ،
البتة ، من استعمال الشاعر لعبارة " وكان بيننا خيط حب غريب " هذه العبارة
منسجمة تماما مع الكراهية المستديمة الغاطسة في لا شعور الشاعر لهذا الذي
تدعوه ، السلطة المقدسة " يا َحبيب " . سنرى الشاعر عبد الرزاق في قصيدة "
في نهايات الأربعين " يبدي انشغالا في المستقبل ويبدو ان هذه القصيدة هي
بمثابة مراجعة لذات . ومحاولة تحديد هويتها أو موقعها من حركة الزمن أو
حركة التاريخ . لنقرأ البيت الأول منها :- مضى
ما مضى منك خيرا وشر وظل الذي ظل طي القدر
وأنت ،َعلى كــل مــا يزدهيك كثير التشكي ، كثير
الضجر
كــأنك َ فـــي خيـــمة الأربعيـــن تخلـــع’ أوتادهـــا
للســــفر
وتجمـــع للــــدرب زاد المقـــل كفـاف المنى، وطويـل
السهر (
الديوان ،
ص 148 )
************************ وللأسف
فالقصيدة غير مؤرخة . ولكن .. واضح ان الشاعر عبد الرزاق كان يعني فيها
مسيرته في الحياة بعد ان قارب نهاية الأربعينات من العمر . وهو يواجه ذاته
بالسؤال عن الذي مضى والذي لم يمض بعد . وهو يريد ، وفق تقديرنا ، ان يجري
حسابا مع الذات لكي يعرف إلى أين سوف تنتهي به الأمور . ويبدو انه منذ ذلك
الوقت وهو يحاسب ذاته أقسى الحساب . وهو أيضا يصور لنا مستقبله انه على سفر
... وعلى وجه التحديد هو هروب من !!! . والخوف من الوقوع في الأسر . يقول
في هذا المعنى :- على
ان في قلبك َ المستفز جــــناحا يغالب ان
يؤتسر
وفيك َ ، وإن لم تفه صيحة يطـــول مداهـــا ولا يختصر (
الديوان ، ص 148 )
***************** إذن
هذا هو قلب عبد الرزاق في هذه الفترة من العمر . ان في قلبه جناحا لا يريد
ان يكون مأسورا في قفص .. حتى ولو كان من ذهب . ان في فمه ، وأن لم يبح ،
صيحة احتجاج وتمرد لها هذا الطول من المدى . نعم هذا هو عبد الرزاق وهذه هي
عذاباته . يصور لنا الشاعر تلك العذابات على النحو الآتي :-
وأنت َ تعاصــي وغيم الســـنين عليك لأمطاره مــــــنهمر ’
وكـــم ذا تكابر والأربعــــــون ذرى كـــل مــا بعدها منحدر’ (
الديوان ، ص 149 )
******************* إذن
هي المكابرة وسيلة اتخذها الشاعر ضد ضغوط الزمن . انه لا يبالي ، على الرغم
من كل ما لاقاه .. انه الآن يتجه نحو الانحدار . العمر رسم بياني يبدأ
بنقطة ويعلو أي ينضج ثم يبدأ بالعد التنازلي حتى الدقائق الأخيرة من ذلك
العمر . قد يقول احدهم . ان المخاطب هنا ليس الشاعر بل ربما يقصد شخص آخر .
مهما يكن فأن العذابات الموصوفة ، هنا ، تنطبق على الجميع . لكنه في بيت
تالي يصف لنا حالته النفسية على انه الاشقى من البشر :-
وانــــك يـــا أقلقَ المتعبـــين ’ترى خال البــــال حد البطر
(
الديوان ، ص 149 )
********************* الصورة
عن عبد الرزاق غير منتظمة ما بين الواقع وما بين الحقيقة . الآخرون ينظرون
إلى عبد الرزاق ، وفق ما يظهر أو ما يبدو ، على انه خالي البال .. انه
ممتلئ حتى التخمة من البطر .. ماذا يريد هذا الرجل بعد ... انه يملك ما
يملك والحظ يأتيه ما يشاء .. فماذا يريد بعد ؟؟ . لكن عبدالرزاق ، من
الداخل هو المتعب الوحيد في التاريخ . علينا ان لا ننسى ان الشاعر استخدم
مفردة ( اقلق ) للدلالة على فرادة ووحدانية القلق لديه . هذا شيئ مؤكد لأنه
، وفي هذا الإطار ، لا يرى متاعب الآخرين ، لأنه قد عزل نفسه عنهم . انه
الآن في برج عاجي .. لا يرى غير متاعبه وهمومه . ولذلك فهو يبدو لنفسه على
هذه الصورة التي أشار إليها ... أنه الأقلق من بين البشر . ولكنه مع ذلك
فهو :-
وأنك َ تضحـــك’ للمبكـــــيات وانك َ تصفو برغم الكـــدر (
الديوان ، ص 150 )
*********************** هنا
نرى دراما السلوك واضحة لديه ... أو قل هكذا يفهم من سلوكه مع الآخرين وفي
هذا المعنى يقول عبدالرزاق
:- ومــــاذا
ســـوى هــذه البــارقات َيـرى منــــــكَ إذ يلتقيـــك َ
البشـــر؟ (
الديوان ،
ص
150 ) انه
هذه البارقات التي يظهرها للآخر عند اللقاء ، ولكنه يخفي ما يخفي . يقول
فــيا
’حــرقة’ مـــا لهـــا ’منــتهى ويـــا قلقـــا مـــا لـــه ’مســتقر (
