ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

حسن فتح الباب .. علي سلم من هشيم الرياح
د‏.‏ صلاح فضل - مصر

 

شاعر مخضرم دؤوب‏,‏ استهل مشروعه الشعري في غمرة الموجة الأولي لرواد شعراء التفعيلة‏,‏ أو ما كان يسمي بالشعر الحر في خمسينيات القرن الماضي‏,‏ وكان عمله ضابط شرطة‏-‏ وهو شاعر‏-‏ سببا في زعزعة الثقة به بين رفاقه من أصحاب السلطة من جانب‏,‏ وزملاء الإبداع اليساريين من جانب آخر‏.‏ لم تنجه دراسة القانون والحصول علي درجة الدكتوراه فيه من لعنة الأدب‏,‏ وإن كانت قد سمحت له بالعمل أستاذا في الجامعات الجزائرية عندما آثر المهجر العربي ردحا من الزمان‏.‏

وما زال ينشر وقد تجاوز العقد الثامن من عمره شعرا متدفقا مفعما بالنضج‏.‏ أصدر مؤخرا ديوانه الثامن عشرعلي سلم من هشيم الرياح مبرزا فتوته الفنية‏,‏ ونضرته التعبيرية‏,‏ وقدرته علي تكثيف تجربته في كلمات تقطر بالحكمة‏,‏ وإن كانت تحترق في وهج الشواغل السياسية المؤرقة‏;‏ دون أن تتخذ المسافة الجمالية اللازمة للتأمل والتجاوز‏.‏ يطالعنا في قصيدته الأولي بمساءلة يتجه فيها إلي نفسه وإلي قارئه معا ليثير شجونه قائلا‏:‏ ما الذي تشتهي‏/‏ بين عامين‏:‏ ماض وآت؟

لم يعد غير ذكري متاع قليل‏/‏ متاع الشتات‏.‏
أمنيات‏,‏ لقاء قصير‏/‏ لقاء أخير‏..‏
أم تري أنت مستيقن‏/‏ أن أخراك عما قريب
مع التائه المستجير بنا‏/‏ من العالم الوثني المريب

والردي المستجيب‏.‏
أم أنت باق لتشهد عود الجحيم‏/‏ تفجره القرية الظالمة‏.‏
ذلك العالم المستخف بنا‏/‏ ثم ترثي الذي ضيع الأقربون
ومع أن هذه القصيدة قد كتبت عقب أحداث سبتمبر الشهيرة في العام الأول من القرن الجديد‏,‏ فقد تنبأت بما ستفعله القرية العظمي الظالمة في الوطن العربي من العراق إلي فلسطين‏,‏

وما يفعله العالم المستخف بنا منذ ذلك الحين‏;‏ وإن لم تكن قد أثارت‏?‏ بطريقة الشعر الرمزية‏-‏ التساؤلات ذاتها عن دورنا في استجلاب هذا المصير‏,‏ وتواطؤ الحكام معه‏,‏ إلا بما ضيع الأقربون منا‏,‏ واقترفه السفهاء باسمنا رغما عنا‏.‏ إذ لم تبلور رؤية عميقة لجذور مشكلاتنا مع الآخر التي تبدأ بمسئوليتنا في تنوير مجتمعاتنا‏,‏

وتنمية وعينا بمتغيرات الحياة وطرائق استكمال القوة‏,‏ بإطلاق الحرية في العلم والحياة‏,‏ إسهاما خلاقا في صنع حضارة الإنسان‏.‏

ولنقرأ المقطعين اللذين يتصلان بأكبر شاغلين للإنسان العربي اليوم‏,‏ يقول أولهما‏:‏

ما الذي تشتهي‏/‏ بين عامين‏:‏ ماض وآت؟
دماء الحسين تخضب عائدة كربلاء
زينب بين السبايا تئن‏/‏ ولا تنحني‏..‏ دمعها كبرياء
ولا ترتضي صرخة للإماء‏/‏ وتبكي عليها السماء
وتبكي صباحاتها والمساء‏/‏ وسبط النبي علي صدرها

تنازعه خدم الفاسقين‏/‏ وتلهو به كالدمي
ويضحك مما افتراه يزيد‏/‏ وفي كفه زرد من حديد
يعبث به في الجبين النضير‏/‏ وفي مقلتي سيد الشهداء

وإذا تذكرنا أن هذه الأبيات قد كتبت قبل غزو العراق الذي مضت عليه ثلاث سنوات‏,‏ استطعنا أن نتصور معادل رموزها التاريخية من الضحايا والجلادين‏,‏ وأدركنا تحولات السياسة السريعة وخطورة التثبيت التمثيلي لعناصرها الفاعلة‏,‏ خاصة بتوظيف الحس الديني السريع الاشتعال‏,‏ فإذا كان صدام حينئذ هو المقابل ليزيد العابث المستهتر بجبين سيد الشهداء فماذا يدخر الشعر ليقوله عن الغزاة البرابرة وعن القوي المدمرة لكيان الشعب العراقي في حروبه الأهلية والطائفية والإرهابية‏.‏

هذه هي خطورة المباشرة السياسية والتوظيف التراثي لأطرافها‏.‏ أما الوضع الفلسطيني فهو أقل تسارعا في تحولاته مما صوره الشاعر بقوله‏:‏
ما الذي تشتهي‏/‏ فلسطين تحمل أغلالها
ويبكي علي كتفيها الصليب
ويحني الصنوبر والغار أغصانه‏/‏ كي يمر الشهيد

طريق العذابات يبكي ويدمي
بلحم يسوع صريعا‏/‏ ومريم تبكي
يهوذا تطارد غربانه طيرها
تحاصر بستانها‏/‏ وتفزعها بالنعيب

غير أن ما يتهدد هذا الشعر السياسي الذي تتقلص فيه المسافة بين الجمالي وتمثيل الواقع هو أحادية المعني التي لا تسمح بثراء الدلالة الشعرية في قراءة متتالية‏,‏ وإن كان يشبع حاجتنا الوجدانية إلي التعبير المتوهج عن أوجاعنا‏,‏ شرط النفاذ إلي رؤية المستقبل‏.‏

توازن الإيقاع
لا يزال شعر التفعيلة يمثل الوسط الذهبي في تراوح القصيدة العربية بين الطرف العمودي المتجمد علي التقاليد الموسيقية الموروثة‏,‏ والطرف النثري المتحرر من شروط الوزن والتقفية‏,‏ ففي التفعيلة حرية منوعة ومجال مفتوح للإشباع الموسيقي المتجدد‏.‏ وحسن فتح الباب يمارس باقتدار توظيف هذا التوازن الإيقاعي في قصائده ومقطوعاته‏,‏ فتنعقد بينه وبين قرائه مواثيق تواصل جمالي منعش وأليف‏,‏ تمتد إلي نسق التراكيب الداخلية لجملة الشعرية‏,‏

يقول مثلا في قصيدتهحلم مستثيرا طيف الشاعر العربي الأولامرؤ القيس‏:‏
الشاعر الضليل لم يكن مغامرا‏/‏ يخبط في التيه بلا دليل

يرتاد وادي المستحيل‏.‏
كان يجوب في الغدو صارخا‏/‏ من لي بحقي في الحياة؟
وفي العشي يطرق الغمام
محلقا‏,‏ محدثا مجرة الأفلاك هامسا‏:‏

أيتها النجوم‏,‏ أيها القمر‏/‏ هل تأذنون لي بفسحة في الفضاء
كي أبيت مرة بلا أرق؟
من لي بعالم توحدت به السماء‏/‏ والأرض‏:‏ قبضة من التراب
وملء كأسين من الضياء‏/‏ من لي بعالم بلا دماء‏!‏

علي أن توازن هذه المقطوعة التي تنشد التناغم في حركة الكون كله لا يقتصر علي علاقات الأشطار والجمل الشعرية المضبوطة طبقا لحاجات التعبير دون إكراه بالبتر أو التمديد‏,‏ كما لا يقتصر علي استجابات أصداء القوافي الداخلية بين الدليل والمستحيل أولا‏,‏ ثم انطلاقات المد والهمزة في الفضاء والسماء‏,‏ والضياء والدماء بعد ذلك‏,‏ وإنما بهذا التوافق والتقابل اللافت بين الضلال والخبط في التيه‏,‏ بين الصراخ والهمس‏,‏ والغدو والعشي‏,‏

بين مراعاة النجوم التي طالما تطلع إليها الشاعر الجاهلي في أرقه

وتوحد الأرض بعالم يسوده الحب والسلام‏.‏ هذا الاتساق المبني علي تشاكل الأضداد يسري في تراكيب اللغة بنور شعري وضيء يمثل روح الموسيقي الداخلية وهي تعانق الإيقاع اللحني الظاهر للأبيات‏,‏ مما يجعل الصوت كما يقال صدي للمعني‏,‏ والدلالة الكلية محصلة للجمال الشعري الفتان‏.‏

سلم الهشيم
لكن ثمن هذا الوضوح الجلي في التعبير عن تجارب مستأنسة أليفة في الشعر هو هشاشة مادته بقدر افتقاده لنسبة ضرورية من الإبهام الخلاق الذي تتولد في رحمه روعة الشعر المدهشة‏;‏ إذ يحتاج في مستوياته العليا لاختراقات مغامرة تكسر حدود الكلام بحثا عن دلالات لم تكتشف وإيقاعات لم تتشكل من قبل‏,‏ وأحسب أن عمليات التهجين بين الفنون المختلفة وتجاوز الحدود بين المجالات المعرفية من العلوم الطبيعية والإنسانية تمثل سبيلا حقيقيا لمثل هذه المغامرات التي يتشكل

بها قوام الشعر المحدث كي يبرأ من تبعات هذه الوسطية المكرورة المحببة لدي القارئ العادي‏.‏ بل أظن أن القرب الشديد من منظور هذا القارئ الصحفي المعتاد قد يفضي بالشاعر إلي اتخاذ مواقف إشكالية ينبغي له الإفلات من وطأتها‏,‏ مثلما نجد عند حسن فتح الباب في قصيدته المثيرة للجدل عنقمر قندهار فقد يتوهم بعض القراء أنه يتغزل فيها بشخصية رمز الإرهاب المشوه لصورة الإسلام‏,‏ نكاية في عدوانيةالبيت الأسود كما يسميه‏,‏

دون أن يلاحظ أن هذه الموجات الظلامية المدمرة لا يمكن أن تمثل طريقا لشروق شمس الحرية والديموقراطية والتقدم في أوطاننا‏.‏ وإذا كان شاعرنا‏?‏ بحكم منطق جيله‏-‏ ما زال مشدودا إلي الصراع بأشكاله التي عهدناها من قبل فإنه لا يستطيع أن يتخلص من حيرته التي تتركه علي الأعراف بين الجنة والنار‏,‏ حتي وهو يستعير عنوان رواياتهمنجواي الشهيرة‏,‏ مثللمن تدق الأجراس و الشمس تشرق من جديد التي يقول فيها‏:‏
لا أنت ترتحلين عن أفقي القديم‏/‏ ولا أنا أهفو إلي شط جديد
من بعد أن غال السراب‏/‏ نبع الضفاف وغامت الرؤيا

ما زلت تجترحين أحلام الفراشة‏/‏ تهبطين وتصعدين
أرجوحة فوق السنين‏/‏ ما زلت في مرح الطفولة
أم ترانيم الأمومة‏,‏ أم تباريح الكهولة
أم تراك عرفت ثم سئمت‏/‏ فاخترت المقام علي ربي الأعراف
لا أطياف‏,‏ لا أشباح‏/‏ لا جنة أو نار

ومثلما كان يخاطبنا إذ يخاطب نفسه في القصيدة الأولي من سلم شعره الطائر في هشيم الرياح‏,‏ فهو يوشك أن يخاطب صاحبته وقصيدته معا وهما يقفان علي شاطئ الأعراف لا يستطيعان العودة إلي الأفق القديم ولا تنجلي لهما رؤية إشراقة الغد في عالم حقيقي وشعري جديد‏.‏

 

(نقلاً عن الأهرام)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا