فنان
واحد له وجهان
رجاء النقاش - مصر
يذكرني أديبنا العظيم نجيب محفوظ دائما بأديب عالمي آخر هو ماركيز واسمه
الكامل جابرييل جارسيا ماركيز, الذي نال جائزة نوبل قبل نجيب محفوظ بست
سنوات, أي في سنة1982, وأعمال ماركيز معروفة الآن في اللغة العربية,
فقد اهتم بترجمتها عدد من الأدباء, ولقيت هذه الأعمال قبولا حسنا من
القراء, مما شجع علي التوسع في ترجمتها, حتي أظن أن المكتبة العربية
تضم الآن معظم أعمال ماركيز وعلي رأسها روايته الكبري مائة عام من
العزلة, والتي كانت علي الأغلب هي أول أسباب شهرته والتفات العالم إليه
ونيله جائزة نوبل بعد ذلك, والحق أن هذه الرواية هي عمل فني بالغ العمق
والسحر والتعقيد والجمال في آن واحد, وهي من الأعمال الأدبية التي يقرأها
الإنسان أكثر من مرة, ويجد في كل قراءة شيئا جديدا فاته في القراءة
السابقة.
وقد قال أحد النقاد الغربيين عن هذه الرواية إنها رواية
رائعة توازي رواية دون كيشوت لسرفانتس, ورواية دون كيشوت هي إحدي الروائع
الكبري في الأدب العالمي, وهي درة الأدب الإسباني والعمل الأدبي الأول في
الثقافة الإسبانية منذ ظهور تلك الرواية في جزئها الأول سنة1605 وجزئها
الثاني سنة1615 وحتي الآن, وعندما يتم وضع مائة عام من العزلة إلي جانب
دون كيشوت ففي ذلك تكريم لماركيز لا يقل عن تكريم جائزة نوبل له. وهناك
بالطبع عامل مشترك بين سرفانتس وماركيز هو أنهما يكتبان بالإسبانية, وقد
اختار ماركيز أن يعيش في وطنه اللغوي, أي في إسبانيا, حيث ترك بلده
كولومبيا واختار الحياة بصورة أساسية في برشلونة, وفي برشلونة يعيش
ماركيز ويبدع أعماله ويفرض علي حياته اطارا من العزلة لكي يستطيع أن يقرأ
ويكتب ويستقل بعقله ووجدانه عن سائر الضغوط العملية والاجتماعية
والسياسية, خاصة بعد أن أصيب منذ عدة سنوات بمرض السرطان الذي فرض عليه
جهدا اضافيا للصراع معه وتحمل ألوان العلاج القاسية التي لابد منها لمواجهة
هذا المرض الخطير.
ماركيز من كولومبيا في أمريكا اللاتينية,
وسكانها نحو عشرين مليونا, وهي تتكلم الاسبانية, وقد ثارت من قبل ضد
الاستعمار الاسباني لها وتحررت منه, ولكنها ظلت محتفظة باللغة
الإسبانية, فهي اللغة الاساسية الوطنية في كولومبيا, ويبدو أن الطابع
الأسباني في كولومبيا لا يزال قويا, حتي لقد سميت كولومبيا نفسها أحيانا
باسم غرناطة الجديدة تشبها بالمدينة الإسبانية الأندلسية الشهيرة غرناطة
ذات الطابع العربي الذي لم تتخلص منه رغم مرور أكثر من خمسمائة عام علي
خروج العرب منها, حيث كانت غرناطة هي آخر مدينة تركها العرب بعد هزيمتهم
أمام الإسبان سنة1492.
ماركيز ـ مثل نجيب محفوظ ـ لم يصل إلي
مستواه العالمي لأنه صاحب موهبة كبيرة فقط, بل لأنه صان موهبته صيانة
كاملة من عناصر التدمير التي تتعرض لها مواهب الكثيرين, وعناصر التدمير
هذه قد تكون إغراءات كبيرة, وقد تكون ألوانا من الاضطرار والقهر لا يقوي
علي مقاومتها أي فنان, حياة ماركيز موقف معروف يكشف عن أصالته وصيانته
لنفسه وموهبته, وهو موقف يدل علي عفته وكرامته والابتعاد بنفسه عن
الإغراءات مهما تكن كبيرة, وهذا كله هو ما يجعلني أتصور أحيانا أن نجيب
محفوظ وماركيز هما فنان واحد له وجهان, أحدهما عربي والثاني من أمريكا
اللاتينية, أما الموقف الذي أشير إليه فهو أن حكومة كولومبيا قد عرضت علي
ماركيز بعد أن أصبح مشهورا ومعروفا علي المستوي العالمي أن يكون قنصلا
لبلده كولومبيا في برشلونة, حيث يحب ماركيز أن يقيم بصورة أساسية, وقد
قال وزير خارجية كولومبيا الأسبق لوبيز ميشلسين:.. عندما كنت في نيويورك
سنة1982 اقترح علي بعض أصدقاء ماركيز أن أعينه قنصلا لكولومبيا في
برشلونة, ولا ريب أن ماركيز كاتب مشهور جدير بالتقدير, وقد وجد رئيس
كولومبيا الاقتراح معقولا حين عرضته عليه بعد عودت إلي العاصمة
الكولومبية.. و بناء علي هذا الكلام الذي قاله وزير الخارجية
الكولومبي صدر بالفعل قرار بتعيين ماركيز قنصلا لكولومبيا في برشلونة,
فماذا كان موقف ماركيز؟.. قال ماركيز, والنص الكامل لكلامه منشور في
كتاب عزلة ماركيز ترجمة السيدة ناديا ظافر شعبان:.. لقد أعلنت مرارا أنني
أرفض المناصب العامة والإعانات المالية, من أي نوع كانت, ولم أتسلم
سنتيما واحدا ـ أي ما يساوي المليم ـ لم أربحه بجهدي.
وأنا أطبع
ما اكتبه علي الآلة الكاتبة بيدي, وأعتقد أن كل معونة مالية لا تتصل
بمهنة الكتابة إنما تعرض استقلالية الكاتب للخطر, واستقلالية الكاتب في
رأيي أساسية, وهي عندي تعادل القدرة علي الكتابة, وأكثر من هذا فإنني
لم أتعود أن أذهب لتسلم الجوائز التي حصلت عليها في عدة بلدان, ولم أشارك
في أي نشاط لترويج كتبي, ولم أفعل ذلك كله بدافع التعالي والغرور,
ولكنني فعلته لأنني أعتقد أن هذا كله هو إجراءات دعائية هدفها تجاري,
والعمل الشريف الوحيد الذي يجب أن يقوم به الكاتب حتي تنتشر كتبه.. هو أن
يكتبها جيدا ويواصل ماركيز حديثه الممتع الصادق فيقول:كذلك كنت حين كنت
مجهولا مغمورا,
ويوم لم يكن هناك أحد يمكن أن يعرض علي منصب
قنصل, والآن أصبحت أعيش بفضل قرائي, فلا يحق لي أن أغير رأيي, حيث
إنني لا أجد دافعا إلي هذا التغيير, ثم يتحدث ماركيز بعد ذلك عن خلافه
السياسي مع حكومة بلاده, ويري في هذا الخلاف سببا إضافيا يدفعه إلي رفض
العمل مع هذه الحكومة, فليس من الأمانة أن يعمل ماركيز في خدمة حكومة لا
يؤمن بسياستها في داخل بلاده أو خارجها. ويواصل ماركيز حديثه فيقول:في
عبارة تحتاج إلي شيء من الشرح والتفسير: انه لن يكون كاتب ربطة عنق, بل
لن استعمل ربطة العنق حتي في الحياة العادية.
وربطة العنق مثل
شعبي في كولومبيا معناه أن يعمل الإنسان في وظيفة من الوظائف الشكلية..
يعمل فيها قليلا.. هذا إن عمل.. ولكنه مع ذلك يكسب كثيرا, أي أن
الموظف في وظيفة ربطة العنق هذه يكون مثل ربطة العنق, مجرد زينة شكلية
ليس لها دور جدي ولا عمل حقيقي علي الاطلاق.
وأخيرا يقول ماركيز
أستطيع أن أخدم وطني دون أن أستغل هذا الوطن, ودون أن أكون في خدمة
الحكومة.. أستطيع خدمة وطني بترفعي, وأنا أتابع الكتابة محافظا علي هذا
الترفع.
كثيرا ما أفكر في التشابه القوي الجميل بين نجيب محفوظ
وماركيز, وأحيانا يبدو لي في عين الخيال أنهما فنان واحد له وجهان أحدهما
محفوظ والثاني ماركيز, وكثيرا ما أقارن بين حرافيش محفوظ ومائة عام من
العزلة لماركيز, ونجيب ـ فيما أعلم ـ هو الأسبق, والتشابه بين
الروايتين غير قليل, فهذان الفنانان المتشابهان يحرصان علي الاستقلال,
وهما من أصحاب العفة والكرامة, وهما يرفضان ربطة العنق بمعناها الرمزي
ومعناها الواقعي, فما من أحد منهما لبس ربطة عنق في يوم من الأيام علي
الاطلاق.
(نقلاً عن الأهرام) |