الديوان ،
ص 155 )
**************** ويصل
به اليأس حتى الثماله حتى يصاب ، حاله حال الكثير من الذين سايروا الواقع
رغم أنوفهم حتى انهم اتهموا بالجنون . وعبدالرزاق يعبر عن هذه المحنة من
خلال هذا البيت من القصيدة التي توقفنا ، وهي طويلة ، عند بعض أبيتها والتي
رأينا فيها أوج المحنة التي عاشها الشاعر ، حيث يقول :-
بلـى عــبرة كنــتَ حـتى الجنون تــــــناهى ولا ما نهـــتك َ العبر
(
الديوان ، 153 )
******************** المهم
، عندنا ، ان الشاعر كان يخفي ألما جوانيا ، على ما يبدو ، لا يطاق . وسوف
أقف عند مقطع من قصيدة جميلة عنوانها ( هارب من متحف الآثار ) والتي ،
اعتقد ان بطلها هو الشاعر نفسه ، وهو يستخدم الزمن الطويل ليشير على تأزم
وتجذر المعاناة والهموم لديه . والمقطع الذي سوف اقتطعه يعبر عن هذا المعنى
. يقول عبد الرزاق
:- كان
درعا لخمسة آلاف عام
تآكل
من فرط ما صدئت فوقه الأعين
استنزفت
خوفها
أنشبته’
بمرمره أرضة
أنفذت
كل عين إلى عريه ألف عين تنقب
خمسة
آلاف عام ... تشظى
به اللحم والدم
ضجت
قرارته
’ اشتعل
الغيظ في قاعها
كان
درعا إذن
. . سار
نحو زجاجته
لن
يبقي شيئا
و
لا أثرا منه فيها
.. تذكر
أشياءه
العري
والموت
ألقى
على كتفه عريه السرمدي
تأبط
موته
تهادى
بهيبة خمسة آلاف عام ترابي
استيقظت
كل أعمدة النور
دارت
مصاريع كل النوافذ
سالت
عيونا
تخطى (
الديوان ، 160- 161 )
**************** اعتقد
ان الشاعر كان يعاني خمسين سنة وهذا الزمن استحال عند عبد الرزاق إلى هذا
الزمن الطويل الذي شبهه بهذا الرجل المرمري ، إذا شئنا استخدام تعبير
الشاعر نفسه . ان تمثال المتحف رجل يقاوم ركام الزمن . ها هو عبدالرزاق هو
الآخر يعيش نفس المحنة التي عاشها ذلك التمثال الذي سار نحو زجاجته التي مل
منها كل هذه الأعوام ليهادى بهيبة ويتخطى ويغادر زجاجته . تلك هي نهايته .
سؤالنا هو هل الرياح التي خارج الزجاجة نفضت من ركام الزمن أم كسرت ذلك
الهيكل الذي قابعا في الزجاجة لمدة خمسة آلاف عام ؟؟؟
. الهوامش
:- 1-
د. الأنصاري ، بدر محمد ، 2002 ، مقاييس الشخصية ، دار الكتاب الحديث ،
الكويت ، ص 124 . 2-
د. الأنصاري ، المرجع السابق ، نفس الصفحة . 3-
عبد الواحد ، عبد الرزاق ، 2006 ، في مواسم التعب ، مجموعة شعرية ، منشورات
اتحاد الكتاب العرب ، دمشق ، سورية . 4-
أفضل مرجع في الاغتراب هو كتاب ريتشارد شاخت الذي يحمل نفس العنوان والذي
قام بترجمته ؛ كامل يوسف حسين والصادر من المؤسسة العربية للدراسات والنشر
عام 1980 . 5-
بهنام ، شوقي يوسف ،2008 ، عصفور ادونيس ، موقع الندوة العربية للشعر على
الانترنيت . 6-
د. النابلسي ، شاكر ، 1992 ، قامات النخيل ؛ دراسة في شعر سعدي يوسف ، دار
المناهل ، بيروت ، لبنان . 7-
بهنام ، شوقي يوسف ، 2006 ، هناك تقارب في بنية الصورة عند عبد الرزاق و
أدونيس راجع ، دموع الشاهد .. أو مأساة الحسين كما يراها أدونيس ، موقع
الندوة العربية للشعر على الانترنيت . 8-
بهنام ، شوقي يوسف ، 2006 ، المصدر السابق . 9-
د. الخولي ، وليم ، 1976 ، الموسوعة المختصرة في علم النفس والطب العقلي ،
دار المعارف ، القاهرة ، مصر ، ص 57 . 10-
شبل ، مالك ، 2000 ، معجم الرموز الإسلامية ، ترجمة : أنطوان إ . الهاشم ،
دار الجيل ، بيروت ، لبنان ، ص 258 . 11-
شبل ، المصدر السابق ، ص 259 . 12
- سيرنج ، فيليب ، 1992 ، الرموز في الفن ـ الأديان ـ الحياة ، ترجمة : عبد
الهادي عباس ، دار دمشق ، سورية ، ص 382 . 13-
كورت ، هانس ، قاموس تفسير الأحلام ، ترجمة : د. أنطوان الحمصي ، دا الفاضل
، دمشق ، سورية ، ص 363 . 14-
كورت ، نفس المصدر السابق ، ص 241 . 15
– د. الحفني ، عبد المنعم ، 1987 ، موسوعة علم النفس والتحليل النفسي ، دار
العودة ، بيروت ، لبنان ، ج2 ص 207 .
e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com
e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com
Comments 发表评论
Commentaires تعليقات |
|
|
|