ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

أزمنة من غبار وثقافة الانتماء

د. وجدان الصائغ - العراق

 

(تكريم الجيل الجديد للجيل القديم  يكمن في استمرار التواصل وعدم التنكر لجهوده  )

المقالح

 

          يجترح ناصر عراق في منجزه الروائي (ازمنة من غبار) – الصادر عن دار الهلال عام 2005 -  خطا روائيا مغايرا للسائد السردي  يعيد الى ذاكرتك مقولةجورج ماي ( اننا حين ننحني على كتف نرسيس ، فانما لنرى وجهنا لا وجهه منعكسا على صفحة الماء) وتحديدا حين يشكل شخصية بطل الرواية خالد عبدالعزيز  ومعشوقته سهى نصار اذ يمنحك سانحة ان تنظر الى وجهك عبر مرايا السرد التي مازجت بين اليومي والسياسي  والايروتيكي بشكل لافت كما يمنحك ايضا سانحة ان تبصر ملامح كمال عبدالجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين – قصر الشوق - السكرية)بل ومحبوبته عايدة شداد لخلق حالة من التمازج والانتماء الطريف بين الاجيال الروائية الا انك بالضرورة ستلمح صيرورتهما فخين للقراءة العجلى وكما ستفصح عنه السطور اللاحقة ،لتكون (ازمنة من غبار) برمتها  بيانا روائيا يوثق الانتماء الى الذاكرة الثقافية والجذور السردية العربية ويشرئب صوب مستجدات العصر وخصوصياته التراجيدية  ووفق انساق ترميزية مسكونة بالدهشة وستقف اوراق التأويل عند حركة كاميرا النص المحمولة وهي تلتقط صورة لخالد عبدالعزيز وهو يلبس قناع كمال  عبدالجواد ويُلبس حبيبته سهى نصار قناع عايدة شداد تارة وتارة اخرى وهو يمزق هذه الاقنعة ليكون افق التلقي امام انوات نابضة تحمل نبرات صوتها الخاص بمعنى انه يوظف ثقافة عصر باكمله مميزا عمله الروائي بمستجدات وسياقات مختلفة تماما عن سياقات الثلاثية لانك سترى ان رواية ( ازمنة من غبار) -التي استوعبت وعبر صفحاتها   المائتين والثنتين والاربعين ثلاثة اجيال (الاب عبدالعزيز  والابناء خالد وعادل واحمد وشريف وابتسام والاحفاد ايمن و... ) -  قد انطلقت من نكسة 1967 لتؤرخ لموت جمال عبدالناصر ولاغتيال السادات و سقوط الفكر الماركسي وانتهاء بهزيمة العرب المعاصرة المتمثلة بغزو العراق للكويت وتداعياتها وما طرحته من شرخ  في الذاكرة الثقافية والتاريخية والقومية التي قادت الى سقوط بغداد واحتلال العراق لتستبطن واقع المثقف العربي متمثلا في شخصية خالد عبدالعزيز  التي تتماهى بشكل شفيف  مع ناصر عراق وقد اكد هذا التأويل الاضاءة المشفرة التي تصدرت الرواية وجاءت تحت عنوان اهداء:(الى ذكرى ابي وامي … الى اشقائي الكبار ابراهيم وفكري وماجدة والمرحوم فوزي … الى صلاح اخي الصغير ... ) لتجد بان التعداد العائلي لناصر يتماثل مع التعداد العائلي لخالد فثمة خمسة ذكور وانثى واحدة واخ شهيد بل انك تجد ان ناصر يضع سيرته الذاتية في الصفحة الاخيرة بتوريخات تقترب من توريخات خالد عبدالعزيز لتكون الرواية برمتها سيرة للمثقف العربي الذي وجد نفسه محشورا في خضم عارم من التحديات الايديولوجية واللافتات السياسية التي تشتغل على تدجين الذات الحالمة بالامان والرغيف ويتم ذلك وفق تقنيات سردية توثق ثقافة الانتماء الى الجيل السردي  الرائد من جانب و من جانب آخر الى مستجدات الراهن المعاش  لعل اولها  حين  يجعلك المتن وجها لوجه مع مؤلف الثلاثية –واقصد نجيب محفوظ- لتلمح انامل ناصر عراق وهي تؤرخ لأمكنة محفوظ الحميمة(مقهى ريش)  وهو استدعاء تقني يؤشر انشداد المثقف العربي متمثلا ببطل الرواية خالد الى الرموز الابداعية المعاصرة  ،لاحظ المقتطف التالي :

(ما ان خرجوا من المطعم حتى لمح خالد نجيب محفوظ متوجها الى مقهى "ريش" بصحبة المذيع طارق حبيب .. هرع خلفه عابرا شارع هدى شعراوي ووقف مشدوها يتأمل الكاتب النحيل وهو يستجيب لتعليمات شخص ما يبدو انه المصور او المخرج . كانت كاميرا وحيدة وكشاف ضوء قوي جدا مسلط على وجه الاديب العجوز ، سرح خالد في ملامح الرجل ، وكيف شكلت روايته وجدانه العام ، حتى رده عصام وهو يربت على ظهره :

-               الن تتخلص من عادة اللهاث خلف المشاهير

-               انه نجيب محفوظ ياعصام !

-      وليكن ... لنا كتبه فقط ، اما الآن فالجد قد بدأ يا صاحبي ، ايد كارم اسماعيل كلام عصام وهو يقضم آخر قطعة من السندويش الخامس ، ص 161)

شاء المتن ان يخلق مواجهة بين جيلين ليعلن ان ما يشغل نجيب محفوظ  في هذه اللحظة لايشغل بطل الرواية خالد في ذات اللحظة ، فنجيب مشغول بحركة الاعلام من حوله وكشافاته التي لاتفتأ من تسليط الضوء على الجيل الثقافي  الاول لما حققه من دور ريادي  (كاميرا وحيدة وكشاف ضوء قوي جدا مسلط على وجه الاديب العجوز) واما جيل خالد ورفاقه المهمومين  بتطلعاتهم بل وباطفاء جذوة الجوع في تلك اللحظة(ما ان خرجوا من المطعم)  فينشطر ما بين خالد وكارم اسماعيل وعصام  فاما خالد المبهور بالمنجز الثقافي  للجيل الاول (كيف شكلت روايته وجدانه الثقافي ) والمؤمن بضرورة الانتماء الفكري والثقافي الى ذلك الجيل  اذ يجد في  محفوظ امتزاجا بين الانسان والمبدع (سرح خالد في ملامح الرجل +وقف مشدوها يتأمل الكاتب  النحيل ) لذا فهو يرى فيه المثال الذي يقتدى (هرع خلفه عابرا ...).و اما كارم اسماعيل فيمثل الشطر المشغول بقوته اليومي  (ايد ... كلام عصام وهو يقضم آخر قطعة من السندويش الخامس) وبين عصام الشطر المحايد الذي  لايجد في المنجز الابداعي  لمحفوظ الا نصا يقرأ وحسب (لنا كتبه فقط+ الن تتخلص من عادة اللهاث خلف المشاهير + الان بدأ الجد ياصاحبي) ، باختصار فان المشهد اضاء الخشية على الجيل الجديد المشغول بهموم اليومي والمعاش من الانسلاخ عن ذاكرته الثقافية ، لذا فان عبارة   (انه نجيب محفوظ ياعصام ؟!) تشكل صرخة استغاثة في وجه طوفان الحياة .

وقد تجعل الجملة السردية من ثلاثية نجيب محفوظ افقا مشفرا يضيء شروط السير باتجاه المسكوت عنه ، لاحظ  كيف تكثفت اشارات المشهد التالي فتكورت في حوارات واحاديث بين خالد عبدالعزيز وسهى نصار :

( وامعانا في جرجرتها الى عالمه ، فلقد لفت انتباهها الى ضرورة ان تشرع في قراءة ثلاثية نجيب محفوظ التي اقتنتها قبل عامين ، كما قالت له ، ولم تبدأ قراءتها بعد ، منبها اياها ان تلتفت الى تلك العلاقة السحرية بين "كمال عبد الجواد" و"عايدة شداد"ممنيا نفسه ان تفهم مغزى اشاراته ، ص122)

احسب ان هذا الخطاب موجه الى القراءة التأويلية  اكثر منه الى سهى نصار فمقولة (امعانا منه في جرجرتها الى عالمه) تعلن عن  شروط اختراق جسد المسكوت عنه ولعل اولها هو  (ضرورة ان تشرع في قراءة ثلاثية نجيب محفوظ) ومن ثم التلبث مليا عند العلاقة بين بطليها (منبها اياها ان تلتفت الى تلك العلاقة السحرية بين "كمال عبد الجواد" و"عايدة شداد") لتستطيع فك شفرات  المنجز السردي برمته (ممنيا نفسه ان تفهم مغزى اشاراته) ليكون المقتطف النافذة السحرية للدخول الى مناخات هذا العمل الروائي بل الميثاق القرائي الذي طرحته (ازمنة من غبار) بشكل لافت .

وقد يبلور المتن  السردي خطابا ثقافيا يجبر قارئه على التسلح بقراءة ثلاثية نجيب محفوظ ليدخل بعدها مناخاته الروائية ، تأمل الآتي :

: (حين دخل خالد بيته تلك الليلة مع اول خيوط فجر يوم جديد كانت الاسئلة تصطخب في رأسه تدور حول قدرة المرأة على التنقل من حضن رجل الى آخر ، ومن بلد الى غيره ، بل ومن تغيير مهنتها ، هاهي سهى نصار تفتح ساقيها لاكثر من من ذكر وفي اكثر من عاصمة عربية ، ويخترق انوثتها المصري والفلسطيني واللبناني ! ترى هل تتأوه من اللذة كما كانت من قبل ؟!وهل شعرت بفروق بين هذا وذاك ؟ وهل كنت امر ببالها حين تعرينا بمنزل احمد السرياقوسي اول مرة ؟ وهل قالت لأي من الرجال الذين امتطوها (انت مجنون ) كما قالت لي في ذلك اليوم المشهود في منزل السرياقوسي ؟ ياه ياسهى … كل هذا الشطط يعتمل في فؤادك ، من حسن الحظ انني تخلصت من آثارك الجميلة والمدمرة منذ فترة ، وها انا ذا استمع الى حكايتك ، كاني استمع  الى قصة امرأة اخرى ، لاحزن ، لافرح ، فقط دهشة من تصاريف الزمن ، {كنت تظنها فوق الزواج ، فاذا هي تعنو للطلاق ثم تقنع بنصيب الزوجة الثانية}هكذا قال كمال عبدالجواد لنفسه عندما علم بمصير حبيبة شبابه عايدة شداد ، مثلما لم يحزن كمال على وفاة عايدة ، انا ايضا لم احزن على ما آلت اليه حال سهى نصار ، وكأن شرارة انوثتها لم تحرق قلبي قبل سنين ! وكأنني لم ابك على الارصفة وفي المقاهي من جراء ارتماءها في صدر سلطان السيد ! وكأني لم أظل اطارد شمس سحرها في كل امراة نزعت ملابسها امامي عن طيب خاطر ! جلس خالد على مكتبه القديم وصور سهى نصار القديمة تتوالى على شاشة ذاكرته مصحوبة بصور اخرى مشوشة نقلها اليه عصام هذا المساء ، وحين امسك القلم الرصاص ليسجل ملامحها على ورق الاسكتش الابيض انتبه الى انه لم يعد يفعل ذلك منذ زمن ، وحاول ان يتذكر متى بالضبط توقف عن اصطياد وجه معشوقته وطبعه على الورق ، فلم يفلح ، …،  ومع ذلك حاول ان يستعيد ملامح الفتاة التي ناولته فاكهة الجنس لاول مرة في حياته في منزل احمد السرياقوسي ، بدأ يرسم حاجبها الايسر ثم عينيها ، بعدها انتقل الى رسم الحاجب الايمن وعندما انتهى رسم العين اكتشف انها لاتشبه عيون سهى نصار ، فقام يمحو ما رسمه ، وحاول مرة اخرى ، لكنه فشل في اقتناص ملامحها . عندئذ لم يحاول مرة ثالثة وقنع بعمل خطوط عفوية متداخلة تشوه وجه المرأة المرسومة … ثم مزق الورقة ، ص 232 )  يطلب المتن اليك صراحة ان تعود الى ثلاثية نجيب  محفوظ  لتعرف تفاصيل بعينها عن كمال عبدالجواد وعايدة شداد اذ لايمكن ان تفهم مغزى مقولة كمال {كنت تظنها فوق الزواج ، فاذا هي تعنو للطلاق ثم تقنع بنصيب الزوجة الثانية}الا حين تعرف انه قالها معزيا نفسه بموت عايدة الجسدي والمعنوي معا وهو يتلمس تأثير سقوط القيمة السامية بل قل الحقيقة المطلقة من عليائها –وفقا للتوجه الفلسفي لكمال- ومستعيدا بذاكرته اجواء جنازتها  التي حضرها ولم يعلم ان الجثمان المسجى بالنعش هو جسدها ، وحين تعرف ذلك تستشعر بان عملية المونتاج السينمائي التي قام بها المتن نجحت في تكثيف دلالات المرارة المشتركة (مثلما لم يحزن كمال على  وفاة عايدة ، انا ايضا لم احزن على ماآلت اليه حال سهى) ليكون الموت الجسدي لعايدة والانفصال النفسي لكمال عنها معادلا ترميزيا لموت سهى نصار المعنوي والانفصال النفسي لخالد عنها الذي تمازجت ملامحه مع بجماليون  اذ كلاهما خلق من مخياله الثقافي نموذجا بارعا الا ان خالد فجع بانفلات النموذج من هالته المقدسة (اكتشف انها لاتشبه عيون سهى نصار ، قام بمحو مارسمه وحاول مرة اخرى  ، لكنه فشل في اقتناص ملامحها) ليغدو مسخا لا يستحق سوى الالغاء (عندئذ لم يحاول مرة ثالثة وقنع بعمل خطوط عفوية متداخلة تشوه وجه المرأة المرسومة … ثم مزق الورقة) لذا فان الرسم جاء ليضيء توجه خالد التشكيلي من جانب  ومن جانب اخر ليضعه  وجها لوجه مع (سهى / جالاتيا) وليستكشف مكنونها النفسي على ارض الواقع فاذا بها رمز مدنس افتقد قدسيته وهو ما لاينطبق على عايدة (المعشوقة /المثال) كماان هذا المشهد  وتحديدا عبارة (مع اول خيوط فجر يوم جديد) قد اعلن عن تنام درامي لشخصية خالد من خلال انعتاقها من اسار وهم التطابق وهو مايجعلك تقر واعيا بان فكرة اعادة النموذج الانساني فكرة غير صالحة للطرح وهي فكرة رومانسية لاتتسق وطبيعة البشر بل وطبيعة الاعمال الابداعية الخالدة وهو ماتعززه  شخصية  خالد نفسه الذي سعى ان يكون نسخة من كمال عبدالجواد  لكنه لن يكون ؟! اذ لم يستجب مثلا لكون المعشوقة فوق الزواج بل اشترك معها في علاقة جسدية .

      وقد يستل المخيال السردي من مناخات الثلاثية وجهي كمال عبدالجواد وعايدة  ليجعلهما اقنعة ثقافية لخالد عبدالعزيز وسهى نصار  الا انها اقنعة من نمط جديد حيث تلمح المسافة المنظورة بين الوجه المقنع وقناعه بل انك تشهد  حركة انامل ناصر عراق وهو يخلعها عن خالد وسهى  او يعيدها وحسب ما يقتضيه السياق ، تأمل الآتي :

 (اول الامر بهت من خبر خطوبتها ، وهي مازالت في هذه السن الصغيرة ، ثم ادرك ان هذه الواقعة التي اطلع عليها من احدى الزميلات ، وليس من العروسة نفسها ، تؤكد اصرار القدر ليصنع منه "كمال عبدالجواد " آخر ، ويخلق من محبوبته "عايدة شداد " جديدة ، ص 118).

من اللافت ان المتن السردي يجعل من  وجهي كمال وعايدة  اشارتين تمويهيتين  للقارىء العجول وهو الامر الذي تأنف منه الرواية التي تطلب واعية قارئا متأنيا يتأمل حركة السرد المخاتلة القائمة على هتك التوقع  وهز قناعات التلقي  بغية اشراكه في صياغة المتن .

وقد يبلور المخيال السردي  متوازية ايحائية بين كمال عبدالجواد وخالد عبدالعزيز من جهة وعايدة شداد وسهى نصار من جهة اخرى تعكس اشتغال النص على خطف ملامح خالد وسهى باتجاه مناخات  تتقشر عن وجه معاصر لدونكيخوته ، لاحظ :

(لقد عشق خالد القراءة بتشجيع من والده واخيه عادل قبل التحاقه بالكلية بسنوات ، وظل مفتونا فترة لابأس بسيرة طه حسين الذاتية (الايام) التي كانت مقررة عليه ضمن منهج الصف الثالث الاعدادي ، وما ان التحق بالمدرسة الثانوية حتى وقع في هوى ثلاثية نجيب محفوظ ذائعة الصيت (بين القصرين ) و(قصر الشوق) و(السكرية) لدرجة انه كان يستعيرها من مكتبة المدرسة ويقوم بتدوين بعض الفقرات الخاصة بتدله "كمال عبدالجواد"بابنة الطبقة الارستقراطية "عايدة شداد" داخل كشكول خصصه لتسجيل القصائد التي تستهويه او الكلمات ونظرا لغرامه بالثلاثية ، فقد حاول ان يقلد في حياته اليومية اداء نور الشريف الذي جسد شخصية "كمال" حين تحولت الثلاثية الى السينما ، لكنه فشل في ان يسقط شخصية "عايدة " على أي بنت من  بنات الجيران ، بسبب افتقاد كل بنات شبرا الخيمة ، كما كان يقول كارم اسماعيل بعد ان عرف سهى ، لذلك الحس الارستقراطي الذي تتمتع به بطلة الثلاثية لذا ما ان التحق بالكلية وسحرته سهى نصار بفرخ من ورق  الكانسون ، حتى انزلها من قلبه منزلة "عايدة" في قلب "كمال" خاصة وان رقة فتاته وملابسها وايماءاتها كانت تشي بانها تنعم بتلك النكهة الارستقراطية التي ظل يبحث عنها في بنات الجيران دون جدوى .

استقبل خالد خطبة سهى نصار وهو مازال غارقا في وهمين : الاول ان فتاته تنتمي الى الطبقة الارستقراطية بالرغم من انها لم تكن الا ابنة موظف متوسط الحال رحل عن الدنيا وهي طفلة تاركا ارملته تكافح الحياة من اجل تربية اربعة ابناء اخرهم سهى الجميلة ، حتى شقته الصغيرة في حي امبابة ظلت محرومة من وجود تلفون الى ان انهت الصغيرة سهى دراستها الجامعية ، ثم القت بمرمر انوثتها بين يدي سلطان السيد راضية مرضية .

اما الوهم الثاني فيتمثل في كون خالد ظل لمدة عام كامل تقريبا ، منذ ان اسعفته سهى بنصف (فرخ) الكانسون ، ويعتقد ان الفتاة التي شغفته حبا لاتمت الى عالم النساء المادي بصلة ، بل هي ابنة الملائكة جسدها من نور ، روحها من ضياء ، ومن ثم لايليق به ، لايجوز له ان يفكر ، ولو للحظة ، في ان يلمسها او يتخيلها رفيقة احلامه الجنسية آخر الليل ، لذا كان يتهرب كثيرا من السلام عليها يدا بيد ، لانها ليست كالاخريات ، ص 219)

انت بالضرورة ستلمح تماهيا طريفا بين خالد عبدالعزيز و دونكيخوته يتمظهر هذا التماهي في مفصلين الاول امعان خالد في اسقاط شخصية عايدة الارستقراطية على المعدمات (لكنه فشل في ان يسقط شخصية "عايدة " على أي بنت من  بنات الجيران ، بسبب افتقاد كل بنات شبرا الخيمة ، ...، لذلك الحس الارستقراطي الذي تتمتع به بطلة الثلاثية +  النكهة الارستقراطية التي  ظل يبحث عنها في بنات الجيران دون جدوى) وينبثق المفصل الآخر من اصرار خالد على  تماهي سهى نصار بعايدة شداد وقد عزز هذا التأويل  عبارة (استقبل خالد خطبة سهى وهو مازال غارقا في وهمين ) لتعكس ذاكرة المحمول اللفظي (غارقا) انفلات خالد من قبضة الراهن وتمركزه في منطقة الحلم  ، زد على ذلك ان   المحمول اللفظي (الوهم) وتكراره المنطقي (الوهم الاول والوهم الثاني )  قد اكد على اختراق الوعي منطقة الحلم التي جعلت من سهى عايدة معاصرة  وسحقها لتكون سهى  نصار صورة من الواقع  اذ خلعت عن كاهلها اهاب عايدة شداد بارستقراطيته وتكويناته الطبقية لتكون صورة اخرى لفتاة سربلتها الفاقة والحرمان وشاءت ان تمنح جسدها لخطيبها قبل ان تدخل في علاقة جسدية مع خالد ومن ثم مع رئيس تنظيمه السري سلطان السيد  اضف الى ذلك ان  اعلان النص  (القت بمرمر انوثتها في يدي سلطان  السيد )  ينم  على حركة سهى  الواعية صوب الدنس الجسدي الا ان قوله (راضية مرضية ) يؤكد موتها المعنوي وانفلاتها من ملامح عايدة والى الابد ،  ليكون خالد والحالة هذه صورة مختلفة عن كمال الذي بقيَّ لايرى في عايدة شداد الا كيانا نورانيا خالصا  .

    وقد يتحول المخيال السردي  الى مرايا تعكس اختراق ثلاثية نجيب محفوظ الذاكرة الثقافية لبطل الرواية خالد الذي شاء ان يخرج كائنات نجيب محفوظ السردية من بين الاوراق لتغدو واقعا معاشا ، فهو بعد ان فقد معشوقته سهى نصار التي امل النفس بان تكون صورة طبق الاصل من عايدة شداد لكنها لن تكون؟! بقي متشبثا بالامكنة بوصفها المرايا التي تعكس رؤاه وتطلعاته ، لذا فهو يستجلب صديقته الجديدة الى تلك الامكنة مستعيدا احداث الثلاثية ليؤشر انفصالها التام عن الاحداث التي المت به :

( اصطحبها الى الاماكن نفسها التي شهدت تدفق الغرام بينه وبين قاتلة فؤاده ، فجلسا في {الفيشاوي} واطلعها على ازقة وحواري قاهرة المعز ، فسارا في شارع "بين القصرين " خلف خان الخليلي حتى باب النصر ، ثم عادا من باب الفتوح  الى الجمالية وحارة الدرب الاصفر ومرورا ببيت السحيمي فـ"قصر الشوق" ... اخترقا شارع الازهر ليعبرا من امام  قصر الغوري حتى يصلا بوابة المتولي مرورا بـ "السكرية" . سعى بكل جهده ان يسحرها بهذه الاماكن التاريخية وبناياتها الجليلة ، قال لها هنا وقعت احداث اعظم روايات نجيب محفوظ التي ادركت كم كان خالد مفتونا به ، ص 190)

يفضح المتن بؤرته الاساس التي تفرق بين الافتتان والابداع ، فالافتتان بمنجز محفوظ شيء وصياغة منجز ابداعي  يعكس بصمات مؤلفه شيء آخر وهو ما اكد عليه ناصر عراق في البنية المسكوت عنها للرواية ، فهو كانما يجلس امامك ليقول لك :لاحظ كيف اعدت صياغة الشخصيات ، هذه الشخصيات التي اتفقت معك ايها القارىء على تشكيلها من ذاكرتك الثقافية  الا انها ليست هي ،وليس ادل على ذلك من حركة خالد بين المؤشرات الثقافية المكانية  (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) هذه الحركة التي تؤكد بان الامكنة ثابتة الا ان الزمن باحداثه يتغير وهذا التغير يلقي بظلاله على بناء الشخصيات التي انفلتت من قبضة التكرار فغدت وجوها غير متطابقة . وهو ما يجعلك تعود الى عنونة الرواية (ازمنة من غبار ) التي تخطف بصرك صوب  عبث الزمن بالانسان  الاعزل الا من احلامه بل وصيرورته غبارا يغلف عنفوان الاشياء .

وقد يتوقف النص ليضيء اثر الصرح الثقافي الذي شادته موهبة نجيب محفوظ  على خالد عبدالعزيز –الجيل الثاني في الرواية- ومن ثم تأثيره على الجيل الثالث  منها وتحديدا على شخصية ايمن التي تمثل الامتداد الفكري والثقافي لعمه خالد ، وكيف اخترق المنجز السردي لنجيب محفوظ تفاصيل اليومي والمعاش ، تأمل:

(من جانبه حكى ايمن لخالد لقاء ابيه بسعدية في احدى حواري باسوس …

-               هل تعرفها ياعمي ؟

-                لا ... لكن اخبرني ... هل بدأت بقراءة {بين القصرين } ، ص 221)

تشكل (بين القصرين )  -  الحلقة الاولى  من الثلاثية-  المفصل الحضاري والذاكرة الثقافية  للاجيال المتعاقبة والتي شاء خالد ان يزرعها في ضمير جيل ايمن المشرئب الى الضوء  مؤكدا على دور الجيل الثاني بوصفه حلقة الوصل بين مرحلتين  ويتأكد هذا التأثير  في المشهد الذي تختتم به الرواية اذ يعود الحوار الخارجي بين خالد وايمن ليعكس التمازج الثقافي بين الجيلين وتوق النص الى تعميم التأثير المدهش لنجيب محفوظ على مدى تعاقبية الاجيال ، لاحظ :

(ما ان وضع السماعة حتى دق التلفون بصوت خدش صمت الليل .

-               البقية في حياتك ياعمي .

-               جاءه صوت ايمن ابن اخيه شريف من الجانب الآخر ... قال له الفتى انه زار جدته اليوم ، ولماعرف برحيل صديقه حزن لذلك ، ثم اضاف معتذرا انه استعار ثلاثة كتب من مكتبته من دون ان يستأذن .

ايمن هو الوحيد من ابناء اخوته الذي لايغضب منه خالد ابدا مهما فعل ، سأله – أي كتب ؟

الدولة والثورة للينين واولاد حارتنا لنجيب محفوظ و ومديح الظل العالي لدرويش

-               اخشى ان تكون الكتب اكبر من طاقتك

قال الفتى

-               ياعمي انا اكملت الـ16  عاما وفي الصف الثاني الثانوي ثم اضاف

-               واذا لم افهم شيئا سأعود اليك !

لم يعرف خالد هل من اللائق ان يغرق الفتى في قراءات جادة في هذه السن المبكرة ام لا ؟ لكنه سعد على أي حال بان ابن اخيه يعشق القراءة مثله ، ص241 )

انت ازاء خطاب ثقافي مثقل بالرؤى التي تستبطن ملامح خالد وايمن على حد سواء  من جانب ومن جانب آخر فان المخيال السردي  يستدعي رموز ابداعية معاصرة  اخرى  تجعل  النص يقتات من الراهن الثقافي بكل طروحاته .

وخلاصة القول : فان رواية (ازمنة من غبار ) للروائي المصري ناصر عراق  قد نجحت في ان تخلق من بطلها خالد عبدالعزيز مرايا سردية تعكس ذاكرة ثقافية واسعة اذ انك كما تلمح توق المتن  الى استدعاء وجه كمال عبدالجواد لابوصفه فخا للقراءة العجلى حسب وانما بوصفه قناعا سرديا ما ان يخلعه خالد عبدالعزيز حتى تتكشف نبرات صوته الخاص  ورؤاه المستجلبة من راهنه السياسي والثقافي  والاجتماعي  فانك تلمح ايضا  على مرايا السرد تماهيا  بين خالد و بجماليون  تارة  حين ينجز من وجدانه الثقافي كائنا سرديا الا انه ينشق عليه مخلفا في ذاكرته لوعة  وتارة اخرى بين خالد وبين دونكيخوتة حين  اراد ان يسقط على سهى اوهامه وتخيلاته لينزعها عن واقعها الاجتماعي والثقافي وتارة ثالثة بين خالد ونرسيس حين جعل من اللوحة التشكيلية مرايا تعكس تفاعله مع السياق السردي  لتكون الرواية برمتها لافتة حضارية تضيء حوارا ثقافيا بين الاجيال السردية وتحديدا علمها الشامخ نجيب محفوظ   وهي تستوعب في الوقت نفسه طروحات الراهن المأزوم وتراجيديا المثقف العربي الحالم بازمنة ملفعة بالامان  لا مسربلة بالغبار  .   

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا