ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

شوقي يوسف بهنام - العراقالقراءة الأولى

سيكولوجية القضاء والقدر*

قراءة لقصيدة "دع الأيام"

شوقي يوسف بهنام - العراق

 

إن قراءة النصوص الأدبية أو أي نوع آخر من النصوص ، من وجهة نظر علم النفس ليس بالأمر الهين ، لأن عملا كهذا يتطلب مهاما متعددة ينبغي توافرها أو تواجدها لدى الشخص الذي يتصدى لهذه المهمة . ولعل أهم تلك المهام ، هي المهمة التي ترى أن قراءة النص الأدبي وفهمه تتضمن عنصرا إسقاطيا بالدرجة الأولى . بمعنى آخر إن محلل القصيدة أو القائم على تفسيرها يجب أن لا يخضع النص لمعاييره ومقاييسه الذاتية ، ناهيك عن عوامل أخرى تساعد الناقد أو المحلل لمثل تلك المهمة ؛ مثل تاريخ النص والحياة الشخصية ( السيرة الذاتية ) للناص ومسألة توثيق النص وإلى غير ذلك . وهي أمور تعد كلها أدوات لا بد من توافرها لدى الناقد الذي يتصدى لدراسة هذا النص أو ذاك . لكن مهما  كان من شيء فإن توافر تلك الشروط  أو وجودها في عمل صغير أشبه بالمستحيل ، ومن ثم فإن ذلك يعني أنه لا يمكن بدون هذه الشروط القيام بأي عمل نقدي مهما يكن حجمه . ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن تلك الشروط قد تقف حائلا أمام أي محاولة ، مهما كانت صغيرة ، لاقتحام النص .

وهذه السطور ، هي محاولة من هكذا نمط لاقتحام نص ، يعد من وجهة نظر كاتب هذه السطور من النصوص الجميلة إن لم يكن من أجملها ، والتي تعالج علاقة الإنسان بالله ، إذا لم يكن في هذا شيء من المبالغة ،والتي دبجها الخيال الإنساني إزاء معضلة ، تعد من أعقد المعضلات التي حيرت الإنسانية عبر تاريخها الطويل .. وما زالت كذلك . إنها معضلة القضاء والقدر ، إذا استخدمنا تعابير ومفاهيم اللغة  الدينية .. أو الحتمية والجبرية ، إذا استخدمنا تعابير ومفاهيم اللغة الفلسفية . والمسألة الأساسية التي نود معالجتها ، هنا ، محصورة بالنص الذي اخترناه ؛ وهو مجموعة من الأبيات الشعرية منسوبة إلى الأمام الشافعي .

إن نقطة الانطلاق لهذه المحاولة والمتمثلة في هذه السطور ، هي قراءة قصيدة ( دع الأيام ) قراءة تستلهم بعض الأطر السائدة في علم النفس ، لا سيما مدرسة التحليل النفسي بطروحاتها حول بنية الشخصية الإنسانية وبعض أنماط تعاملها مع الواقع ، وعلى وجه الخصوص ؛ الآليات الدفاعية . كذلك فإن هذه المحاولة ستحاول أن توظف مفهوم مركز السيطرة الذي طرحه ( روتر) لكي يكون مدخلا آخر لفهم هذا النص . إذن أصبحت نقطة الانطلاق واضحة لهذه السطور ، ألا وهي التعرف على الآليات الدفاعية وأساليب نمط السيطرة التي تتضمنها أبيات هذه القصيدة . إلا أن هناك نقطة مهمة لا بد  من الإشارة إليها قبل المباشرة بدراسة هذه الأبيات ، وهذه المسألة يمكن تحديدها ، في ان هذه الأبيات لا تنتمي إلى أي مذهب ديني محدد ، ولذلك فإن أي  إنسان ، مهما كان دينه أو انتمائه العقائدي يمكنه أن يقرأ هذه الأبيات بنفس مطمئنة ويتعامل مع طروحاتها وكأنه الشخص المعني الذي تخاطبه وتناشده هذه الأبيات . وهذه هي السمة الفريدة لهذا النص ، لأنها أكثر التصاقا بالضمير الإنساني العام مما هي ملتصقة بالبعد الانتمائي لذاك الضمير ، وكأني بالإمام الشافعي ؛ يخاطب الإنسان بما هو إنسان وليس بانتمائه إلى هذا الدين أو ذاك .

يمكن القول ، أن نقطة انطلاق الإمام الشافعي هي علاقة الإنسان بالزمان وموقفه منه ومن نوائبه . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، علاقة الإنسان بالله . فكأنما الإنسان محصور بين قطبين متباينين : الله والزمان . صحيح أن الإطار الثقافي الذي عاش به الإمام الشافعي كان يؤمن بأن الله هو الكائن المطلق القائم بذاته ، واجب الوجود ، العلة الأولى ، الموجود خارج الزمان . والزمان هو الإطار الذي أوجده الله بكلمة منه . ذلك الإطار الذي بداخله يعيش الإنسان إلى حين . تلك إذن هي نقطة انطلاق الإمام الشافعي في رؤيته للعلاقة بين الله والإنسان . ولذلك ذهب الأقدمون إلى ان الله خير في ذاته . وبالمقابل فإن الزمان شر في ذاته . هكذا كانت رؤيتهم للزمان ، ولذلك أصبح الزمان من ألد الأعداء للإنسان ، لأنه لا يستطيع أن يفهمه أو يعرفه أو يتنبأ به ومن ثم السيطرة عليه . الله وحده عالم الغيب والشهادة . تلك هي المسألة  الأولى التي دعا إليها الإمام الشافعي مخاطبا بها الإنسان :-

 

                   دع الأيام تفعل ما تشاء            وطب نفسا إذا حكم  القضاء

 

                                        ****************

 

على الرغم من انه يمكن القول ، أن في هذه  الدعوة التي يتضمنها صدر البيت الأول ، على وجه الخصوص ، شكلا واضحا  من أشكال السلبية واللامبالاة وعدم اتخاذ موقف عقلاني من الأحداث ، أي أنها دعوة إلى الانسحاب وعدم اتخاذ القرار بشأن المصير والإذعان لها ( الأحداث )والقبول بأحكامها أيا كانت طبيعة تلك الأحكام ، إلا أننا نلمس في الوقت نفسه ، وفي عجز البيت ، دعوة مغايرة ، إن لم تكن مناقضة لما ورد في صدر البيت . إنها دعوة إلى أن يكون طيب النفس وسعيدها إزاء القضاء ، بمعنى تقبل الواقع والتكيف له والانسجام معه ومن ثم احتوائه برحابة صدر . إن الآليات الدفاعية التي يمكن ملاحظتها في هذا البيت ؛ آليتان دفاعيتان هما السلبية أو الانسحاب والإنكار . أما ما يخص مركز السيطرة ، فإن مركز السيطرة الخارجي هو المتحكم في مضمون هذا البيت . أن مركز السيطرة مفهوم طرحه ( روتر ) في منتصف الخمسينيات وهو يعني به " أن يعزو الفرد خبرات الفشل التي يمر بها إلى عوامل خارجية .. كالحظ مثلا . بينما يعزو خبرات النجاح إلى قدراته وإمكانياته ليس غير " وإذا كان البيت الأول من القصيدة ، بهذا المستوى من التعامل مع ضغوط الحياة وأحداثها ، فإن هناك تحولا نوعيا يتسم بالطابع المعرفي أو العقلاني لذلك التعامل . وكأني بالإمام الشافعي يدعو إلى ممارسة ما نسميه بلغة علم النفس آليات المواجهة أو استراتيجيات التعامل مع الأحداث . وإذا كان الصدر من البيت  الأول  ، قد بدا انسحابيا إلى حد ما ، فإن البيت الثاني ما هو إلا دعوة إلى ممارسة أساليب المواجهة واستراتيجيات التعامل ، فهو يقول :

 

                     و لا تجزع لحادثة الليالي             فما لحوادث الدنيا بقاء        

 

