Closed Gate
عن الشاعر راسلنا صوت الشعر لقاءات قراءات نقدية قصة  مقالات أدبية شعر

شرق القصيدة.. (م)شرق الذات

قراءة في ديوان "بين انكسار الحلم و الأمل" لسيّد جودة 
بنعيسى بوحمالة - المغرب

ندوة - هونج كونج - 23 يناير 2010

ينتسب الشاعر المصري سيّد جودة إلى شريحة واسعة، نسبيا، من الشعراء العرب المعاصرين الذين تتوزّعهم أركان الأرض الأربعة بأثر من دافعيّات سياسية أو عقديّة أو مهنية أو ثقافية أو أكاديمية..؛ و إذا كانت الموجة الأولى، الجدّ مبكرّة، من أدب الهجرة العربي، و التي شهدتها نهايات القرن التاسع عشر و مطالع القرن العشرين، قد تمركزت في الأمريكيتين و أثمرت ما صار يتواطأ عليه، في الأدبيات النقدية و الثقافية العربية و الاستشراقية، بأدب المهجر الشمالي و الجنوبي، فإن تمخّضات الحياة العربية و اعتمالاتها المتراكبة في غضون العقود الأخيرة لسوف تسفر عن موجات أخرى لاحقة من آداب عربية مهجرية نهضت بها أجيال جديدة شاء لها مآلها أن تصوّب وجهتها أكثر ناحية القارة الأروبية ريثما يأخذ في التشكّل و التنّامي أدب عربي مهجري مواكب بدأ يأتينا، و إن لماما، من أقاصي شرق الكرة الأرضية، من آسيا و المحيط الهادي، و تحديدا من اليابان و كوريا و الصين و هونغ كونغ و أوستراليا و نيوزيلاندة..؛ يمسك بزمامه شعراء عرب اقتحموا تلك الآفاق الجغرافية و المجتمعية و الثقافية البكر و وطّنوا مخيّلاتهم على تدوين انفعالاتهم الكيانية و خبراتهم الوجودية في تلك الآفاق فكان أن غنمت المدوّنة الشعرية العربية إضافات إبداعية، على ندرتها، لا تني تنبّه المتتبّعين و القرّاء إلى الدور التاريخي الفاعل لأولئك الشعراء، مصريين و عراقيين و سوريين..؛ بدرجة أولى، في تعضيد الحضور الشعري العربي هناك و اقتطاع اللغة العربية، بالتالي، لحيّزها الدالّ، رغما من ضآلته، في المتن الشامل للشعريات الراهنة المتداولة في أقاصي شرق الكرة الأرضية.

و في هذا المضمار خليق بنا أن نلمع إلى تجربة الشاعر المصري سيّد جودة، المقيم في هونغ كونغ، و الذي لم ينسه إتقانه للغة الصينية، على سبيل المثال، صيانة حبل السرّة الرمزي الذي يربطه بلغته الأمّ، و تمرير انفعالاته الكيانية و خبراته الوجودية في مستقرّه الجديد باللغة العربية مستدرجا، هكذا، القرّاء العرب إلى صميم تجربة شعرية مخصوصة تنكتب من موقع التّنائي، بعيدا عن العالم العربي بمسافة لا يستهان بها.

و بخصوص الشاعر دائما فقد ولد بالقاهرة عام 1968. تخرج من كلية الألسن، قسم اللغة الصينية، عام 1990، و انتقل للإقامة في هونغ كونغ منذ عام 1992. بالإضافة إلى مشاغله الأكاديمية فهو ينشط في المجال الثقافي العام، من ذلك تنظيمه لندوة شعرية شهرية في هونغ كونغ باسم "الندوة العربية" لقراءة الشعر و مناقشته بأكثر من لغة، كالعربية و الصينية و الإنجليزية و الإسبانية..، كما يدير موقعا شعريا على الشبكة العنكبوتية. أيضا مشاركاته في ندوة شعرية بمعرض الكتاب الدولي في هونغ كونغ عام 2004، و معرض مان هونغ كونغ الأدبي الدولي عام 2005، و في مهرجان شعري عالمي بالصين خلال نفس العام. نظّم رحلة أدبية لشعراء من هونغ كونغ إلى مصر أقيمت ضمنها ندوتان شعريتان و معرض للرّسومات الزيتية و الصور الفوتوغرافية في محترف القاهرة بالاشتراك مع شعراء و فنّانين مصريين. ترجم منتخبات من الشعر الصيني، إمّا عن الصينية أو الإنجليزية، نشرتها أسبوعية "أخبار الأدب" القاهرية في ثلاثة أعداد، و الشاعر الآن بصدد إصدار هذه الترجمة في كتاب خاص. فاز عام 1990 بجائزة الشعر الأولى في كلية الألسن و أصدر، في نفس العام، ديوانه الأول "دخان الحبّ" عن دار المشرق العربي، متبعا إياه بديوان "تساؤلات كاساندرا الحرينة" عن دار ميريت عام 2005، فديوانه الثالث "بين انكسار الحلم و الأمل" عن دار سنابل في العام ذاته، و ذلك في انتظار أن تطلع علينا دار نشر بريطانية بهونغ كونغ عام 2009 بروايته المكتوبة بالإنجليزية و الموسومة ب "كان يا ما كان في القاهرة".

عن الديوان الأخير، موضع مقاربتنا هاته، فقد جاء في حوالي خمسة و تسعين صفحة من القطع المتوسط ضّاما ما يفوق الثلاثين قصيدة، تتراوح في مساحاتها النصيّة بين الطويلة و القصيرة، الجدّ طويلة و الجدّ قصيرة، و ذلك توافقا مع ما يستتبعه النّفس الشعري من تمدّد أو تقلّص، و كذا ما يقتضيه الموضوع الشعري من موارد و إسنادات معجمية و تركيبية و دلالية و تخييلية. هذه القصائد هي التالية: "أسراب الطيور"، "الأقنعة"، "العمامة"، "هل يرقّ القدر ؟ "، "إلى دمعتي"، "بين انكسار الحلم و الأمل"، التي ينسحب عنوانها على الديوان برمّته، "حين انكسر الميزان"، " إليك السلام"، "ضباب"، "وداع"، "لوحات من هونغ كونغ"، "أما كنت تدري ؟ "، "من مذكرات شابّ شرقي"، "دوائر بيض"، "طيف الوطن"، "بعث"، "شذاها"، "ميّادة"، "كل يوم"، "فرعون و الحيّة"، "معذرة"، "أذوب عشقا"، "إجازة"، "أعطيني عذرا"، "مطر الحياة"، "أين نلتقي ؟ "، "ذكراك"، "لكني أصعد"، "لا عليك"، "في غير أيكي"، "الحرباء"، "الثّواني الأخيرة".

هذا و إذا كان قد عنّ لنظر الشاعر، أو الناشر لا فرق، أن يؤثّث وجه غلاف الديوان بلوحة تشكيلية بديعة و رامزة من توقيع الفنان ممدوح القصيفي، مردفا إلى هذا مجموعة من الرّسومات الداخلية، بالأبيض و الأسود، الموزّعة في متنه النصي و المتخذة إهابا سرياليا دالاّ تؤشّر عليه تلك الوجوه الآدمية، الذّكورية و الأنثوية، المكمّمة الأفواه، السّاهمة، و المفجوعة، لأجساد منكفئة و منحشرة في بعضها البعض في لجّة فضاء سديمي قاتم. إذا كان قد ارتأى هذا دون اللجوء، مثلا، إلى التمهيد لتجربة هذا الديوان بكلمة مدخلية، تنويرية، بوصفها إعلان نوايا أو ميثاقا مقترحا كما يقول الناقد و السيميولوجي الإيطالي أومبرتو إيكو، حول معتنقه الشعري و خياره الكتابي، على الغرار ممّا لجأ إليه في ديوان "تساؤلات كاساندرا الحزينة"، فإنه يحق لنا الاستئناس ليس فقط بالمرفقات التشكيلية في ديوانه هذا، باعتبارها موازيات نصيّة لا تخلو من مردود تأويلي، بل و أيضا بعصارة الكلمة المدخلية في الديوان ما قبل الأخير و ذلك في مرمى التقاط نبض تجربته الشعرية الكلية و ذبذبتها العميقة، ذلك أن إفصاح الشاعر عن نواياه الإبداعية تلك ليجعلها تلقي بظلالها، تماما كما تفاعلات المرفقات التشكيلية مع القصائد و تبادلاتهما الدلالية و الرمزية النّاجزة، حتى على هذا الديوان بحكم القاعدة البنيوية التي مفادها أن الرصيد الإجمالي لشاعر ما غالبا ما يرتدّ، إن شئنا، إلى نواة صلبة واحدة أو، بالحريّ، إلى لاوعي بنائي واحد يعرف تحقّقاته أو تمظهراته النصيّة في دواوين عدّة متتالية لا تعدو كونها تمفصلات إجرائية لهذا الرصيد.

و ممّا لا شك فيه أن الأخذ بعين الاعتبار نوعية التربية الشعرية التي تلقّاها الشاعر و تشبّع بها في مرحلة ما من مشواره الشعري، أي قيم التقليد الشعري و أوفاقه و نواظمه قبل الانتقال إلى النموذج التفعيلي، بتصييغاته الأدائية و الإيقاعية المغايرة، ممّا يرد في الكلمة المومأ إليها، لمن الأمور التي في مكنتها إسعافنا على استيعاب مدى اعتناء الشاعر بنصاعة المفردة المستثمرة، بجملته الشعرية و حدبه على تصفيّتها، لغويا، أشدّ التصفيّة، مع الحرص على تمام إيقاعيتها و تخويلها كثافة دلالية و رمزية تتضافر عليها جماليات كنائية و استعارية و مجازية تتوافر معها للجملة الشعرية عامليّتها الرؤية المتطلّبة. و النتيجة هي اندراج لا هذا الديوان، و لا الديوان الذي سبقه، إلى سنن قصيدة التفعيلة، في أمثلتها المتقدمة، و التي يا ما انفرزت، حين عثورها على قرائح شعرية مقنعة، عن نصوص تتمتّع بكفاية عالية لا يمكن أن يعفي على قيمتها التعبيرية، بأيّ حال من الأحوال، المدّ الجارف لقصيدة النثر في الشعرية العربية الراهنة. و بهذا المعنى يصحّ احتساب المعتنق الشعري للشاعر و خياره الكتابي بمثابة موالاة، و امتداد في الآن نفسه، لتراث شعري حافل في قصيدة التفعيلة سيوطّده، مصريّا، كلّ من أحمد عبد المعطي حجازي و محمد إبراهيم أبو سنة و فاروق شوشة ثم سوف يطوّره، و عن اقتدار و ألمعيّة، الشاعر السبعيني محمد سليمان.

هذا من جهة، و من جهة أخرى إذا ما نحن استحضرنا كون أقطاب شعرية الريادة، من أمثال نازك الملائكة و بدر شاكر السياب و عبد الوهاب البياتي و صلاح عبد الصبور و أحمد عبد المعطي حجازي و محمد الفيتوي..؛ قد نشأوا، شعريا، في كنف الشعرية الرومنتيكية و جعلوا، و الحالة هذه، من أنواتهم الشعرية، بالأقلّ في الأطوار الأولى من تجاربهم الشعرية، نسخا طبق الأصل، أو تكاد، من الأنا الرومنتيكية المغتربة، المتسامقة، و الرسوليّة..؛ المنذورة لرؤيا ينيطها بها الغيب أو الماوراء أكثر من ارتهانها بدرك الأرض و وضاعتها، إذا ما نحن استحضرنا هذا فلربّما يتيسّر علينا ترسّم هوية الأنا الشعرية المحايثة في متن الديوان، و التي تنوب مناب الشاعر في ثناياه، الموتورة على نفس شمائل الاغتراب، التّسامق، و الرسوليّة في عالم منحطّ، بائس، و لاشعري يمثّل الوجه الشّائه للعالم الذي تتوخّاه و تنشده متماهية، لحسّها الرّسولي الطافح، مع صورة نبيّ مصلوب، كما صورة يسوع في المتخيّل الكوني، و هو ما يعلن عنه، بدءا، التصدير – الميثاق الذي افتتح به الشاعر ديوانه:

آه يا قلبي المصلوب على سارية الحلم

تنظر من عليائك في زهد

فيرونك مصلوبا

مسلوب العزم

و تراهم بعض خواء

وهما في وهم !

و ما هي إلاّ هنيهة حتى يتكرّس هذا التماهي، في قصيدة "أسراب الطيور" من خلال تمثّل رومنتيكي للذات، للوجود، و للعالم.. لمعاني العقل، الجنون، و الموت، تستحكم فيه نبرة يأس محتدّة "ضاعت وعود الأنبياء". هذه النبرة، و في مجرى احتدادها، لن تتباطأ عن تصدية اعتمالات الشكوى و التظلّم إزاء قسمة للوجوه و الأقنعة تستشعرها الأنا الشعرية غير مجزية و لو أنها، أي الأنا، ترتدي اضطرارا، شأن الذوات الأخرى، قناعا لا يعمل شيئا من غير إدامة ثنائية الكينونة و مضاعفها و شرعنة لعبة السّفور و التّواري التي يفيدها وضع القناع و خلعه، تعتيما على جوهر شفافية الكينونة التي هي من جوهر عراء أيّما حياة قحّة وصميمة :

أتيت عليه

و كان يوزّع ما بيننا

وجوها و أقنعة زائفة

فمنها الضّحوكة

منها الحزينة

و المطمئنة و الخائفة

و بعد انتظار طويل

أخذت قناعا

يشابه وجهي النّحيل

فعدت إليه غضوبا

سألتُ: أيا ربّ هذا المكان

و سيّد كل زمان

وهبت الجموع

و لم تضمم اليد للعنق معهم

و أعطيتهم أجمل الأقنعة

فما بال حظّي من الأمتعة

قناع وحيد يشابه وجهي ؟

                               - قصيدة "الأقنعة"، ص 10

و لأن نصيبها من متاع الحياة و حطامها الدنيوي كان قناعا تداري به، مثلها مثل الآخرين، شراسة وضعها الوجودي فما من عجب في أن تلفي الأنا الشعرية ذاتها، مثقلة بانكساراتها و أشواقها، و قبل هذا بوعيها الشقيّ، مدمنة وحدتها، حزنها، و متحرّية عن فسحات و ملاذات شافية قد تخفّف عنها وعثاء هذه الوحدة و ذاك الحزن:

أترى إن مضيتُ وحيداً

بحزني اليتيمِ

و درت على كلّ بارٍ

سأغرق في الكأس حزناً وليداً

و أغفو على الطاولةْ ؟

أترى إن أتيتُ على مركز للمساجِ

سأفتّت تحت أنامل صينيةٍ

ما تجمّد مني

و أفصد بين يديها

دمامل قلبي الهرمْ ؟

أترى إن بكيتُ

يرقّ القدرْ ؟

هل يرقّ القدرْ ؟ !

                            - قصيدة "هل يرقّ القدر ؟ !"، ص 16 – 17 – 18

أنا شعرية بهذه المواصفات، متأفّفة من عالم أدنى من اختلاجاتها الطوباوية، سافرة أو متقنّعة، و هي تغالب هذا العالم علانية أو تداريه أو تلتفّ عليه ما وسعها الالتفاف، ما من توضّع أليم أقسى عليها من انقلاعها المباغت من رحمها المجالية - الأونطولوجية الأصلية، من مسقط رأسها المكاني – الرمزي الأوحد و التّطويح بها في فضاء آخر بديل، مفارق، يقوم مقام حدّ مقاطب لمبتدأ نشأتها الوجودية. هكذا، و إذ تستيقظ ذكرى مسقط الرأس ذاك إلاّ و تتكدّر على الأنا الشعرية، المتجرّعة أصلا لما لا يحصى من المنغصّات و المرارات، لحظتها الوجودية الطارئة فينهمر الاستذكار و تسود نوستالجيا عارمة في غاية الدلالة:

تمنّيت أن أتسكّع في شارعٍ

كم قطعتُ وحيداً

معي قلمي وكتابي بكفّي

على ضوء أعمدة الكهرباء الشريدةْ

أرافق ظلّي الممدّد خلفي

كحال بلادي البعيدةْ

تمنّيت لو أتمدّد كالظلِّ فوق الرصيفِ

لأحضن خوفي

و ألعق حتفي

و أبصق همّي ببالوعةٍ

...........................................

تمنّيت لو صرت مثل الدّمى في المحالْ

يطالعني الناس دون اكتراثٍ

بلوني و رسمي و مسقط رأسي

بدون سؤالْ

عن الوشم و الكيّ فوق ملامح نفسي.

                          - قصيدة "بين انكسار الحلم و الأمل"، ص 23 – 24

و كيما لا يبقى مغترب الأنا الشعرية هلاميا، من غير ما تسميّة تنعته و تومئ إلى هويته، أفليست الفاعلية الشعرية، في المحصّلة، فاعلية تسميّة و تعيين جوهريين ؟ حالما تسمّيه و تنعته تنفسح الدلالة الشعرية على شجون الاغتراب، تلاوين الحبّّ، و هموم الكتابة، بينما يثبت الوطن متجذّرا في الوجدان، إليه مرتجع هذه الدلالة و منه تستمدّ حيويتها، و ذلك بمقدار ما يتدثّر هذا المغترب، رغما من حلميّته، فردوسيّته و نعمته الموعودة، بدثار بقعة طبّغرافية مأهولة بالكدّ الخرافي، بالقنوط، برمادية المعيش، و عسورته و كفافه بالنسبة لكثيرين، بحيث أين هي من حميميّة الوطن، بهجته، و وضاءته:

هنج كنج ملاذ الهاربينَ

من شياطين الظلامْ

الحالمين بالحياة في سلامْ

................................

أنهتْ صديقتي التي عرفتها في بكينْ

كلامها عند محطة القطارْ

بقبلة فوق الجبينْ

ودّعتها

و جئتُ حاملاً حقيبة على ظهري

و بعضاً من كتبْ !

فمرحبا في معقل المالِ

بعاشق الأدبْ !

...............................

أرى فتاةً في النّفقْ

تعزف حزنها على قلب الكمانْ

حزناً شفيفاً

مثل حزن طائرٍ

يحلم يوما بالأمانْ

و ذاك في ركن بعيدٍ

نائم فوق الورقْ

يجعل من بعض الكراتينِ

وسادةً له و دثارْ

و الليل قاسٍ لا يرقّْ

..............................

و آخرٌ أراه فوق الجسر يعزف الجتارْ

و آخرٌ ينفخ في النّاي الحزينْ

حلمَ السّنينْ !

لعلهم مثلي و مثل آخرين يحلمون بالنهارْ !

                                  - قصيدة "لوحات من هونج كونج"، ص 39 – 40 – 44 – 45

و مثلما سميّ المغترب و اتضحت سيماه كان لزاما على الأنا الشعرية أن تعيّن، رأسا عبر عنوان إحدى القصائد، مدرج كيانها و منبت روحها رافعة، بهذا الصنيع، الخلط الدّارج بين ركنين جغرافيين ما يفرّقهما أوفى ممّا يجمعهما، و بتعبير رديف بين شرق أقصى يوائم بين رواقيّته الروحية المدوّخة و جبروته التكنولوجي الهادر و بين المشرق العربي كحمولة تاريخية و مجتمعية و ثقافية مخصوصة، بيد أن عامل التّغاير هذا لا يمكنه أن يصادر منها، أي الأنا، الشغّف النبيل بفتاة صينية جميلة أو متعة قراءة الشعر الصيني بلغة من أبدعوه و حرّره:

كانت عيناها تبتسمان

حين تراني فوق رصيف المترو

كل صباحٍ

تحمرّ حياء خدّاها

و تعضّ بلطف شفتها السفلى

في خجل صيني فتّانْ

و تقلب كرّاستها مضطربةْ

و تدوّن بضعة كلماتٍ

متظاهرةً بمذاكرةٍ وهميةْ

و تقطّب جبهتها مرتديةْ

وجه الجديّةْ

و يجئ المترو

تدخل خلفي

تقف على مقربةٍ منّي

و تطالع من تحت النظّارةْ

أيّ كتاب أقرأُ

تفغر فاها عجباً

حين تراني أقرأ شعراً

باللغة الصينيةً

و تقابل عيناها عيني

في نظرة ودّ عفويّةً.

                              - قصيدة "من مذكرات شابّ شرقي"، ص 53 – 54

و عليه، ففي تلابيب موقف انشطاري كالذي تحياه أنا شعرية موقوت حسّها الرومنتيكي الشّفاف على تعشّق البهاء الأنثوي و استنشاق نكهته الفذّة سيأخذ موضوع الحبّ و الحكي العاشق عن حيوات و سير نسوة و محبوبات متخيّلات، و إن كنّ مقتنصات من مهبّات الحياة اليومية و من أمكنتها الملموسة.. من ساحاتها و شوارعها.. من الكافيتيريات و  محطّات الحافلات و قطارات الأنفاق.. حجما فائقا في متن الديوان تعكسه جملة القصائد التي أفردت لهذا الشقّ، و من أبرزها "شذاها"، "ميّادة"، "كل يوم"، معذرة"، "أذوب عشقا"، "أعطيني عذرا"، "مطر الحياة"، "أين نلتقي ؟ "..؛ بل و لعلّه من الإشاريّة بمكان أن تستجمع القصيدة الأخيرة في الديوان، و هي أقصر قصائده، نثار ما صوّرته باقي القصائد في هذا الباب ممّا يمكن تأويله كمحض ولاء مطلق لقيمة الحبّ، لمسرّاته و مكابداته سواء بسواء، و هي القيمة التي قد ترين، من سطوتها، حتى على النّزع الأخير من حياة امرئ قتيل، و تغمر، من فتنتها، عين آخر يقضّ بدنه الاعتلال و الشّحوب:

دائماً في الثواني الأخيرةِ

تحلو الحياة بعين القتيلِ

و تبرقُ عينُ العليلِ

بنظرة حبّ أخيرةْ !

                              - قصيدة "الثواني الأخيرة"، ص 91

لكن هل بمقدور القصيدة و هي تقتات على مشهديّات حياة ناغلة و محمومة في موطن انكتابها الجديد، أي في شرقها الآسيوي، ثم و هي تستجيب، مطواعة، للواعج العشق و انثيالات أنثوية باذخة، وسامات و قدودا و أناقات..؛ و تضع تحت إمرة المخيّلة معاجم و جملا و صورا شعرية و ترشيقات إيقاعية..؛ أن تدفع الذات الكاتبة إلى التّنصل، تماما، من (م)شرقها العربي و الازورار عن نداءاته و إملاءاته ؟ لعلّه في صلب هذا التساؤل يكمن رهان هذه التجربة الشعرية النّوعية التي تقترح، كإبدال جدير بالتأمل و المعالجة، إحلال أسّ "الشرق" محلّ أسّ "الغرب" الذي يا ما تنفّذ في معادلة أدب الهجر العربي، و استنزف، لردح طويل من الزمن، أكداسا من المقاربات و التحليلات و التخريجات في النقد العربي الحديث و المعاصر.

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

إلى دار ندوة

عودة إلى موقع ندوة

ضع إعلانك هنا