إنقاذ اللغة.. إنقاذ
الهوية
فاروق
شوشة - مصر
يستشهد الناقد الشاعر
أستاذ الأدب المقارن الدكتور أحمد درويش في كتابه الجديد الذي يحمل هذا العنوان
الدال: إنقاذ اللغة.. إنقاذ الهوية بكلمات من قصيدة جميلة للشاعر الصقلي
إجنازيا بوتينا عنوانها لغة وحوار يقول فيها:
ضع شعبا في السلاسل
جردهم من ملابسهم
سد أفواههم..
لكنهم مازالوا أحرارا!
خذ منهم أعمالهم
وجوازات سفرهم
والموائد التي يأكلون عليها
والأسرة التي ينامون عليها
لكنهم مازالوا أغنياء!
إن الشعب يفتقر ويستعبد
عندما يسلب اللسان
الذي تركه له الأجداد
وعندها يضيع للأبد!
والكتاب ـ في جوهره ـ صرخة واعية, مدعمة بالحجج والأسانيد, يطلقها مثقف غيور
علي لغته وثقافته وهويته, ودور أمته الحضارة في خضم هذا المنعطف أو المأزق
التاريخي الراهن. فهو يري أن الهويةالعربية تمر في عصرنا بأزمة طاحنة, وهي أزمة
إذا لم يتم تداركها قادت الأمة إلي تشويه ماضيها, والتشكيك في جدوي حاضرها,
وإشاعة اليأس من محاولة بناء مستقبلها, ومن ثم إلي تفكيك بنيانها الحضاري.
وهو يري أن اللغة معول مهم في يد من يحاول هدم هذه الهوية, وهي كذلك أداة بناء
فاعلة في يد من يحاول المحافظة عليها. وهو محق في طرح هذه التساؤلات: ألم يساعد
إحياء اللغة العبرية الحديثة أبناءها علي التجمع من شتاتهم وبناء دولتهم؟ ألم يساعد
التخطيط العلمي الجيد لحركة الفرانكوفونية علي بقاء نفوذ الثقافة الفرنسية في
العالم بعد انحلال امبراطوريتها السياسية؟ وهل يمكن توطين المعرفة في أمة بغير
لغتها القومية؟
وهل العربية لغة جامدة تستعصي علي وسائل إصلاح تعليمها وتقصر عن تلبية احتياجات
العصر؟
وإلي أي مدي يقودنا الطريق الخطر الذي نسلكه في اتجاه التغريب بدلا من التعريب
الكتاب خطوة متقدمة في الإجابة الموضوعية علي هذه التساؤلات: إجابة تفيد من
خبراته ومعارفه وثقافاته, وانطلاقه من العربية إلي الفرنسية ومن الفرنسية إلي
العربية, وتنقله الدائم في أودية اللغة والإبداع قارئا ومترجما ومعلما وكاتبا,
معلنا عن مداخله الواضحة, المتمثلة في طرح قضايا التراث العريق واللغة المتجددة
وفخ القطيعة مع الماضي, وتحديد أبعاد المشكلة اللغوية, واللغة والدين,
والعربية لغة متطورة,
واللغة القومية وتوطين العلم, ومخاطر الجمود في تعليم اللغة, والفصل بين
المستويات
مستشهدا بنماذج من كتابات العصور المختلفة لبعض أصحاب الأساليب: من بينهم:
أبوحيان التوحيدي والجبرتي ورجاء النقاش وفهمي هويدي وسلامة أحمد سلامة وأحمد رجب
وغيرهم. هذه المداخل تمثل ثورة فكرية علي من يصرون علي اختصار اللغة والبحث
اللغوي في النحو والصرف, واختصار النحو في الإعراب, وتجريد اللغة من جوهرها
الثقافي والمعرفي, وجعلها وعاء فارغا بلا محتوي, واللغة أخطر من أن تترك لعلماء
النحو وأساتذته وحدهم, وأكبر من أن تحصر في هذا الاطار الضيق الذي لا يتناول
الغايات والوسائل ومستويات اللغة: فصحي وعامية, واللغة والعلم, واللغة في عصر
العولمة.
الكتاب الصغير الحجم(162 صفحة من القطع الصغير) الكبير القيمة والمحتوي,
الواضح الهدف والرسالة, والصادر عن دار نهضة مصر, يتناول قضية تطوير اللغة
العربية بعيدا عن الإطار التقليدي الذي لم نتجاوزه منذ سنوات طويلة, وكأننا نغوص
في دوامة من الرمال. ولأن منطلقات الدكتور أحمد درويش لا يثقلها تعصب أو تحيز أو
نقص في الخبرة والأدوات, فقد نادي بأعلي صوته في ختام كتابه بألا تكون دعواتنا
لإصلاح اللغة عشوائية, وألا نضيق خلال طرحها بالآراء المخالفة
ما دمنا جميعا نتوخي المحافظة عليها وتطويعها لمتطلبات العصر, كما نادي بالعمل
علي إعادة تقوية الشبكة الخارجية للغة التي كانت تمثل أجنحتها الوسيلة الضرورية
اللازمة للتحليق والانطلاق. ويمكن أن يتم ذلك في شكل التخطيط لتعاون ثقافي أشد
متانة وأكثر اتساعا مع اللغات التي تكتب بحروف عربية, مثل اللغة الفارسية واللغة
الأردية وهما تمتدان عبر مناطق شاسعة في إيران وأفغانستان والهند وباكستان. ويمكن
لهذا التخطيط ألا يكتفي بتوثيق روابط الماضي, إنما يطمح إلي التخطيط لمتطلبات
الحاضر والمستقبل في ظل صراع الحروف وفك الشفرات علي شاشات أجهزة الاتصالات, وهو
صراع يقول عنه خبراء اللغات: إن اللغة العربية يمكن أن يكون لها فيه قدم راسخة
ويد مؤثرة.
لكن أخطر ما يدعو إليه الكتاب هو مناداة المؤلف في سطوره الأخيرة بالعمل علي إعادة
الحياة الحقيقية للغة, داخل مجالها القومي, من خلال تفعيلها الحقيقي في الحياة
الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والإعلامية, وكل تلك مجالات تنعش
اللغة, وتعمل علي زيادة كفاءة رئتيها في تصفية الهواء, وانعكاس مردوده علي الدم
نقاء وجريانا وعلي الجسد صحة وانتعاشا.
فالمحافظة علي اللغة والتمسك بها لا يتعارضان أبدا مع فتح باب الحوار والنقد علي
مصراعيه, بشرط أن يكون قائما علي أسس علمية, من شأنها أن تهب اللغة مزيدا من
التماسك, وتجنب نقاط الضعف والهبوط والتدني, فنجمع إلي عراقة التراث وحيوية
التطور والأمل في المستقبل الواعد للغة والشخصية القومية معا.
بهذا يقول الدكتور أحمد درويش, فهل يمكننا أن نكون معه علي قلب رجل واحد, يري
في إنقاذ لغته إنقاذا لهويته!
(نقلاً عن الأهرام 12/2/2006)
|