                                        *****************

لقد كان الإمام الشافعي ذا بصيرة عميقة في النظر إلى حوادث الحياة . لقد ربط الجزع ؛ وهو الخوف الشديد  من الليل . والليل هو وقت الانقطاع عن الاتصال بالعالم الخارجي من خلال النوم وتعطيل الوعي وتغييبه .. وحلول السكينة . والإمام الشافعي ، كما يبدو ذلك للباحث ، يدعو إلى التسليم التام وعدم الخوف ، مهما كانت وطأة الحدث الذي يمكن ان يكون مكدرا للطمأنينة النفسية . والآلية التي يتضمنها الشطر الأول هي كذلك السلبية والإنكار ، إلا أنه في الشطر الثاني يعود فيتعامل مع الموقف تعاملا عقلانيا من خلال آلية التبرير والدعوة إلى الاعتقاد بعدم بقاء حوادث الدنيا وحتمية زوالها . إذن يمكن صياغة هذا البيت على النحو الآتي " لا داعي لأن تجزع من أي حادثة كانت ، وفي أي وقت تكون ، ذلك لأن هذه  الحادثة أو غيرها ، لا بد ان تزول و لا يمكنها البقاء في مسرح حياتي . "  ها هنا مركز السيطرة الداخلي أكثر وضوحا من مركز السيطرة الخارجي .

في البيت الثالث ، نلمس تصورا ، يمكن عده امتدادا لما كان الإمام الشافعي قد بدأ برسم معالمه . لكن في الوقت نفسه يمكن ان يكون انعطافا  في مسار ذلك التصور . وليس هناك أي تناقض في هذه الرؤية . فإذا كان البيت الثاني قد تضمن آليات غير ناضجة كالسلبية والإنكار والتبرير ،  فإننا نجد في البيت الثالث آليات تمتاز بنضجها وارتقائها بحيث تتفق مع ما يمكن أن ندعوه ، وبلغة علم النفس المعاصرة ، بقوة الأنا . وقراءة فاحصة ومتأنية لهذا البيت تؤكد ما ذهبت إليه هذه السطور ، فهو يقول :-

 

                  وكن رجلا على الأهوال  جلدا          وشيمتك السماحة والوفاء

 

                                   ********************

 

إنها دعوة إلى الصبر والتحمل والمقاومة والمواجهة للظروف والأهوال التي تحيط بالفرد أو تصادفه في مسار حياته . وإلى جانب هذه الخصائص والسمات ، فهناك خصائص وسمات أخرى ؛ أخلاقية وسلوكية لا بد من تواجدها أو توافرها في الشخصية التي تواجه مثل تلك الظروف والأهوال ألا وهي السماحة والوفاء . فالسماحة هي تلك الصفة التي من خلالها يعبر بها الإنسان عن توافقه مع الآخرين . أما الوفاء فهي خاصية أخلاقية مهمة تساعد على تعزيز مواقف الانتماء والانضواء ضمن راية الآخرين من دون التقليل أو خفض قيمة الذات . وهنا يبرز سؤال مهم ، لابد من الإجابة عليه . والسؤال هو : هل يوجد تناقض ما بين البيتين الأولين والبيت الثالث ؟ . لأننا قد وجدنا من خلال قراءة البيتين الأول والثاني موقفا سلبيا واستسلاميا إزاء أحداث الحياة وتقلبات الدهر من خلال اللامبالاة وعدم الا كتراث لها أو الاهتمام بها . وكأنها دعوة إلى إقامة الحواجز بين الذات والأشياء أو بين الأنا وما حولها . وكل واحد منهما يمضي بالاتجاه الذي قدر له ان يعيشه والمخطط الذي على وفقه يكون . بينما نرى في البيت الثالث دعوة تتسم بالايجابية الواضحة الأبعاد والمعالم . في الحقيقة ، ليس هناك من تناقض بين هذه الأبيات الثلاثة . وان التناقض الذي بدا ، كان ظاهريا فحسب . و نظرة هادئة إلى الخيط الذي يمر من خلال كلمات الأبيات الثلاثة ، أو يربط بينهما ، بعبارة أدق ، توضح و بجلاء ؛ أن الدعوة التي كانت سائدة في البيت الأول والثاني ، كانت بمثابة التمهيد للدعوة التي نجدها في البيت الثالث . أما من جهة الآليات الدفاعية التي يمكن ان نلاحظها في هذا البيت فهي التسامي والانتماء وتأكيد الذات . فمن خلال هذه الآليات تتضح أبعاد الشخصية التي رسم معالمها الإمام الشافعي . أما من جهة مركز السيطرة ، فإن مركز السيطرة الخارجي هم المهيمن في المضمون العام لهذا البيت .

يعالج الشافعي ، في البيتين التاليين ؛ أي الرابع والخامس ، مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للخطاب الديني . وهذه المسألة هي الذنوب أو الخطايا أو العيوب كما يسميها الشافعي نفسه . ومعلوم المقدار الذي تشغله هذه المسألة في الإطار العام لذلك الخطاب ، لأنها تقف حاجزا  بين الله والإنسان . كما أنها تعد مؤشرا على الضعف الإنساني وعدم قدرته على التسامي ، هذا من جانب . أما من الجانب الآخر فإن هذه العيوب لها آثارها السلبية على العلاقة بين الأنا والآخر .

أما على الصعيد السيكولوجي ، فنحن نعلم أن الذنوب أو العيوب لها دورها الواضح في اختلال التوازن النفسي للفرد .. وبالتالي اضطراب الصحة النفسية لديه . وتعد مسألة الشعور بالذنب من المسائل المهمة التي تناولها علماء النفس واهتموا بدراسة آثارها لأنها مصدر من مصادر الإجهاد والإنهاك النفسي .. وبالتالي فإنها تعد من الخصائص العامة لبعض الأمراض النفسية كالاكتئاب والوسواس القهري . مما يجعل الفرد ان يعيش في دوامة نفسية أو روحية بالمفهوم الذي تتناوله الأديان .

 وليس من قبيل المبالغة ، أن تذهب هذه السطور ، إلى أن الإمام الشافعي نفسه قد عرف أو أحس بهذا الإحساس أو عانى من بعض أشكاله ، لعدة عوامل ؛ ولعل أبرزها ، أنه واحد من أئمة الفقه ، وهذا يعني أنه تعامل تعاملا مباشرا بالنصوص القرآنية  المتعلقة بالعبادات والمعاملات . إن هذا العامل قد جعل من الإمام الشافعي كغيره من الأشخاص الذين لهم تماس مباشر بالخبرة الدينية وبتفاصيل هذه الخبرة . إن لم تكن هذه الخبرة قد قادته إلى ما يعرف بالممارسة الصوفية . نحن ، هنا ، لا نريد الإشارة إلى العلاقة التي عولجت في التاريخ الإسلامي ، بصورة خاصة ، تحت العلاقة ما بين الفقه والتصوف والمشكلات والملابسات التي اقترنت مع تلك العلاقة . هذا موضوع آخر لا دخل لهذه السطور به . لكن النقطة التي نلح عليها هنا والتي اهتمت بها المباحث الفقهية بشكل عام وارتكزت عليها الخبرات الصوفية ، على اختلاف طرائقها  وأساليبها هي ، كما قلنا ، الشعور بالذنب . ولنترك جانبا هذه المسائل التي ظهرت أمامنا ولنمض مع الشافعي في معالجته لهذه المسألة .                                       

ينطلق الإمام الشافعي في معالجته للشعور بالذنب من نقطة محددة وهي كثرة الذنوب . بمعنى آخر ، فإن هذه الكثرة  أصبحت حملا لا يطاق و لا تتفق مع إمكانيات الطبيعة الإنسانية ، كما أصبحت من البروز بحيث لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها . من هنا يحاول الشافعي معالجة هذه المسألة من خلال دعوة الإنسان إلى ممارسة سلوكية معينة ، تهدف ، كما يرى ، إلى دعم وتعزيز مشاعر تقدير الذات واحترام مشاعرها . وذلك من خلال عدم الظهور أمام الآخرين بهذه العيوب أو التحدث عنها أو إفشائها ، وكأني به يدعو إلى التمثل بالقول المأثور ( الشكوى لغير الله مذلة ) والتمسك به ومحاولة ترجمة ذلك من خلال العلاقة بين الأنا والآخر . إن الشكوى وسيلة من وسائل التواصل بين الأنا والآخر . صحيح أن الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في الممارسة العلاجية ترى في سلوك الشكوى صورة سلبية من ذلك التواصل . لأن هذه الممارسة الإنسانية من شأنها خفض قيمة الذات وتعزيز مشاعر اللاإعتبار لديها ، إلا أنها وسيلة مهمة من وسائل التفريغ الانفعالي . والشافعي يتفق مع هذه الصورة حول طبيعة الشكوى ودورها في التواصل مع الآخر ، فهو يدعو إلى التكتم وضبط النفس وعدم الاستعراضية في المشاعر والانفعالات فهو يقول :-

 

                      وإن كثرت عيوبك في البرايا         وسرك ان يكون لها غطاء        

 

 

                     تستر بالسخاء فكل عيب               يغطيه كما قيل الســـخــاء 

 

                                             ****************

 

يعتقد الشافعي إذن ، ان هذا الأسلوب في التعامل مع المشاعر والانفعالات الذاتية ، إنما هو احترام للذات وحفظ صورتها أمام الآخرين ، وإلا  فما معنى قوله " وسرك ان يكون لها غطاء " . كما انه ينتقل بالفرد من هذه الحالة إلى حالة أخرى فيها ممارسة لآلية دفاعية واضحة هي آلية الإلغاء كما تبدو بوضوح  في البيت الخامس . ففي هذا البيت دعوة إلى ممارسة السخاء ، بكل ما تحمله هذه المفردة من معنى وبكل ما تحمله من أبعاد ومضامين . ومعلوم أن لمفهوم السخاء مدلولا واسعا في الخطاب الديني ؛ أليس هناك قول مأثور يقول " السخي حبيب الله " إن ممارسة السخاء جاءت متزامنة مع العيوب وكثرتها . وكان السخاء هي عملية محو أو إبطال أو إلغاء لما تسببه العيوب من مشاعر الانزعاج والكدر ...  ولذلك فإن السخاء أسلوب معاكس يلغي آثار العيوب ويبطل مفعولها .. ويمكن ملاحظة أن الآليات الدفاعية التي يدعو إليها الشافعي في هذه الأبيات هي آليات الإلغاء والعزل وتكوين رد الفعل . وهذه الآليات ملائمة ومناسبة لإعادة التوازن النفسي والانسجام مع الذات ، لما تتركه الآثام والعيوب من انفعالات مكدرة ومشاعر مزعجة  .. وقد بلغ الحد بالشافعي إلى التركيز على هذه الآليات ليس فقط على مستوى الفرد مع نفسه بل على مستوى علاقة الفرد مع الآخرين . وذلك واضح في قول الشافعي في البيت السادس ، حيث يقول :-

                   ولا تر ِ للأعادي قط ذلا           فإن شماتة الأعداء بلاء

 

                                       ****************

 

ها هنا عودة أخرى إلى التحفظ والتشدد والتركيز على مراقبة الذات وضبط النفس .. بل والذهاب إلى ابعد من ذلك ، أي عدم إظهار أي سلوك من شأنه أن يتضمن تشويه صورة الذات وقيمتها أمام الآخرين .. وكأنما الآخرون هم أعداء الإنسان . وها هنا نجد الشافعي يسبق الفيلسوف الفرنسي ( سارتر )  عندما قال عبارته المشهورة " الآخرين هم الجحيم " هؤلاء الآخرين يراقبونه أو يتربصون له في مواقف الزلل والخطأ ودليل هذه الصورة التي تحددت في مخيلة الشافعي لصورة الآخرين من خلال قوله :-

 

                  ولا ترج السماحة من بخيل        فما في النار للظمآن ماء

 

                                     ******************

 

لقد كان الشافعي ، كما يبدو متشائما من الآخرين إلى هذا الحد حتى وصل في قرارة نفسه إلى استنتاج مفاده أنه لا فائدة من تعاملك  مع الآخرين . وليس للفرد من خلاص أو مهرب غير اللجوء إلى حيث الأمان السرمدي ؛ اعني الله ومجاله . وهذه النتيجة سنرى أبعادها وملامحها في الأبيات اللاحقة ..

ننتقل إلى مسألة مهمة وأساسية في الخطاب الديني في ما يخص القضاء والقدر. و لا يختلف الشافعي عن غيره من الفقهاء أو الصوفية أو علماء الكلام في هذه المسألة . تلك المسألة هي " الرزق " . أعني ، وبلغة علم النفس ، وسائل إشباع الحاجات . ومن خلال منظور علم النفس أو العلوم الإنسانية الأخرى ، فإن الإنسان حيوان اجتماعي . ..  ناطق .. ضاحك .. عاقل .. وما إلى  ذلك . وبقاءه مرهون بالوسائل التي يمارسها لغرض إشباع حاجاته ، كالعمل والتضامن مع الآخرين والتفكير والابتكار والتخيل وفعاليات أخرى تساعده على حفظ ديمومته . إلا ان هذه الصورة غير كافية بالنسبة إلى الخطاب الديني ، الذي يحاول أو يسعى إلى تحديد الرزق وفق مشيئة الله وإرادته . و لاشك أن هذا الخطاب ، ومعه الإمام الشافعي أيضا ، قد استلهم جملة من النصوص الدينية وانطلق منها لتحديد الرزق ، و لا داعي إلى الإشارة إلى تلك النصوص ، فهي كثيرة من جهة و لا مجال لذكرها في هذا السياق من جهة أخرى . المهم هو أن الشافعي لا يتعدى دائرة الخطاب الديني في مسألة الرزق . فالرزق محدد سلفا وقبل ولادة الإنسان أيضا وليس للإنسان دور في زيادته أو نقصانه .  وهذا واضح في قوله :

 

                ورزقك َ ليس ينقصه التأني          وليس يزيد في الرزق العناء

 

                                  *******************

 

لا شك أن تطمين الحاجات وإشباعها في مستوياتها المختلفة هو أساس الصحة النفسية . وإذا حاولنا الانطلاق من هرم ( ماسلو ) لتصنيف الحاجات وأثر ذلك في تحقيق التوازن والتكيف والتوافق ، سنرى أن الشافعي قد لا حظ ذلك أيضا . صحيح أن نقطة انطلاق الشافعي هي منطلقات الخطاب الديني إلا أنه كان واعيا تمام الوعي بأهمية الحاجات ودورها في تحقيق الصحة النفسية . وإذا كان الشافعي في البيت السابق يدعو صراحة إلى الإذعان والتسليم لما قد يأتي به القدر ومن دون أي اعتراض أو نقاش فإنه في البيت الذي يليه يضع يده على ما يمكن تسميته ، بلغة علم النفس ، الحالة المزاجية للفرد ، ويؤكد على جانب مهم في هذه المسألة ، هو ان الحالة المزاجية والانفعالية لا يمكن لها أن تكون على وتيرة واحدة أو تمضي بخط أحادي الاتجاه  . إذن فهناك صيرورة وتغير وتبدل في الأحوال التي تحيط بالإنسان ، داخلية كانت أم خارجية فهو يقول :-

 

                 و لا حزن يدوم و لا سرور           و بؤس عليك و لا رخاء

 

                                               ***********

إذن فليحيا الإنسان على أمل ، أن الأمس غير اليوم ، وأن اليوم لا يكون مثل الغد . وأن أحزان الأمس تلغيها أفراح اليوم وأن بؤس الحاضر قد يغيره رخاء الغد وهكذا دواليك  . تذكرنا هذه النظرة بنظرة ( هيراقليطس ) عندما كان يقول " أنت َ لا تنزل إلى النهر الواحد مرتين " فالمياه التي نزلت بها في المرة الأولى هي غير المياه التي نزلت بها في المرة الثانية . لقد كان ( هيراقليطس ) يدعي بفيلسوف الصيرورة  .. فهل يمكننا ان ندعو الشافعي بذات التسمية .

ومع ذلك فإن الشافعي ، على ما يبدو ، لم يتغاض عن مسألة الطموح البشري أو بلغة الخطاب الديني " الطمع أو الشره " ، على الرغم من أنه لم يذكرها صراحة ، بل أشار إليها بصورة ضمنية من خلال قوله :-

 

              إذا ما كنت َ ذا قلب قنوع              فأنت َ ومالك الدنيا سواء

 

                                      ***************

 

إن نقيض الطمع والشره وفقا لما يراه الخطاب الديني ، هو القناعة . والواقع ان القناعة من وجهة نظر نفسية لها بعدان ؛ الأول الاكتفاء الذاتي  وتحقيق الإشباع والرخاء وما يرافق ذلك من نتائج ايجابية للذات . أما البعد الثاني فإن القناعة إن لم تؤد إلى الرخاء والإشباع ، فهي صورة من صور السلبية والاعتماد . ويبدو ان الشافعي كان ميالا بنظرته إلى القناعة نحو البعد الأول أكثر من الثاني . ذلك انه قارن بين الإنسان القانع والإنسان الثري الذي ، حتى وإن ملك الدنيا وما فيها فإنه لا يغير من تلك الحقيقة التي مفادها أن الإنسان الثري الذي يملك الدنيا وما فيها هو والإنسان ذا القلب القنوع ؛ كلاهما يخضعان لذات الجدلية الأزلية ؛ أعني الحياة والموت .

وإذا كان هذا هو منظور الشافعي للفروق في الأرزاق أو لموضوع التفاوت والصراع الطبقي ، بلغة معاصرة ، على الرغم من انه لا يدعو إلى وجود مثل هذا الصراع .. بل يدعو إلى التعايش وإلى ان يأخذ كل واحد منا الرزق المقدر له .. فإن ذلك المنظور سيمتد إلى ما هو أوسع أو أشمل من موضوع الممتلكات المادية . انه يتناول الأحداث غير المتوقعة . أو بلغة الشافعي نفسه " المنايا " . عند تلك اللحظة فإن الأرض نفسها أو السماء كلها لن تستطيع حمايته أو حفظه ، فهو يقول :-

 

                    ومن نزلت بساحته المنايا            فلا ارض تقيه و  لا سماء

 

                  وأرض الله واسعة ولكن               إذا نزل القضا ضاق الفضاء

                                            

                                      *******************

إذن لا مفر من القدر و لا خلاص من حكم القضاء ، مهما كانت حكمة الإنسان وقدراته وممتلكاته ومواهبه وسلطانه وما إلى ذلك . وقد بلغ الشافعي ذروة إيمانه بالقضاء والقدر وإيمانه بأحكامهما بدعوته الأخيرة في خاتمة القصيدة، حيث  يقول :-

 

                     دع الأيام تغدر كل حين              فما يغني عن الموت الدواء

 

 تلك السطور كانت محاولة .. وجهة نظر ... قراءة ... حاولت توظيف معطيات العلوم الإنسانية على نص شعري يمتاز بالعذوبة والجمال ويحمل عبر جنباته مشاعر رقيقة وتأملات صوفية مفعمة بحرارة الإيمان ولهفة الروح وعذاب الضمير . هذا النص لا يدعو إلى التمذهب و لا يتقوقع في حدود خطاب ديني معين و لا يدعي الانتماء إلى هذا المعتقد أو ذاك ..ألا انه كان يتجه صوب نقطة محددة هي التعامل مع أحداث الحياة وضغوطها بقلب خاشع منسحق مسلما أمور حياته لحكم الواحد الأحد .     

 

 الهوامش :-

* نشر هذا المقال في النشرة التي يصدرها المعهد الملكي للدراسات الدينية / عمان ، الأردن ، العدد 21 ، شتاء 2002 .

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا