ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

قراءة في المجموعة القصصية " الفزاعة" لعبد العزيز غوردو

د. جميل حمداوي - المغرب

 

تمهيد:

يعد عبد العزيز غوردو من الكتاب المتميزين في مجال القصة القصيرة بلغته الموحية ومستنسخاته التناصية الثرية وكتابته الأدبية العاشقة. بيد أن أهم ما يمتاز به عبد العزيز غوردو عن غيره من القصاصين في مجموعته القصصية" الفزاعة" انطلاقه من رؤية فلسفية تتشابك فيها السريالية والوجودية لتأبين الإنسان المعاصر الذي حنطته الماديات في هذا العالم المنحط الذي ضاعت فيه القيم الأصيلة والمثل العليا. و من يقرأ قصص هذه المجموعة التي دبّجها الكاتب القدير عبد العزيز غوردو فإنه سيحس بالمتعة الشبقية والتلذذ الإيروسي في تعامله مع النصوص المفعمة بالرمزية والتفلسف العميق، ومن جهة أخرى سينساق مع تداعيات التطهير وآثار المأساة الإنسانية. إذاً، ماهي خصائص هذه المجموعة القصصية دلالة وصياغة ومقصدية؟ هذا ما سوف نكشف عنه القناع أثناء سفرنا بين دهاليز هذه المجموعة القصصية الرائعة بعوالمها الفنية الفاتنة.

  1. المستوى الدلالي:

تضم "الفزاعة" التي ألفها عبد العزيز غوردو تمهيدا بعنوان:" بين الحلم والموت"، وسبع قصص قصيرة وهي: "الفزاعة" ، و"قطار السادسة مساء"، و"الموؤودة"، و"المجذوب"، و"آخر المقامات" و"السيد السنونو"، و"وصية منتحر". وتتفاوت هذه القصص في القصر والطول وتجمع بين التجريب والتأصيل. وهناك بعض القصص التي يمكن تحويلها إلى رواية قصيرة مثل قصة" آخر المقامات" ، و" الفزاعة"، " السيد السنونو"

ينطلق الكاتب من نظرية التلقي لفضح أسرار الكتابة السردية وكشف أوهامها وإشراك المتلقي في تحبيك متنه القصصي وبناء عالمه التخييلي، ويذكرني الكاتب ببريخت المخرج الألماني الذي كان يفضح اللعبة الركحية أمام الجمهور اعتمادا على نظرية التغريب والتباعد لكي يبعدهم عن الإيهام الدرامي والتقمص النفسي وتحريض المتفرج على النقد والجدل السياسي.

ويستسلم الكاتب في هذا التقديم لنزواته وأهوائه الشبقية، فيقع فريسة في شرك الغواية والافتتان ، وستدفعه شهوة الجسد لأن يدخل في علاقة غير شرعية مع خليلته التي سرعان ما سيفتقدها بعد أن سافرت بعيدا وتركته وحيدا تنخره الوحدة والغربة المميتة. ومن هنا سيعبث الزمن بذاكرته المخرومة وبحكاياته التي لابداية لها ولا نهاية والتي تعاني من الانكسار والتشظي السردي:"امتدت يد الزمن لتعبث بحكاياي الجديدة/القديمة... تنثرها بعيدا، في كل اتجاه... لتتناسل عنها حكايا غيرها... وغيرها... وغيرها... حكايا في كل مكان... حكايا الحلم والموت... حكايا الموت الذي لا يموت... ".

وينساق الكاتب في حكايته الأولى "الفزاعة" أمام أحلامه التائهة وأوهامه المفزعة وهلوساته السريالية ليجد نفسه في الخارج وحيدا ترعبه الفزاعة بمنجلها، وتحاول أن تودي بحياته التي أصبحت عبثا في عبث، إذ أصبح عاجزا عن التكيف مع الواقع الفظيع و عالمه المغترب أو التأقلم مع الحياة لكي يفهم معناها ومغزى وجوده ودلالة كينونته في هذا العالم الذي لايعرف سوى الرعب والخوف والموت. ولا يستطيع الكاتب أن يستسلم للنوم إذ يواجهه الأرق بالموت والصراع السيكولوجي من شدة ووساوسه وانطوائه على نفسه خوفا من الآخر:"في عمق الحلم رأيتني أتجول داخل حقل شوفان، عاري الرأس حافي الأقدام... في الطرف الآخر للحقل تنتصب فزاعة ضخمة، متشحة بالسواد وهي تمسك منجلا مصقولا يتطاير الموت منه... تماما كما كان "هوغو" يصور الموت في مؤلفاته... وأنا عاري الرأس حافي الأقدام: أطأ الشوك فيدميني، والحقل فارغ إلا مني... حتى الطيور هجرت هذا الحقل المشؤوم... وحدها الفزاعة المرعبة تنتصب قبالتي لا تحرك ساكنا... لكنها تشدني إليها بجاذبية قوية... أريد أن أقاومها، أغرز أقدامي في الأرض، لكنها تقتلعني من جذوري كأزهار الأقحوان، وتسحبني إليها... هكذا، خطوة خطوة... تشدني إليها بينما تنتصب هي دون تحريك أدنى ساكن، والمنجل الصارم بين يديها... أحاول أن أسير في اتجاه آخر لكني لا أستطيع... شيء ما يدفعني نحوها بقوة، ورجلاي داميتان كأزهار الأقحوان... لم يعد بيني وبينها غير مسافة قصيرة... خطوة أو خطوتان... عيناها الناريتان أوقدتا في وجه ليس بوجه، ودثارها الفولاذي كأنما هو قطعة منه، أو امتداد له! وفجأة، وبسرعة البرق كمارد من الجان، لم أشعر إلا والمنجل السحري يلف عنقي بقوة: يحتز رأسي البائس الذي تدحرج مخضبا بدمائه... وبقيت عيناي في محاجرها تحملقان في جسدي المترنح تارة... وتفترسان الفزاعة التي عادت إلى وضعها الأول الساكن، تارة أخرى... ثم صرخت...

     استيقظت مفزوعا من النوم وعدت أجحظ بعيوني في جوف الظلام... لست أدري كم استغرق هذا الكابوس المرعب... خيل إلي للحظة أنها كانت النهاية فعلا، لكني طردت النوم عن مقلتي، نفضت الموت عن جفوني، وعدت أفترس كل شيء بعيوني..."

وتتمظهر الفلسفة الوجودية بوضوح في حكايته" قطار السادسة مساء" عندما تعلن الشخصية المحورية مللها وسأمها من الحياة والوجود البشري. كما أنها تحس بالغثيان والقرف ، وتصبح المرأة الدنيئة بالنسبة لها قيئا وعبثا تضفي على الشخصية قلقا وجوديا وتجعلها تعيش الاغتراب الذاتي والمكاني والانفصام الذاتي والتمزق الشخصي بين ماهو ذاتي وماهو موضوعي. ويثور الكاتب في هذه الحكاية على الحياة الشبقية الإيروسية ولغة الجسد، ويصب جام غضبه على الآخر سواء أكان أنثى أم ذكرا، إذ تتحول العلاقات البشرية في هذا العالم المظلم إلى علاقات إسمنتية فظة:" أمس فقط لم أنم إلا متأخرا بعد ليلة صاخبة حمراء، أفرغت خلالها العالم كله بداخلي، بكل تجلياته الجسدية المثيرة لكل أشكال الشبق... وها أنا الآن أستيقظ وقد كرهت كل شيء، أشعر أني عشت ألف عام أو يزيد بعمر الشباب ثم شخت فجأة: في ليلة واحدة نمت وأنا في ريعان الشباب، بعمر أزهار الربيع، واستيقظت أوراق يابسة تذروها رياح الخريف، استيقظت وأنا أحس طعم الرماد في كل شيء، كمثل شاعر عشق ألف خصر، لألف امرأة، ثم مات وحيدا أخيرا... داخل محاكم نورمبرغ الكئيبة..."

ولم يجد الكاتب حلا للخروج من شرنقة الذات الكئيبة سوى الهروب من ظله نحو محطة القطار ليجد نفسه محاصرا من الآخرين ومن نظرات الناس وحركات المراقب وسرعة العجلات ودوران الزمن بإيقاع سريع لا تريد عقاربه أن تتوقف عن الجريان. وبذلك يتمرد الكاتب عن الزمن والواقع الغريب اللامعقول في شطحاته السريالية التي تتأرجح بين الواقع والأحلام. ولم يجد الكاتب حلا ناجعا ليخلصه من سرعة القطار وازدحام البشر وحيرة الإنسان سوى الانبطاح تحت عجلات القطار لينسحق انصياعا وانتحارا قصد أن يعيد للحياة توازنها وأن يعطيها مغزى ، و أن يقدم معنى حقيقيا لهذا الوجود العابث الذي يعيش فيه الإنسان تائها حائرا تنهشه الوحدة والغربة والحزن القاتل:"ركبتاي لا تقويان على حملي، القطار يترنح باتجاهي والأرض تميد تحت أقدامي... نظرت حولي، حدقت في قضبان السكة الحديدية التي تشابكت خلف السرعة الجنونية للقطار... وتحت العجلات النارية رأيتُني ألملم قسمات وجهي التي تناثرت مدعوكة تحت صليل الفولاذ والفرامل والضجيج... "

وتبلغ المأساة ذروتها التراجيدية في حكاية" الموؤودة" التي تعبر عن عقدة أوديب التي أصبحت تميمة وجودية، وتحيل على الجريمة الثقافية الأولى، وتوقد الصراع بين الإيروس والتناتوس والأب والابن حول سلطة الوجود . وتعيدنا الحكاية إلى الزمن الأنتروبولوجي وصراع الغرائز البشرية واقتتال البشر وصراع الآباء مع الأبناء. وبذلك تدين القصة موت الأبرياء على شواطئ الاغتراب والملاذ الواهم قصد الابتعاد عن سطوة الأب وتجبر الاستبداد:" ها قد وصلنا إلى الشاطئ الموعود، لا داعي، أبي، لأن تنبش البحر بيديك. يقال بأن يديك دافئتان... أما أنا فلم أشعر بدفئهما يوما... لا داعي إذن لأن تلطخهما ببحر سيضم جسمي الكريه... جسمي الموبوء بخطايا لم أقترفها إلا في خيال الوثن والتميمة... والخيمة والقصيدة...

لا داعي لأن تلطخ يديك ودعني أنهش البحر بأنيابي ومخالبي... كيما أثاوي جراحي ورجائي المكتوم... كيما تستعيد أنت كبرياءك المهزوم! دع أنيابي ومخالبي... وعيوبي ومثالبي، تشيد لك صرحا يسند كبرياءك المهزوم!

كنت أشك في آدمية الوثن والخيمة والقصيدة...

أشك الآن في آدمية الوثن والخيمة والقصيدة... وأبي...

ها قد حانت لحظة انتصارك: لحظة تستعيد فيها الاعتبار من "الشيطان" الذي يسكنني، وأنا في عمر الزهور... لأنك أنت أبي الذي طالما ضاجعت النساء القذرات... ستقضي على الفجور؟!

ها قد جاءت لحظة انتقامك... وأنا أنهش البحر بأنيابي، أعب مياهه الأجاج حتى الثمالة، كي تستعيض أنت عن عارك... سأغوص في رماله حتى آخر خصلة في رأسي... سأنام سنة أو سنتين... ثم ستتفتق لينة من رحمي المحموم، فانتزعها كي ترضي الوثن والتميمة، وتستعيد كبرياءك المهزوم! ".

وتتخذ قصة "المجذوب" أبعادا رمزية وفلسفية إذ تصور أستاذا مجنونا مغرما بالإبداع والكتابة والتلذذ بالسيقان والاحتكاك بالأجساد الفاتنة . وسينتهي به القدر إلى الموت والانتحار الأبدي لتصبح حياته معلقة بعد أن تركته حبيبته وحيدا يجتر أحلامه وهلوساته الحمقى:"في اليوم الموالي سمعتهم يقولون بأن "المجذوب" قد انتحر بعد أن أحرق كل أوراقه، وحدي كنت أعرف بأنه لم يحرقها كلها، وما أرجوه الآن، بعد مرور عشر سنوات من الأرق والعذاب، وتأنيب الضمير، هو ألا تكون الورقة التي اختلستها ذاك المساء هي التي تسببت في انتحاره.

اليوم، وبعد مرور كل هذي السنين، وأنا أفتش بين أوراقي القديمة عثرت على تلك الورقة: سر المجذوب، ولأن السر لا يسمى سرا إلا لأنه يفشى، فإنني سأبوح به... لعل البوح يحمل لي بعض الخلاص."

وقد كتب الكاتب ملحوظة للقارئ الضمني الذي سيتفاعل مع النص بأن يستكمل مشروع هذه القصة المفتوحة للبحث عن سر اختفاء المجذوب الشخصية المفارقة :" إذا أردت، عزيزي القارئ، تتمة الحكاية فما عليك إلا أن تفتش عنها في الرماد، أي رماد، لعل العنقاء تتكشف لك يوما...".

ويسخر الكاتب في قصة "آخر المقامات" التي انتحى فيها منحى التأصيل التراثي من قسوة الإنسان وشراسته في تعامله مع أخيه الإنسان والتي استدعى فيها شخصية بديع الزمان الهمذاني الذي قتله رجال عصره حيا وتركوه في القبر ينطح قدره ومصيره الوجودي .

وتؤشر القصة على عبثية الإنسان وفراغ روحه وفقدانه للقيم الإنسانية وتحول الإنسان إلى ذئب لأخيه الإنسان كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف الإنجليزي هوبز في كتابه التنين، فالكل ينهش عظام الكل، والكل يحارب الكل. ومن ثم، أصبحت الحياة من نصيب الأقوياء والمستبدين المتسلطين كما قال شوبنهاور ونيتشه. فلا وجود للإنسان الروحي في هذا الوجود السريالي العبثي الذي تحول فيه الإنسان إلى أرقام ومعادلات رياضية ووحدات إنتاجية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الفراغ الروحي والديني وانعدام التوازن بين ماهو مادي وماهو روحي.

ومن جهة أخرى، تختل المقاييس ويصبح المجذوب منافقا، والإنسان ذئبا، ويأكل القوي الضعيف. كما ينبطح الجنون والإبداع ويموت الأدباء والشعراء في زمن العولمة وعصر الإسمنت والتقهقر البشري. وتنتهي حكاية الهمذاني بنفس بدايتها:"... يحكى أن بديع الزمان الهمذاني "نام" ذات مساء... وبينما هو ثاوٍ على الفراش دون حراك، قام أهله إليه فغسلوه وكفنوه ودفنوه، لكنه استيقظ في قبره وبدأ بالصراخ، وقد سمع بعض المارة صراخه فراحوا ينبشون عليه التراب... لكن السيف كان أسبق من العذل، ومن كل أنواع العتاب..."

وتذمرا من البشر وحقد الإنسان القاسي وغطرسة المستبد، يرصد الكاتب تجربة "السيد السنونو" ويحاول تمثلها في الأخير هروبا من الإنسان المعتدي الذي يشيء الآخر ويحنطه بنظراته القاسية وتطفله المقيت. وكأني بالكاتب وهو يختار الهروب إلى ذاته يستحضر قولة سارتر المشهورة: "أنا والآخرون إلى الحجيم". ويتحول الكاتب إلى سنونو فيهاجر عشه الآدمي ليبحث عن عالم آخر أكثر براءة وحرية وطفولة بدلا من هذا العالم الدامي الذي لا يعرف سوى الحروب الدونكيشوتية والصراعات التافهة حول الأطماع الدنيئة والأغراض الرخيصة:"وأنا، مزهو بالجناحين الذين نبتا على كتفي، مزهو برفيقتي، مزهو بقيادة الفريق... أريد أن أمتد مع الريح كثوب منشور على حبل غسيل... يريد أن ينفلت بامتداد الريح... علمت بأن الشرنقات تبحث عن غصن تتمسك به وتتدلى إلى الأسفل حتى تغير جلدها وتبرز أجنحتها... أما أنا فقد برزت أجنحتي منذ مدة طويلة... وما علي الآن إلا نشرها والتحليق مع الطيور المهاجرة... نشرت جناحي، وانسبت من الطابق التاسع، مع الريح... مع الطيور المهاجرة... وأنا أحلم بالعودة إلى عشي عند بداية الربيع المقبل..."

ويتحول العالم في قصة "وصية منتحر" إلى عالم للأشباح والأموات والكوابيس المرعبة يعيش فيه الإنسان داخل طاحونة دائرية يعبث به الزمن لينخره الاغتراب الوجودي والقلق الميتافيزيقي والسأم الشعوري وتصبح الحرية بعد ذلك فوضى وحربا ضروسا وقتلا للبراءة والطفولة الصاعدة. إنه عالم التفاهة وضآلة البشر ومحك التقزز من الوجود الذي صار فيه الإنسان كائنا إسمنتيا لايعرف قلبه لا الرحمة ولا الشفقة. ولا يريد الإنسان أن يتطهر من انفعالاته الإيروسية وغرائزه العدائية. وقد تحول الإنسان في هذا العالم الكابوسي المرعب إلى كائن جامد بلا روح ولادين، في عالم تحنطه الماديات وترشقه الفضائح الشبقية والنعرات الحاقدة:" أشجار من إسمنت، وصدور من الإدريج، وعواطف باردة كألواح الثلج، أشياء لا تثير فيك إلا الاشمئزاز والقشعريرة... وأطفال الناس تائهون... ضائعون، كأنما لم يدركوا ضياعهم إلا بعد أن أُولجوا الملجأ، وغلّق العالم العلوي أبوابه وتركهم بالخارج! بأسفل سافلين، كالأشياء الأخرى، كالأشكال الهندسية الأخرى، كالإسمنت، كالإدريج، كالثلج... وككل ما يبدو أو يغيب، كهذا الحلم الذي يراودني على نفسي، يشتتني ثم يجمعني، وأرزح تحت ثقل لا أعرف عنه أي شيء ما عدا ثقله، وأرفع صوتي بالصراخ... يخيل إلي أن الأرض زلزلت زلزالها من صراخي، وأن العالم كله قد قُضّ مضجعه... لكني صرخت ولم يسمعني أحد سواي!؟".

ويختار الكاتب في الأخير أن يترك هذا العالم الشاذ الذي يتخبط في الغرابة والغموض والحيرة القاتلة والأسئلة الشائكة ليلعن هذا الوجود ويمزق رقعته العابثة ومصيره التافه في ظل اللامعقول وشرنقة التيه والضلال بحثا عن طاحونته ليواري فيها نفسه:"... دعوني أنام... دعوني أعود إلى طاحونتي التي لا تنفك عن الدوران... دعوني فقد كتبت وصيت:

– "أيها العالم/الماخور ماذا أكتب على بابك

  • "أتركك غير آسف عليك..."

هذا، وينطلق الكاتب في مجموعته القصصية من رؤية سريالية تتسلح بالأحلام الفانطستيكية للهروب من الواقع المرعب، لذا تصبح الهلوسة والكوابيس الهذيانية المخيفة نوعا من العذاب الوجودي والنفسي بسبب عقدة الذنب التي يحس بها الكاتب مادام يعيش فراغا روحيا وينأى عن الحقيقة الجوهرية التي ستعيد له التوازن والاستقرار. كما يستند الكاتب إلى رؤية وجودية عبثية قوامها القلق والحزن و التحرر النفسي من شرنقة القيم والطابو الأخلاقي. وتذكرنا عبثيته القاتمة في هذه القصص بفلسفة سارتر وألبير كامو ؛لأن الكاتب يجتر حياة الغثيان والتقزز النفسي والقرف الوجودي.كما يبحث الكاتب جاهدا وبدون جدوى عن الإنسان الحقيقي في الإنسان المعاصر الذي غيبته الماديات وحنطته الأطماع البشرية، بينما هو قد تم امتساخه إلى وجوه مشوهة عابثة ضائعة بين الحيرة والقلق .

  1. المستوى الفنــــي:

يجرب الكاتب أنماطا سردية متنوعة يمتح قوالبها من التراث السردي مع الانفتاح على النقد السردي المعاصر. إذ نجد الكاتب ملما بنظرية التلقي وجمالية القراءة وانفتاح النص كما عند أيزرIZER ويوسYAUSS وأمبرطو يكو U.ECO. وكل هذا رغبة في إشراك القارئ ليدخل عالمه التخييلي الافتراضي من أجل أن ينسج خيوط الحكاية ومشروعها السردي انبناء ودلالة. و نجد هذه الطريقة في استحضار المتلقي عند محمد برادة في "لعبة النسيان" ، و عبد الله العروي في" أوراق" ، وعمر و القاضي في"الطائر في العنق" ...

هذا، وقد استخدم الكاتب أبنية سردية متعددة الأشكال، إذ وظف البناء الدائري ( العزافة)، والبناء الجدلي المتماثل في (السيد السنونو)، والبناء النفسي (القطار في السادسة مساء) ، والبناء المفتوح ( المجذوب)، وهذا التعدد في الأبنية السردية وتنويع معمار القص دليل على مدى تمكن الكاتب من أدواته القصصية وتقنياته الحكائية وانفتاحه على الإبداع القصصي والروائي العربي والعالمي.

ويشرك الكاتب قارئه في تحبيك بعض القصص كقصة "المجذوب"، بينما هو يتولى تحبيك القصص الأخرى وتبئيرها بالحذف والتكثيف والإدهاش والإغراب والامتساخ الفانطاستيكي والهلوسة السريالية والعبثية الوجودية.

وتتسم الشخصيات في هذه المجموعة القصصية التي دبجها عبد العزيز غوردو باللاتحديد وانعدام الهوية وغياب الاسم الشخصي والعائلي. وتذكرنا هذه الشخصيات المهترئة المتآكلة بشخصيات كافكا وكتاب الرواية الجديدة التي أصبحت حشرات أو أشياء أو أرقاما مستلبة . ومن ثم تتميز الشخصيات في هذه المجموعة بالصفات المتناقضة مع سلوكها" المجذوب"، أو بالسمات العائلية كالابن والأب أو بالوظيفة الاجتماعية كالأستاذ والخادمة...وهكذا تضيع الشخصية في عالم عبد العزيز غوردو، وتصبح شخصية عبثية ترى الوجود سأما وقلقا وعبثا في عبث. إنها شخصيات الكاتب مريضة تعاني من الهذيان والانفصام السيكولوجي وعقدة الانطواء وعقدة الذنب.

ويتأرجح فضاء القصص بين فضاء منغلق يشرنق الكاتب بالحزن والوحدة والغربة المميتة( المنزل، الغرفة، المطبخ، العمارة، النافذة...)، وفضاء العتبة ( المحطة، الشارع، الخارج، الفضاء الفارغ، الماخور...) الذي يتميز بالمواقف الحرجة والمأساة والسقوط والهزيمة والانتظار واليأس القاتل. وهذا النوع من الفضاءات توظفه كثيرا القصص والروايات المعاصرة التي تعلن موت الإنسان وضياعه واغترابه في عالم تراجيدي تخلى عنه الإله حسب الوجوديين المأساويين المتشائمين.

ويعبق الوصف بالتكثيف والإيجاز والحذف والإضمار، كما تتقطر الصور الوصفية بالنعوت والتشابيه والأحوال والمجازات والأفعال الوصفية المعبرة. أي إن الكاتب لايستخدم الوصف الاستقصائي عند الواقعيين كبلزاك وفلوبير وستاندال أو الوصف كما لدى نجيب محفوظ وعبد الكريم غلاب، بل يستعمل الوصف الشاعري المقتضب الموحي بأحداثه وأفعاله المتوترة.:"في عمق الحلم رأيتني أتجول داخل حقل شوفان، عاري الرأس حافي الأقدام... في الطرف الآخر للحقل تنتصب فزاعة ضخمة، متشحة بالسواد وهي تمسك منجلا مصقولا يتطاير الموت منه... تماما كما كان "هوغو" يصور الموت في مؤلفاته... وأنا عاري الرأس حافي الأقدام: أطأ الشوك فيدميني، والحقل فارغ إلا مني... حتى الطيور هجرت هذا الحقل المشؤوم... وحدها الفزاعة المرعبة تنتصب قبالتي لا تحرك ساكنا... لكنها تشدني إليها بجاذبية قوية... أريد أن أقاومها، أغرز أقدامي في الأرض، لكنها تقتلعني من جذوري كأزهار الأقحوان، وتسحبني إليها... هكذا، خطوة خطوة... تشدني إليها بينما تنتصب هي دون تحريك أدنى ساكن، والمنجل الصارم بين يديها... أحاول أن أسير في اتجاه آخر لكني لا أستطيع... شيء ما يدفعني نحوها بقوة، ورجلاي داميتان كأزهار الأقحوان... لم يعد بيني وبينها غير مسافة قصيرة... خطوة أو خطوتان... عيناها الناريتان أوقدتا في وجه ليس بوجه، ودثارها الفولاذي كأنما هو قطعة منه، أو امتداد له! وفجأة، وبسرعة البرق كمارد من الجان، لم أشعر إلا والمنجل السحري يلف عنقي بقوة: يحتز رأسي البائس الذي تدحرج مخضبا بدمائه... وبقيت عيناي في محاجرها تحملقان في جسدي المترنح تارة... وتفترسان الفزاعة التي عادت إلى وضعها الأول الساكن، تارة أخرى... ثم صرخت...."

في هذا المقطع يتصاعد إيقاع الوصف ليجسد عالم الرعب والموت والأحلام الزائفة عبر تشغيل أفعال نفسية وحركية تزرع الخوف في نفسية المتلقي وتطهره من نوازع الشر والانفعالات السلبية.

وتتحرك أهداب الوصف الرائعة عبر النعوت المترادفة المتعاقبة والأفعال المتراكبة وعبر التشابيه المتماثلة علاوة على الصور السردية التي تساهم في تحبيك القصص وتأزيمها حدثيا وسيكولوجيا.

وتنبني الرؤية السردية على المنظور الداخلي أو الرؤية المصاحبة "مع" لتتساوى الشخصية مع السارد في المعرفة وتتبع الأحداث. وتقربنا هذه الرؤية السردية الذاتية من الرواية الجديدة والرواية المنولوجية التي تقوم على هلوسات تيار الوعي والتمزق النفسي واستخدام التذويت كما نجد ذلك عند جيمس جويس وفيرجينيا وولف ومارسيل بروست...

ولكن الكاتب يثري مجموعته القصصية بتنويع الضمائر منتقلا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغياب والمخاطب عبر جدلية الالتفات السردي وبلاغة الانتقال وتغيير المنظورات الانعكاسية.

وإذا كان زمن القصة مبهما وغير محدد إلا أن الأحداث تحيل على الفترة المعاصرة التي فقدت الإنسان ومات فيها الكائن البشري الذي تحول إلى حجر إسمنتي بدون روح أو قلب أو إنه عالم بدون قلب.

أما زمن السرد فهو زمن متنوع يجمع بين الزمن الدائري والزمن المفتوح والزمن الصاعد في جدليته كما في قصة" السيد السنونو"، والزمن التراثي المفارق الذي يترجم جدلية الماضي والحاضر والأصالة والمعاصرة كما في قصة" آخر المقامات".

كما ينساق الإيقاع مع سرعة الأحداث وهلوسات السريالية الحمقاء وعبثية الوجود الخرقاء. وتقل الوقفات المشهدية والوصفية الطويلة أمام خطاب الإضمار والحذف ليترك للقارئ فرصة المداخلة والمشاركة والمعايشة الوجدانية لملء البياض والفراغ بسواد التأويل والتدبيج.

ويندغم الحوار والسرد في بؤرة التذويت المنولوجي لاستقطار صور الذاكرة والأحلام والتمزق الذاتي والصراع النفسي الداخلي والخارجي. وتتميز الكتابة عند عبد العزيز غوردو بالشاعرية والمجاز والانزياح الحداثي واستعمال لغة حيوية متوترة ومفعمة بالحركية والانثيال المجازي وانسياب الاستعارة والتشابيه الممتعة.

وتتخذ المعاجم اللغوية حللا رمزية وأسطورية وفانطاستيكية . وتمتح ألفاظها من الطبيعة والدين والأسطورة والفلسفة والفن والأدب والذات. و تتمظهر في النص عدة مستنسخات نصية تشكل المعرفة الخلفية للكاتب:( التعويذة، هوميروس، التميمة، الوثن، بديع الزمان الهمذاني، الآلهة، الكوريدا، لوثر، ألمانا، طروادة، الغثيان....). ويبين لنا هذا التوظيف للمستنسخات النصية أن الكاتب مثقف وكثير الاطلاع على التيارات الفكرية والدينية والتاريخية لذا تجد في قصصه المتعة والفائدة على حد سواء.

استنتاج تركيبي:

ونستنتج مما سبق أن الكاتب عبد العزيز غوردو يجمع في قصصه بين التجريب والتأصيل، ويكتب قصصا حداثية تدين موت الإنسان المعاصر،وتنطلق من فلسفة إنسانية تقوم على الطرح السريالي والعبثية الوجودية التي تأسر الإنسان في دوامة العبث واليأس القاتل.

وتمتاز الكتابة القصصية لدى الكاتب بروعة التصوير وحسن التشخيص واستعمال الرمزية والأسطرة والامتساخ في التعبير ، كما يوظف لغة شاعرية موحية تتقطر شهدا بفضل حيوية الأفعال ومجازية الصور الموحية وعبق التراكيب التي تترنح ثمالة من كثرة الاستعارات والتشابيه واللغة الميتاسردية والخطاب السردي الشاعري .

ويبدو أن عبد العزيز غوردو ولد كاتبا كبيرا ولم يبدأ كاتبا صغيرا على غرار بعض الروائيين المغاربة، لأنه أثرى مجموعته القصصية بحكايات ممتعة تغري بالمتابعة النقدية والمعايشة الوجدانية.

وإذا لم تقتنع- أيها القارئ الكريم- بأحكامي وانطباعاتي التقويمية فما عليك إلا أن تقرأ مجموعة هذا الكاتب القدير لتتأكد بنفسك من حلاوة كتابته الأسلوبية وروعة بلاغته القصصية المثيرة. فابدأ كتابة حاشيتك على تعليقي الذي وضعته في أسفل المتن، وأنا أنتظرك عند عتبة النص لنفض معا بكارة الحكايات ونرتوي من لذة الكتاب.

ملاحظة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون الناظور؛

jamilhamdaoui@yahoo.fr

 

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا