وهلم
جرّا!
أحمد عبد
المعطي حجازي - مصر
هناك موضوعات مألوفة
بالنسبة لنا, نظن أننا نعرف عنها ما يكفي لنتحدث فيها, ونحن واثقون من أن لدينا
ما نضيفه ونقدمه للآخرين, لكننا لا نكاد نبدأ الحديث حتي نكتشف أن ما نجهله عن
هذه الموضوعات المألوفة أكثر بكثير مما نعرفه.
وفي هذا العام الذي يكاد ينصرم حلت الذكري الخامسة والسبعون لرحيل الشاعرين
العظيمين حافظ إبراهيم, وأحمد شوقي, فوجدت من واجبي أن أتحدث عنهما, كما فعل
شعراء ونقاد آخرون. لكنني اكتشفت في هذه التجربة أن ما أعرفه عن هذين الشاعرين,
وعن غيرهما من شعراء الإحياء, وعن حركة الإحياء بوجه عام قليل بالقياس إلي ما لا
أعرفه, وقد حسدت غيري من الذين لا يعرفون ويظنون أنهم يعرفون!.
والواقع أن أحدا لا يستطيع أن يزعم لنفسه معرفة كل شيء في أي موضوع ولو أنفق فيه
العمر كله, فالمعرفة الكاملة مستحيلة, مثلها مثل البطولة الكاملة, والجريمة
الكاملة.
لابد من ثغرة يكتشف فيها العالم أن علمه ناقص, ومن خطأ يسهو عنه الجاني فيقع في
قبضة العدالة, وينساق له بطل المأساة فيدفع حياته ثمنا له:
فقل لمن يدعي في العـــلم فلسفــة
حفظت شيئا, وغابت عنك أشياء.
وكان أبو نواس قائل هذا البيت الحكيم قد مر بفقيه متشدد فسمعه يقول إن من مات
مرتكبا لكبيرة غير تائب منها لم يعف الله عنه وخلده في النار. فأنكر عليه أبو
نواس حظره للعفو, وذكره بأن علمه محدود, ثم أضاف إلي البيت السابق قوله:
لا تحظر العفو إن كنت امرأ حرجا
فإن حظركه بالدين إزراء
المعرفة إذن نسبية, والذي يقال عن هذا الفقيه المتشدد يقال عن أي مشتغل بالفكر,
ثم إن المعرفة لا تتحقق بالجهود الفردية, وإنما تتحقق بالجهود المشتركة التي يحفز
بعضها بعضا, ويتبادل أصحابها الخبرات فتتكامل وتتواصل, وتنتقل من جيل إلي جيل
ومن عصر إلي عصر, خاصة في الموضوعات الحيوية التي تهم الجماعة القومية.
ولا شك في أن حركة الإحياء موضوع حيوي بالنسبة لنا جميعا, لأنها الحركة التي
خرجنا بها من الانحطاط إلي النهضة, وأصبحنا نعرف أن هناك شيئا اسمه العقل,
وقيمة تسمي الحرية, وحقوقا يجب أن يتمتع بها البشر جميعا لأنهم بشر, فلا يجوز
لأي سلطة في الأرض أن تغتصب هذه الحقوق, أو تحجبها عن مستحقيها.
وإذن فحركة الإحياء ليست هما شخصيا, وليست تخصصا ضيقا مقصورا علي أفراد بعينهم,
وإنما هي تراث قومي وخبرة عامة يجب أن نشارك في تحصيلها كل منا بنصيب.
استطيع علي سبيل المثال أن أعيد قراءة شعر البارودي, وأن أضع يدي علي ما غاب عني
منه في قراءات سابقة, لكني أحتاج لمن يقرأ سيرة البارودي, ويكشف لي ولغيري عما
نجهله من ثقافته العامة, ونشاطه السياسي, ومن دوره في الثورة التي شارك فيها,
وكان من قادتها, وكانت هذه الثورة إحدي ثمار حركة الإحياء, وكان شعر البارودي
ثمرة أخري.
وأنا لا أستطيع حتي أن اقرأ شعر البارودي قراءة صحيحة, إلا بمعونة القادرين علي
أن يضيئوا لي الجوانب المجهولة أو المظلمة وما أكثرها في ثقافة العصور التي سبقت
عصر البارودي.
والبارودي سليل المماليك المحمولين إلي بلادنا ليتعلموا فنون الحرب, ويقتلوا
خصومهم ويقتلهم خصومهم أو خصوم سادتهم, يدهشنا بما حصله من العربية, ومن
ثقافتها, فعلي يد من حصل هذا العلم الواسع, وفتح هذا العالم الرائع؟ وأي مناخ
ساعده علي ذلك؟ وكيف استطاع هذا الشركسي المغترب سليل المغتربين أن ينطق بما كان
ينطق به امرؤ القيس, وأن يقتنص صوره, ويمتلك إيقاعاته ويري رؤاه؟
نعم, حركة الإحياء ليست شاعرا وليست كاتبا, وليست مجموعة من المؤلفات والكتب,
ولكنها روح جديدة هزت البلاد, وأيقظت العباد, فهي قول وفعل, وحرب وسلم,
وشعر ونثر, وماض وحاضر, وفكر وتاريخ, هي هذا كله وقد اتصل بعضه ببعض, وتأثر
بعضه ببعض, وصار حياة خصبة متدفقة لا يستطيع أن يحيط بها أو يسبر أغوارها واحد
منا بمفرده, وإنما نعرفها معا لأنها لا تبوح بأسرارها إلا في حضور الجميع. وهذا
شرط لم يتحقق لنا منذ نصف قرن علي الأقل. نحن غائبون منذ نصف قرن, ولهذا نعجز
عن استحضار هذه الروح, واستعادة هذا التاريخ.
حين ننظر خلفنا نري حركة الإحياء كأنها قافلة استأنفت الرحلة بعد أن استراحت بالقرب
منا بضعة أيام, فإن عدونا وراءها نريد اللحاق بها لم نجد منها إلا ما يجده الظمآن
من السراب!
ربما كان قربنا من حركة الإحياء سببا من أسباب بعدها عنا, إذ تخدعنا الألفة
وتوهمنا أننا نعرفها, وتصرفنا عن امتحان هذه المعرفة, وسد ما فيها من ثغرات,
بينما يمر الزمن ويحملنا بعيدا عنها, ويحملها بعيدا عنا, فتصبح ماضيا نقنع منه
بالقليل الذي بقي لنا منه, ونتشبث به, ونحكم علي الحركة كلها من خلاله.
هكذا نظن أننا نعرف الطهطاوي, ونحن لا نعرفه, وهكذا نفرط في تراث الإمام محمد
عبده, ونخترع أئمة مزيفين. وبهذا الوعي الزائف نقرأ البارودي وشوقي وحافظ,
فنخلط بينهم وبين الشعراء القدماء, باختصار نفقد وعينا بحركة الإحياء, ونخسر ما
حققناه فيها, ونعود بالتالي إلي ما كنا عليه قبلها, في نهايات القرن الثامن
عشر, محاطين محاصرين من كل الجهات بالمماليك, والأتراك, والأرناؤوط,
والعربان, والمحتسبين!.
ماذا نصنع أذن؟
ليس أمامنا إلا أن نعيد الكرة. ندخل القرن التاسع عشر من جديد. ثم نبدأ حركة
الأحياء من جديد. وهلم جرا!
(نقلاً عن
الأهرام 19/12/2007)
|