ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

الحب والموت في ديوان" ما أوسع الموت فيك" لحليمة الإسماعيلي

د. جميل حمداوي - المغرب

 

تمهيــــد:

كل من أراد الحديث عن الكتابة الشعرية النسائية في المنطقة الشرقية من المغرب الأقصى لمعرفة ملامحها الدلالية وخصائصها الفنية والشكلية وأبعادها الوظيفية وقسماتها الشعرية والإبداعية فلابد أن يستحضر الشاعرة حليمة الإسماعيلي من مدينة جرادة، ونزيهة الزروالي من مدينة الناظور، وفاطمة عبد الحق من مدينة فجيج. بيد أن شاعرتنا حليمة الإسماعيلي تتميز بعنفوان الذات وشموخ الأنا والتأرجح بين الرومانسية والمأساوية في التعبير عن الكينونة الذاتية والعوالم الداخلية والتقاط مرهف لجدلية الأنوثة والذكورة كما في ديوانها الممتع" ما أوسع الموت فيك" الذي سنحاول قراءته على ضوء المقاربة المناصية.

1- المستـــوى المناصي:

صدر ديوان" ما أوسع الموت فيك" عن مطبعة الجسور بوجدة سنة 2004م بعد ديوانها الأول "عطش " الذي تلفظته مطبعة فضالة بالمحمدية سنة 2002م. ويضم ديوان" ما أوسع الموت فيك" خمسا وستين صفحة من الحجم المتوسط وثماني عشرة قصيدة من الشعر المنثور أو ما يسمى كذلك بشعر الانكسار. وقد تذيلت هذه القصائد بحيثيات النشر التي تحيل على مكان الإبداع وزمن الكتابة، وكتبت القصائد ما بين 2001 و2004م في عدة مدن مغربية كالناظور وجرادة ووجدة وطنجة وفاس ومكناس والرباط والدار البيضاء وسلا والمحمدية والقنيطرة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على سفر قصائد الشاعرة وارتحالها في الزمان والمكان لمعانقة الأحلام وجدلية الحب والموت.

وإذا تأملنا اللوحة الأيقونية الخارجية للديوان والتي رسمها الفنان العراقي فراس عبد الحميد سنكتشف مقصدية الديوان وبؤرته الدلالية التي تتجسد في انغماس الشاعرة في بحر الحب والأحزان والأوجاع والأحلام الضائعة والبحث عن السعادة في عالم السراب والأوهام الحزينة والآهات الدفينة. وهذا ما تقوله كلمات الغلاف الخارجي التي تؤسس لفعل الجنون والاغتراب والانسحاق أمام طوفان الجروح المميتة والبكاء الغامر والعدم الأسيف:

ياطوفان الويل

ضم أوهامي

راحل...

في الجرح ألمي

وعمري من التشهي

يموت،

غائر...

في الدهر عدمي

وجنوني قميص

بلا أزرار،

فابكي:

يا وجعي.

يرد العنوان الخارجي في صيغة التعجب المضمر الذي من خلاله تعزف الشاعرة على أوتار الأنا المتوجعة والتذويت المتآكل ، وتنقر على إيقاعات التراجيديا ونغمات الموت والضياع والحزن والغرق الأبدي في عمق الفضاء الأزرق الذي يشوبه سواد النفس وسراب الحلم وتيه الإحساس. بينما ترد العناوين الداخلية في مركبات اسمية تحيل على الصمت والحزن والموت والحب الذي تعضه الأشواك على غرار أنات نازك الملائكة الشاعرة العراقية في دواوينها الحزينة " عاشقة الليل" ، و"شظايا ورماد"و " قرارة الموجة".

ويتخذ الإهداء بعدا شاعريا وروحا عرفانية تتقطر بالوجد الصوفي والوله الرباني والحب الذي ينفطر حزنا بين كمد التيه و دروب الأشواك الموجعة والأمواج الصارخة بعباب العطش المر.

وبعد سفرنا في هذا الديوان الشعري وارتحالنا في دهاليزه ودروبه الشائكة توصلنا إلى أن الشاعرة حليمة الإسماعيلي تبدو رومانسية في كل قصائدها الشعرية التي تتغنى فيها بالحب الذي يقتات بالوحدة والغربة والحزن والضياع، وتغمره الآهات الأليمة والأنات الموجعة. وتندب الشاعرة سعادتها التي ضاعت بين سراب الأحلام وسرداب الأوهام؛ مما جعلها تغرق في بحر الموت عطشا ويأسا بعد أن تحولت سعادتها إلى شقاء مأساوي يحاصر الشاعرة بالبكاء والانكسار الذاتي والاضمحلال الشعوري في غربة الأيام الضائعة. وتشارك الشاعرة في هذه الرومانسية الحالمة الحزينة المبدعة الناظورية نزيهة الزروالي التي لا تتخلى عن البكاء و اسقطار أناشيد العزاء والحب الضائع بين غربة الروح وموت الأم المفقودة عبر الذاكرة المكلومة بالأحزان.

2- المستوى الدلالـــــــي:

يستند ديوان الشاعرة حليمة الإسماعيلي " ما أوسع الموت فيك" إلى مجموعة من التيمات الدلالية والوحدات الموضوعية التي تنسج مقصدية الديوان وشبكية المعنى والتأويل . ويمكن حصر هذه الدلالات في العناوين الموضوعاتية التالية:

  1. تيمــــة الحب:

تتغنى الشاعرة بالحب في معظم قصائدها الشعرية لتبحث عبر لغة الاشتهاء والتمني عن لحظة سعادتها في الارتماء بين أحضان الدفء وخلجات الفؤاد والسفر عبر شرايين الوجد والعشق بحثا عن عبق الإحساس وعطر الخلود وسكر الجمال وشهد الخيال:

أنى قادك الهوى

ونطق الحس بالشغاف

وبالجوى

ستذكر خافقي البكر

وظمأ وجد يستجدي

المزيد بلا ارتواء،

فأحبك

فوق ما في الحب من حب

وفوق ظمإ الصب لصب

وفوق الخيال وفوق النهى

وفوق احتمال الوعد المشتهى.

ستذكر فؤادي الغر

حين توجك أمير روحي وبدني

وسيد وقتي وزمن زمني.( ص:13)

ويتبرعم الحب بابتسامة الآخر وانجذابه نحو ضحكة المنى وسعادة النفس وانفتاح الطبيعة بجمال الروح و عبق الحياة:

الحب

يبدأ من هنا

من ضحكة عينيه

حين تعزف

أطياف المنى

باختباء كفيه

خلف سوسنة.(ص:39)

وتغرق الشاعرة في حب شهريار ليتحول إلى داء عضال تكتبه الشاعرة على جدران المدينة لتعلنه في الناس عرسا وحلما وطفولة وقوس قزح، وتتغزل الشاعرة بوسامة حبيبها لتجعله قدرا لها وبدرا تستظل به في أيامها الحالكة وحياتها الباقية:

كم شهرزاد ستكفي

لتحكي لك عن فستاني للفرح

ينتظر العرس

أو مواسم للبلح

كطفل صغير

بلعبته مرح

كحلم

شكله الفل واللون

قوس قزح؟

كم شهرزاد

ستكفي

لتحكي لك:

أنك قدري

وعينتاك نجمتان

ترصعان عمري...؟

فقدرك أن تكون حبيبي

وطلة البدر الضاحك

في دربي...

ياسيدي،

هوى القلب،

وركض في السهل الفسيح

وغفا كالبلابل

على صدر حبيبي

منذ موعدنا الأول،

موعدنا الذي لم ينته

حين فاجأني فجر عينيك

فانشق قلبي

إلى شطرين

وولدت مرتين

....

قدرك أن تكون

حبيب معتوهة مدمنة،

كتبت اسمك

على جدران المدينة

وقدري أن أخاف حبك،

أن يكون داء بلا دواء(ص: 43-44).

وهكذا تنغمس الشاعرة بذاتها في بحر الحب سابحة في عباب الشهوة وأمواج الافتتان وجمال الخيال مشرعة يديها نحو فارس أحلامها الذي سينقذها من مهاوي السقوط ومدارك الشقاء والضياع. ومن هنا تتقمص الشاعرة دور نازك الملائكة في البحث عن الحب والسعادة لتدفئة وجدانها الذاتي من خلال الارتماء على صدر شهريار أو العاشق الولهان.

  1. تيمـــة الحـــــزن:

وإذا كانت الشاعرة قد استسلمت للحب وسعادة الروح والبحث عن نصفها الآخر، إلا أن هذا الحب سرعان ما تعضه أشواك الحزن الدامية ليتحول إلى سراب واهم ووحدة قاتلة وغربة ساكنة. ومن ثم، تثور الشاعرة على حياتها ووجودها ناقمة على حبيبها الخائن المتمرد عن طوق حبها و غواية قلبها. وهكذا، تعلن الشاعرة انكسارها وحزنها الذي يذيبها في أعماق من التيه والضلال البعيد:

قوس بقامتك يجر

صوتك الفريد،

يمارس ضد الوقت

كل الحماقات،

لاهثا يجوب

المساءات،

يتكسر الفؤاد تحت

موج الجليد،

امتد فيك يا القريب

البعيد،

أبحث عنك في الليالي

الحالكات

من خلف شرفة البريد

من خلف هاتفي الشريد

من خلف صحيفة تجتر

الانكسارات.

أتراك الآن بحزني سعيد؟

أتراك تهب سر نفسك

لإحدى البليدات

أم تراك مثلي أنا

وحيد... وحيد؟(ص:23- 24)

و يختلط الحزن في قاموس الشاعرة بالحب والموت والوحدة والغربة والألم المضني والأحلام المرتحلة لتنسج في الأخير بسواد حزنها سيمفونية الشقاء وأنشودة الانهيار وموت الإنسان:

ذاك المسافر

حين مضى

كان قلبي حقيبة

في يده،

ودمعي خواتم

تتلألأ في أصابعه،

ذاك الذي لا يدري

أنه رمى بي

على سلة الأحزان

أكان يعي

أن الحب والموت

يستويان؟(ص:41)

وهكذا تصبح الشاعرة حزينة في سربالها الأسود تندب حظها التعيس وهروب الآخر من الانجذاب إليها، ولن يجديها سوى العيش على الأحلام وعناق السراب الزائف.

ج- تيمــــة الأحـــلام:

وأمام فشل الشاعرة في حبها الكينوني وتحقيق سعادتها المثلى تلتجئ الشاعرة إلى التلذذ بأحلامها الواهمة لترسم صورا من الأمنيات التائهة :

ومازلت أرتدي الحب حلما

أخضر الحنين،

وأسافر في قمر هارب

ووجه حزين،

أعيد بناءه في وجل

وأرمم جرحه الدفين ( ص: 47).

وتتحول قصيدة الشاعرة( في الهزيع الأول من الحلم) إلى قصيدة حلمية أساسها الانتظار والحنين والشوق إلى الحبيب الذي أصبح ذاكرة للاسترجاع والتشهي والانجذاب نحو العودة المأمولة والوصال المفقود:

سيدي

خاتما بين أصابعك ضعني

عطرا بين كفيك ابسطني

وساما على صدرك علقني

ولن أقول تعبت أنزلني

وقاسمني حنيني،

تصوره رغيفا

اقسمه، وانصفني

فقط ...لاتتركني.( ص:32)

ويحبل الديوان بكثير من المقاطع الشعرية التي تجسد أحلام الشاعرة وآمالها في الحب والحياة. ولكن الخوف قد يرعب هذه الأحلام ويسكتها بالرعب والموت القاتل.

د- تيمـــة الخـــوف:

تعاني الشاعرة في مسارها الرومانسي العاطفي من عقدة الخوف التي تحول حياتها إلى موال من الجراحات المكلومة والذكريات الراكدة في بحر الألم الموجع والصمت الرهيب. ويباغت بحر الموت شاعرتنا في أحلامها الوردية بحزنه الأسود وبكائه الشجي؛ ليجعل من حب الشاعرة موضع سؤال بلا جواب، و يتركها تعانق أوهام السراب وأحلام الغد المعسول بآهات الانتظار ووعود اليأس والرجاء:

في ابتداء البحر

يكبو الخوف في سلم عمري،

وأرنو سامقة كنخلة صبح،

على ضفة الفجر

خضراء يقطر سعفي

تمرا وطينا،

يلتوي جسدي دخانا

ونافذة تطل ولا تبين

أبعدتها المسافة عن صوت جرحي

عن روح تروح

تبوح، تنوح ولا تستكين.( ص: 34)

وعليه، تستكين الشاعرة بالخوف وتنقاد وراء الأحلام التي من خلالها تستشرف الأمل في الحياة. بيد أن الشاعرة تفشل في حبها وتسقط أمام متاريس الوحدة والصمت القاتل.

هــــ- تيمـــة الصمــــت:

تتحول حياة الشاعرة إلى صمت رهيب مسكون بالألم والأمل والخوف من الفشل في الحب والارتماء بين أحضان الحبيب المعشوق. وتنغلق في وجه الشاعرة أبواب الانفراج لترتمي في قاع الصبر والصمت الموجع بسكونه الفارغ:

في ابتداء البحر

لحظات عاهرة

تعشق الممنوع،

تغافلني وتدخل روحي

آمرة آسرة كاسرة

عن عطش عن جوع

عن صبر يضيق بصبري

عن صمت يقايضني بالصمت،

قلت:هل الروح وقتان؟

قال البحر: بل الوقت روحان( ص: 35).

وتشكو الشاعرة من فقدان أملها في الوصول إلى الحب الحقيقي والسعادة المثلى لتوقع بنفسها في إسار الصمت باحثة عن القلب النابض والحب الآخر:

ومازلت تحت الصمت

أرجو وأتوسل،

وأبحث في خطو الوقت

عن نورس لايرحل،

يستوي القلب في راحتيه

ويشرق النبض على شفتيه.( ص: 46).

وتلوذ الشاعرة بالصمت ريثما تبحث عن صدر دافئ يحضنها وحب دائم يسكن الشاعرة في أحلام وردية معسولة بشهد الحياة وحلاوة الاستقرار وصفاء الوصال ونقاء الحب.

و- تيمـــة الألـــــــم:

تعاني الشاعرة من جراح الحب وألم الاشتهاء وموت الشوق وغياب الآخر، ويتحول الحب إلى جنون صاخب وبكاء عابث وانكسار لكيان الشاعرة التي تتمزق ذاتيا بين الأنا والآخر:

في الجرح ألمي

وعمري من التشهي

يموت،

غائر...

في الدهر عدمي

وجنوني قميص

بلا أزرار،

فابكي:

ياوجعي،

ياالقادم إلى الحب بلا حب

ترجل عن القلب،

إني أعد اتساعه

لاتزرع الدهشة البكر

حين أحلم بالغائب

منك ومني،

لاتستفز قبرة الفجر

حيث ينتهي غيابك عني

إلى غيابك في.

ياالقادم إلى الحب بلا حب

لا تعبث بعظامي

لا تستوطن النبضة العقيمة

فالجليد الذي أفرزه القلب

يذوب مع الليلة المقبلة.

سبع سموات طباقا

ولم تزل تعصف بي

عيناك،

كيف أحتمل الغياب

وليس لي سواك

حين أنزف:

ياوجعي.

ياالقادم إلى الحب بلا حب

إني ملآنة بك

ولو كسرت لانسكبت

في جهات الوقت(ص:6-7)

وقد يتحول هذا الجرح النازف إلى نورس أو إلى صباح مغسول بالدموع الحارة أو إلى شراع تسافر عبره الشاعرة إلى متاهات المجهول والغد الأخرس كما في قصيدتها" الوقت روحان"( ص:33).

ز- تيمـــة الاغتراب:

تجتر الشاعر في قصائدها مرارة الاغتراب الذاتي والمكاني ويصبح غياب العشيق غربة ووحدة من الصعب أن تتحمل الشاعر قسوتهما بسبب انجذابها إلى فتنة الجمال وغواية الاشتهاء ومشاعر الحب. وقد تلوذ الشاعرة بالغربة لتعانق شهد الحب وتؤنس به في وحدتها القاتمة وعزلتها القاتلة . ومن هنا، يصبح الحب مفتاح سعادتها وعلامة تلهفها واشتياقها للغائب المنتظر في الأحلام أو مذكرة الخيال:

ينبغي أن أحبك

أيا الصوت الذي عانق

غربتي،

ليرسم عربدة الريح

في لهفتي،

ويوزعني صلاة وجد،

لاتنام،

وقصيدة في هيئة امرأة

من رخام،

تفجر كالنيازك دهشتي.( ص: 25)

وتطرح الشاعرة أسئلة الذات والموضوع لترسم كينونتها المتفردة،وتهرب من الاغتراب الذي يقلقها ويجمد خطواتها ويكتم أنفاسها بسلاح الشرود وغياب العشيق:

ومازلت أرنو واسأل،

أحملق في اتساعي الملتهب،

كي لا تتجمد القصيدة

بين أكف الاغتراب

والخطوات الشريدة

تتسلق تابوت الغياب

ومازلت أرقص في الأصابع

شكوك الأسئلة،

بين نخيل مدينة حمراء

وتداعيات قلب

يستوطن جناح حمامة عمياء

ضلت في متاهات السماء( ص: 46-47).

وهكذا تتقعر تيمة الغربة في ديوان الشاعرة لتبوح بالصمت والوحدة والحزن الأسود والموت الساكن.

ن- تيمــــة الضياع:

تنسحق الشاعرة أمام متاريس الضياع والاغتراب والتمزق الوجودي والذوبان العاطفي والتشرذم النفسي من شدة صدمة الحب والعشق الغائب. كما ينخر داء الحب جسد الشاعرة ويترك فيه ندوب الزمن وكلوم التجربة الفاشلة والانتظار اللامجدي العابث. وتخاف الشاعر أن تضيع حياتها بين أشواك الخداع ووعود السراب، وتنحل إلى قطرة ماء تضيع في البحر الواسع كالورقة التائهة التي تتلاعب بها الرياح الهوجاء:

حين فاجأني فجر عينيك

فانشق قلبي

إلى شطرين

وولدت مرتين

وانبعث العمر الملفوف

بالضياع شعلة ضياء

قدرك أن تكون

حبيب معتوهة مدمنة،

كتبت اسمك

على جدران المدينة

وقدري أن أخاف حبك،

أن يكون داء بلا دواء،

وأخشى على نفسي

أن أضيع

كما تضيع في البحر

قطرة ماء.

أخاف أن تتلاعب الريح بنسمة الهواء

فلا أبقى على الأرض

ولا أصل إلى السماء( ص:44-45).

ويصبح الضياع ميسما يحدد حياة الشاعرة ويؤرق عينيها ويقض مضجعها بأحلام السراب والأمل الخادع في غد اللقاء و زمن الوصال .

ح- تيمــــة الموت:

تطفح قصائد الديوان بتيمة الموت بعد انكسار الشاعرة وارتمائها في أحضان البحر لتنبطح أمام أمواج الخيبة وأشواك الغدر وأنياب الغربة والوحدة القاتلة. ويتسع مدى الموت في قصائد الديوان لتنهش عظام الشاعرة بالرعب والصمت والتعب المضني والهلاك التائه. ويغلف الموت في الديوان بالحزن والجروح واتساع دائرة الفراق والغياب واستقطار الدموع وعبرات الجوى وآهات اللوعة المتقدة بالعتاب والعويل والانتقال من جرح إلى جرح آخر راسمة جنازة الانكسار وفشل الذاكرة في استرجاع الشوق والحنين وحلاوة الوصال واللقاء المشهود. ومن ثم تقتات الشاعرة بالأحلام المنكسرة والهذيان الطائش والاعتذار الزائف. ومن أروع قصائد الشاعر في الحب وتصوير إيقاع الموت قصيدتها" ما أوسع الموت فيك" التي تقول الشاعرة فيها راثية حياتها اليائسة المتعفنة بكثرة القلق والانتظار الممل الرتيب:

حين ينهمر من عيني الدمع

وينهض الحزن والحب والوجع،

لا تعترض طريقي منديلك

لا توقد أشكال الغيب والغياب

وحين أطرق صمتك...

لا، لاتفتح العتاب.

أهكذا؟

تغافلني وتدخل روحي

وردة تورق للأبد،

أهكذا؟

ترسمني بين الجرح والجرح

صفصافة لا تلد،

ما أوسع الموت فيك...

ما أوسع الرعب فيك!

وكما لن يسامحك الرب قط

لن أسامحك.

حين ينهمر من عيني الدمع

كيف لي أن أبكي دونما خجل

علنا مثل المطر،

الملم في الليل بوح الهذيان

وأشلاء حلم

نما، فانكسر؟

هل أتى يا مولاي

على القلب حين من الدهر

لم يكن إلا قبضة ماء؟

يحاول فض اعتذاري له

أجثو بلا راحتين

وألعن بالدمع كل ارتواء( ص:61).

وعليه، يجسد الديوان جدلية الحب والموت، وثنائية الوفاء والغدر، ولوعة الوصال وجفاء الفراق. تكشف الشاعرة أنوثتها وافتتانها بذكورة الغياب عبر الانجذاب والارتماء في أحضان الدفء الرجولي الذي لا يعرف سوى لغة الخداع والغدر. وهكذا تثور الشاعرة على الغدر الرجولي وتسقط صريعة الحب الفاشل الذي حول كيانها إلى جثة هامدة يسكنها الرعب والخوف وينخرها إيقاع الوحدة والغربة والسكون الهامد.

وهكذا، تبدو الشاعرة في ديوانها الجميل رومانسية من رأسها إلى أخمص قدميها، وتذكرنا الشاعرة بتجربة نازك الملائكة في بحثها عن السعادة والتغني بالوحدة والانتظار والملل اليائس.

3- المستــــوى الفني والجمالي:

تستند الشاعرة في ديوانها " ما أوسع الموت فيك..." إلى تجربة شعر الانكسار أو ما يسمى بالشعر المنثور حيث تنزاح الشاعرة بقالبها الشاعري الجديد عن مقومات الشعر الكلاسيكي المتوازي الشطرين وقصيدة التفعيلة بوحداتها الإيقاعية التي تتناثر بياضا وسوادا في شكل جمل وأسطر شعرية.

وتتخذ قصائد الديوان أنماطا فضائية متنوعة كالفضاء البصري المتداخل في جل قصائد الديوان والفضاء السيمتري المتوازي الشطرين كما في قصيدتي" خفقة" و"جريدة". ويلاحظ هيمنة البياض على تشكيل قصائد الشاعرة ماعدا القصيدتين السابقتين اللتين يتماثل فيهما البياض والسواد بشكل تناظري.

وتتسم القصائد بالاتساق والانسجام الدلالي والتركيبي؛ مما ينتج عن هذا توفر الديوان على الوحدة الموضوعية والوحدة العضوية. وتساهم الضمائر وأسماء الإشارة والتكرار والعنوان والألفاظ المحورية البؤرية علاوة على الترادف والمعرفة الخلفية وسيناريو الحب والموت وخطاطات التجربة العاطفية ومدونات الأنوثة والذكورة في خلق اتساق النص اللغوي وانسجامه الدلالي والمعنوي.

وعلى مستوى البناء، توظف الشاعرة القصيدة الغنائية بكثرة، بيد أنها تشغل القصيدة الحوارية وخاصة في قصيدتها" هكذا نطق البحر" لتخلق الصراع الدرامي والتوتر النفسي و التأزم النفسي المشحون بالانفجار الداخلي والتمزق الوجودي والعاطفي.

وعلى الرغم من كون الشاعرة تعتمد على الشاعرية النثرية إلا أنها وفرت لقصائدها إيقاعا داخليا يهتز بالموسيقا والهرمونيا والنغمات المتشاكلة بالترادف الصوتي والتكرار الفونيمي وتتابع المونيمات المتشابهة صوتيا. كما يقوم التوازي اللفظي والصوتي والتركيبي بخلق سيمفونية التآلف والانجذاب النفسي :

أي شرخ غواك

في نزق الموج؟

أي موت سباك

في ألق البوح؟

قرأتك في وجه الليل

أحجية مرة اللغز،

أمنية مكتوبة بالجمر

ولهى

أطوف مفتونة بالذهول

ظمأى

أشيع نعش الفصول،

صدري عزاء وجرحي مرايا روحي موات

جسدي رفات( ص: 1)

وتستعمل الشاعرة اللازمة الشعرية وتكرار الكلمات لإثراء نصوصها الشعرية موسيقيا وإيقاعيا كتكرار عبارة( في ابتداء البحر) في قصيدة "الوقت روحان"، و(مسافرة) في قصيدة" مسافرة على خط الرعب". وتتوازى الأصوات بكثرة في قصيدتي "خفقة" و"جريدة" ، وتطفح الأصوات المهموسة ( الهاء والحاء والكاف والتاء والشين...) في الديوان بأنات الأسى والرعب وسكون الموت وجدلية الحب والرعب.

وإذا كانت القافية موحدة في "خفقة" و"جريدة"، فإن القصائد الأخرى تنبني على القافية المتنوعة رويا ووصلا وحرفا ، بما فيها القافية المتقاطعة( أ- ب- أ- ب) كما في هذا النموذج الشعري :

ولهى

أطوف مفتونة بالذهول

ظمأى

أشيع نعش الفصول( ص: 1)

كما تشغل الشاعرة القافية المتعانقة ( أ- ب – ب- أ) كما في المثال التالي:

صدري عزاء وجرحي مرايا

روحي موات

جسدي رفات

يكفن ذل الحنايا( ص:1-2)

وتشغل الشاعرة كذلك القافية المرسلة ( أ- ب- ج- د...) كما في المقطع التالي:

ينبغي أن أحبك

أيا الصوت الذي عانق

غربتي،

ليرسم عربدة الريح

في لهفتي،

ويوزعني صلاة وجد

لاتنام،(ص: 25)

وتتكئ الشاعرة في تركيب قصائدها على المزاوجة بين الجمل الفعلية الدالة على الحركة والتوتر المشحون بالصخب والحركية النفسية، والجمل الاسمية الدالة على الثبات والتقرير والتأكيد والتخصيص. كما تستعمل التقديم والتأخير حصرا وقصرا وتخصيصا لخلق شاعرية المجاورة وإبداعية التأليف في علاقة مع المحور الاستبدالي التعويضي كما في هذه الأمثلة التي تخضع للانزياح التركيبي على مستوى خلخلة الرتبة :

لاهثا يجوب،

وحده يعبر نحوي بوعود،

وأنا أتواطأ مع الريح...

وتمتاز لغة الشاعرة باختيارها لألفاظ رومانسية شاعرية تتقطر رقة وأنوثة ورهافة مستعملة حقولا دلالية تحيل على ثنائية الحب والموت كحقل الذات وحقل الحزن وحقل الطبيعة وحقل الغربة وحقل الخوف والرعب. وتدل هذه الحقول على مدى تأرجح الشاعرة بين الحياة والموت وبين العشق والجفاء. وتتأثر الشاعرة كثيرا بالعراقية نازك الملائكة في لغتها ومعانيها سواء عن وعي أم بدون وعي.

وتستحضر الشاعرة مجموعة من المستنسخات التناصية والمؤشرات الإحالية التي تسعفنا في فهم الديوان وتفسيره، وتشكل هذه المستنسخات مجموعة من الخطابات التي تتفاعل داخل المتن الشعري كالخطاب الصوفي والخطاب الديني والخطاب الأدبي ( التكوين، طوفان، سبع سموات طباقا، سبحان من أسرى بروحي، على عرش الجوى استوى، عصي الطوع شيمته الدمع...). ولقد توفقت الشاعرة في تطويع هذه المستنسخات التناصية وأحسنت امتصاصها وتوظيفها بطريقة تفاعلية جيدة.

وتزخر قصائد الشاعرة بالصور الشعرية القائمة على الانزياح البلاغي والمجاز والاستعارة التشخيصية التي تستهدف الإحياء والأنسنة مع توظيف التشبيه والرموز الطبيعية والدينية واللغوية والمكانية. ومن هنا تتجاوز قصائد الديوان الصورة الوثيقة نحو الصورة الرؤيا التي تشع إيحاء وتلميحا. ولكن صور الشاعرة واضحة وموحية بعيدة عن خاصية التجريد والغموض الفني .

وتطعم الشاعرة قصائدها الإيحائية بتنويع الأساليب الإنشائية الطلبية وغير الطلبية ، إذ تستعين في تعابيرها الشاعرية بالاستفهام والتعجب والنداء والتمني والرجاء والأمر والشرط والندبة والتحسر . وتحضر في مقابل هذه الأساليب الإنشائية الجمل الخبرية المثبتة بالتأكيد والتصريح الفعلي أو الاختصاص الاسمي.

وتلتفت الشاعرة عبر ضمائرها التي تتنوع تكلما وخطابا وغيبة إلى ذاتها العاشقة والحبيب الغائب والحب المغيب، وكل هذا من أجل أن تجسد معاناتها التراجيدية وتأرجحها بين الحب الفاشل والموت المحقق.

خلاصة تركيبية:

كل من يقرأ ديوان حليمة الإسماعيلي " ما أوسع الموت فيك" فبكل تأكيد سيخرج بانطباع واحد هو أن صاحبة هذا الديوان شاعرة متمكنة من أدواتها الشعرية ومرهفة الأحاسيس وصادقة في مشاعرها ووفية في حرقتها ولوعتها وفي تجاذبها بين الحب والموت. كما أشيد أيما إشادة بقصيدة " ما أوسع الموت فيك" باعتبارها أحسن قصيدة شعرية في الديوان؛ لأن الشاعرة نسجتها بأنامل مرتجفة بالحب الغامر ودقات القلب النابض والوجدان الطافح بالأنات والآهات الحزينة. وتنتمي الشاعرة من خلال تيمات الديوان وأجوائه الدلالية و خصائصه الفنية و أبعاده المرجعية إلى الاتجاه الرومانسي في حركة الشعر العربي بالمنطقة الشرقية إلى جانب الشاعرة الناظورية نزيهة الزروالي .

وعلى الرغم من نثرية هذا الديوان فإن الشاعرة استطاعت بكل شاعرية أن توفر الإيقاع لقصائدها عبر اختيار تقنية التوازي والتعادل الصوتي والتماثل اللساني. وقد أحسنت توظيف المستنسخات التناصية توظيفا سياقيا جيدا . وأتمنى أن تجرب الشاعرة في المستقبل الإيقاع الخليلي للتحكم أكثر في سيميترية الفضاء البصري والتشكيل الإيقاعي والزمني.

ملاحظة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون بالناظور المغرب/

jamilhamdaoui@yahoo.fr

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا