ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

الحصار يليق بحلمي سالم

أحمد عبد المعطي حجازي - مصر

 

لم يكن مفاجأة خالصة رحيل الشاعر حلمي سالم صباح السبت الماضي‏,‏ فقد كنا نعلم أن عملية جراحية أجريت له لاستئصال الورم الذي أصاب رئته‏, وأنه يخضع في مستشفي القوات المسلحة بالمعادي لمتابعة دقيقة وعلاج منظم يستعيد به قدرته علي استئناف نشاطه الذي استعجله هو, فلم يصبر حتي يأذن له أطباؤه, وانما فاجأنا قبل أسبوعين في بيت الشعر بزيارة خاطفة اعتبرناها بشارة بعودته إلين, ثم أتبعها بأمسية في حزب التجمع قدم فيها مختارات من قصائده الجديدة, وعاد الي المستشفي ليرحل في اليوم التالي.

لقد خص الشعر بالرمق الأخير!
هذه النهاية تلخص سيرته كله, فحلمي سالم هو هذا الرجل منذ انخرط في السبعينيات الأولي من القرن الماضي في النشاط العام, مغامرا متحمسا يرقص علي الحافة منصتا لإيقاعاته الداخلية, مستسلما لما يراه ويحلم به, مفعما بالنشوة, مقبلا علي الحياة, ولو كان مهددا بالموت, هو كذلك في الواقع, وهو كذلك في الشعر.
لم يكن في الشعر مجرد اسم من الأسماء التي تضيف نفسها للقوائم فتزيدها عددا ولا تمنحها قيمة. وانما كان شاعرا له عالمه ولغته ولهجته الشعرية التي تميز بها عن غيره من شعراء جيله, الذين اصطلحنا علي تسميتهم شعراء السبعينيات.
وحلمي سالم لم يكن مجرد شاعر متميز, مكتف بما يحققه في فن الشعر, وانما كان شاعرا مناضلا ينشئ عالمه بالقول وبالفعل, ويعيش ما يقوله في البيت والمكتب, والوطن والمهجر, والشارع والسجن, طاقة فريدة من الحماسة والنشاط, والعذوبة والمودة, والشجاعة والتواضع, والإنسانية الريفية الرفيعة التي يتحد فيها الانسان بالطبيعة والفرد بالجماعة. واذا كانت هذه الفضائل قد تجسدت في حياة حلمي سالم بكل صورها وتجلياته, فالشعر هو مجالها ومجلاها الأول, لأن حلمي سالم شاعر حقيقي, والشاعر الحقيقي كائن خلاق مبدع حر متفرد, والحرية التي يتمتع بها الشاعر وهو ينظم قصيدته قد لا تتاح له حين يفرغ من نظمها ويستأنف نشاطه في الحياة العملية.
قارنوا مثلا بين الحرية التي كتب بها قصيدته شرفة ليلي مراد وصور القمع والمصادرة والمطاردة التي لقيها حين نشرت القصيدة, وكنت شاهدا من شهود هذه القضية, بل كنت فيها متهما مع حلمي سالم بصفتي رئيسا لتحرير مجلة إبداع التي نشرت القصيدة, ولن أعيد عليكم القصة التي تناولتها الصحف كثيرا في وقته, وتكفيني منها هذه الإشارة التي أعتقد أنها مدخل ضروري لمعرفة حلمي سالم, وقراءة شعره وتذوقه وتقويمه باعتباره مشروعا متكاملا يجب أن نحيط به ونتعرف علي جوانبه المختلفة التي يفسر بعضها بعضا ويؤدي بعضها لبعض, فلا يصح أن نحكم عليه بما يقع في أيدينا منه, لأن حلمي سالم لا يقف عند حد ولا يكف عن تجربة ما يخطر له, ولا يمزق ما يتوقع ألا ينال الرضا من تجاربه, بل ينشر كل ما عن له أن يكتبه, لأنه يراه لبنة في مشروعه, ولأن الحكم علي العمل التجريبي يتغير, فالذي لا يقبل اليوم من أشكال الفن قد يصبح هو المفضل غدا أو بعد غد, وأخيرا لأن حلمي سالم نشأ في الظروف الصعبة المضطربة التي عاشتها مصر في سبعينيات القرن الماضي, وفرضت علي الأجيال الجديدة من المثقفين المصريين أن يراجعوا كل شيء, وأن يتحرروا من كل قيد, ويغامروا في المجهول الذي لا يعرفون مداه, ولا يستطيعون التنبؤ بما سيلقونه فيه, ويواجهوا ما فيه من أخطار ومخاوف لا تمنعهم من مواصلة اندفاعهم, لأنهم في مواجهة الخطر يستدعون وجودهم, ويكتشفون أنفسهم, ويحطمون قيودهم, ويخرجون من وصاية الأجيال التي سبقتهم.
الجيل الذي سبقهم من الشعراء فتح الطريق أمام حركة التجديد, لكنه لم يستنفد كل ما طرحته هذه الحركة من أشكال وصور, والجيل الذي سبقهم استعاد للشعر علاقته بالواقع, لكنه وقف أمام الأحداث الكبري ولم يلتفت إلا قليلا للتفاصيل الحية والمفردات, الغنية بالألوان والرائح. والجيل الذي سبقهم كان يجاهد للتخلص من الموروث الذي فقد قيمته ولم تعد للحياة حاجة به, ومن هنا يستطيع الجيل الجديد أن يواصل الطريق ويضيف لحركة التجديد خبراته وتجاربه, وهذا ما نجده عند شعراء السبعينيات الذين كان حلمي سالم واحدا منهم, وكان من أكثرهم استجابة للمغامرة واندفاعا في التجريب وطلب التفرد والمغايرة.
إنه يجرب قصيدة النثر كما جرب القصيدة المنظومة المقفاة, ويخلط العامية بالفصحي, وينسج صوره من عالم المثل ومفردات الشارع وقضايا الساعة, ويناقش في قصيدته ما يناقشه الكاتب في مقالته, ويخرج الشعر من عزلته المترفعة ليصالح بينه وبين الناس.
لنقرأ هذا المقطع من قصيدته شكوي القبطي الفصيح, أغنية لويس عوض:
عاش بطرح النهر الأقباط.
يربطهم بشرايين النيل الجارية رباط.
تذكر ترتيلتهم مدن البحر وتذكرها الفسطاط
العفو هو الديدن والغفران صراط
لن نهجر هذي الأرض ولن نستدعي أغرابا كي يحمونا
من أهل قاسمناهم لقمتنا ومواجع أيام قاحلة
من سكب الزيت علي نار وأحل البغضاء محل هناءات القربي؟
أنا لم أسرق جاري
لم أرم القاذورات بأنهاري
لم أطرد ضيفا من داري
الليل صلاتي, والعمل نهاري!
هذا الحس الأخلاقي الذي يكتب به حلمي سالم قصائده, يقابله حس جمالي يمارس به نضاله السياسي في سبيل المبادئ التي يؤمن بها والقضايا التي يدافع عنه, كما نجد في هذه القصيدة التي رسم فيها نفسه وسماها الصوفي. لأنه لا يري نفسه إلا في الكل. ولأن الموت هو مجاله الذي يتحول علي يديه إلي حياة.
محترف حصارات
لو مرت سنة من غير حصار أرتاب
واسأل: هل صرت دجينا ــ يقصد داحنا مستأنسا ــ لا يقلق أحدا؟
محترف حصارات
من أيلول الي تل الزعتر والفكهاني وطرابلس ورام الله
جسدي جهز لملاءمة الأقفاص
وروحي تنضح بتراجيديا السائر للحتف
......
دائرة الموت مجالي الحيوي
وعين الفوهة لدي هي الشطح الصوفي
ولحظات الكشف!
والحصارات التي يشير إليها حلمي سالم في هذه القصيدة هي التي عاشها مع الفلسطينيين في لبنان حين انضم إليهم في ثمانينيات القرن الماضي مع عدد من الكتاب والشعراء والفنانين المصريين اليساريين الذين ثاروا علي الرئيس السادات حين وقع معاهدة كامب ديفيد وسافروا الي لبنان ليواجهوا مع الفلسطينيين الحصار الذي ضرب عليهم.
لكن حلمي سالم لم يواجه الحصار في لبنان فحسب, وانما واجهه في مصر أيض, واجهه كمناضل يساري تحاصره أجهزة الدولة البوليسية, وواجهه كشاعر يحاصره المتاجرون بالدين ويرفعون ضده الدعاوي ويكسبونه, وأخيرا واجه الحصار متمثلا في المرض الذي أنشب مخالبه في رئته وقضي عليه.
}}}
هكذا ظل حلمي سالم محاصرا طول حياته, كان محاصرا بإرادته, لأنه هو الذي كان يتحرش بالأخطار ويواجهها ويتعرض لحصاره, ومن هنا احترف الحصار ووجد نفسه فيه حتي ليشعر بالارتياب والاستغراب اذا لم يجد نفسه محاصر, فالحصار بالنسبة له هو الرد المنطقي علي شغفه بالحرية, وبما أنه بقي طول حياته مخلصا للحرية فمن المنطقي أن يظل طول حياته محاصر, لأنه في الحصار حر, واذن فهو في الحصار أجمل وأبهي.
آه! كم يؤلمني أننا فقدناه!

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا