ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

جمال الغيطاني - مصرحين تهـج وتحج فراشـة القـلب
بهاء جاهين - مصر

 

لاشيء في هذا الكون له وجود منفصل قائم في ذاته‏,‏ بل هو تجسد وتجسيد لجوهر مكنون لا يفصح عنه تعينه المادي بقدر ما يفصح عنه اسمه‏.‏ هذا المعني أو هذه الرؤية هي العمودالفقري للدفتر السادس من سلسلة دفاتر التدوين للمبدع القدير جمال الغيطاني‏.‏ ويحمل هذا الجزء أو الدفتر عنوان رن بكسر الراء والنون المشددة‏.‏ وما رن إلا المرادف المصري القديم لكلمة اسم‏.‏ ويحدثنا الغيطاني عبر خرجته أو خروجه هاجا من بيته وعلاقاته الإنسانية نحو الفهم أن ما نراه أقل دلالة بل أقل حضورا‏,‏ وأدني وجودا‏,‏ مما نستحضره باستدعاء ملامح ذلك الشيء من خلال اسمه‏,‏ برنينه وتردداته في الذاكرة‏,‏ حيث يبرز الجوهر من غشاء الملمح الخارجي‏.‏ وهو بهذه الرؤية يتلامس مع خلاصة كل الفلسفات المثالية التي تقوم علي مقولة تعتبرها هذه الفلسفات الأساس البديهي لها‏,‏ أن الماهية تسبق الوجود‏,‏ أي ـ كما ألمحنا في البداية ـ أن الوجود المادي ليس منفصلا بذاته‏,‏ بل ان الشجرة مثلا تجسيد وترجمة لفكرة أزلية كلية تحوي ملامحها وملامح كل الشجر‏.‏ وكلمة فكرة هنا يمكن أن ترادفها كلمة اسم كما نقرؤها في دفتر الغيطاني الأخير‏,‏ أو المثال في فكر أفلاطون الذي هو أب لكل الفلسفات المثالية‏.‏

يبدأ العمل بقرار الخروج والرحيل‏;‏ ليس الخروج من مكان والرحيل إلي آخر‏,‏ فهذه مجرد قشرة‏;‏ بل إنه خروج من حياة بكل تفاصيلها الأسرية والعملية‏;‏ انخلاع من الجذور التي تشد الكاتب إلي موقعه وموقفه الراهن المتشرنق في شبكة من العواطف والمشاغل والحسابات المادية والاجتماعية والعائلية‏,‏ وتمزيقها لخروج فراشة القلب تهج وتحج ـ علي حد قول جاهين في إحدي رباعياته ـ سالكة ما سبق أن رأته فلم تره‏,‏ لكي تنفذ إلي جوهره فتراه حقا‏.‏

وتبدأ الرحلة بزيارة أخميم وتتلوها أماكن كثيرة مثل أبيدوس‏,‏ والقرنة وغيرهما من مدن الجنوب‏.‏وكل قسم من الدفتر ـ تقريبا ـ يحمل اسم مكان أو إنسان‏.‏ وفي وجود الغيطاني في تلك الأماكن ـ التي سبق أن زارها في مراحل سابقة من حياته‏,‏ نراه يتعامل مع المكان في ضوء الانطباعات القديمة‏,‏ التي ترسبت وتعتقت عبر سنوات الانقطاع عن المكان‏,‏ من خلال الاسم أو الرن الذي يدخر رنينه في ذاكرته‏,‏ فيري الشيء علي ضوء اسمه‏,‏ والمشهد الحاضر علي ضوء ما يستدعيه اسم المكان في قلبه‏,‏ بكل التداعيات المرتبطة به‏.‏

ورحلة الغيطاني أو خرجته صعود في الوادي نحو منبع النهر‏,‏ وربما نحو رحم الأم فالغيطاني من مواليد قرية جهينة‏,‏ وهو ايضا رحيل نحو منبع مصر المترامي في شرق نيل الصعيد وغربه‏,‏ وهو يغوص في الزمان من التصوف الإسلامي إلي روحانية مصر القديمة التي تحكيها دفاتر وجدران ما تبقي من آثار هذا الشعب الجميل‏;‏ ويتخذ من سيدي ذي النون المصري معبرا من تراثنا الإسلامي إلي سابقه الفرعوني‏,‏ مستندا إلي ما شاع عن ذي النون أنه كان عارفا بـ قلم الطير‏(‏التسمية التي أطلقها أهل زمانه علي الكتابات الهيروغليفية‏)‏ يقول صاحب الدفتر ـ وهي حيلة روائية في الغالب ـ إنه يشعر بوجود سيدي ذي النون معه يقوده علي درب الفهم والمعرفة بالاسرار المدفونة المكنوزة التي لم يبن منها إلا السطح‏.‏

والكتاب كله تقريبا رحلة روحية تبدو من الخارج أنها من قبيل أدب الرحلات‏,‏ حيث كل فصل مخصص لبلد أو مدينة‏,‏ بينما هي كما قلنا رحلة إلي المنبع‏:‏ الاسم الذي يفسر كل الاسماء‏,‏ الأم أو الأنثي التي هي أصل كل شيء في التراث إيزيس‏,‏ أو التي تشد الرجل إلي الإقامة أو تدعوه للسفر إليها ـ دائما إليها‏.‏

إنها حكاية رجل أحس بقرب الأجل ـ أو هكذا يظن ـ فقرر الحج إلي الأصل أو المعني الذي يفسر كل شيء‏,‏ فسعي إلي المهد علي قدميه سائرا عكس الزمن‏,‏ تماما كما كان المغاربة يفعلون في الزمن الوسيط حين ينذر أحدهم الحج علي قدميه إلي مكة‏,‏ فيقيم في مصر في طريق العودة أو الذهاب‏.‏

ولقد اكتشف ذلك الرجل أن العين لا تري حقا إلا ما يراه القلب‏,‏ إلا بعد أن يري القلب‏,‏ بعد أن يضع اسم الشيء تعينه المادي في سياق التجربة الشخصية وتراكم التجارب التي يحتويها ويخزنها الاسم بكل ترددات رنينه في العقل‏,‏ والوجدان‏,‏ في الحاضر والتاريخ والاسطورة ذلك هو رن‏.‏

جمال الغيطاني الرحالة العريق يري ما سبق أن رآه من قبل‏,‏ لكن إذا اعتبرنا ما سبق أن عاينه سطورا‏,‏ فما يسعي له هذه المرة هو قراءة ما خلف السطور‏.‏ إنه يبحث عن الخيط الذي يلم كل شيء‏,‏ ينتظم مصر القديمة ومصر الإسلامية ويمد مصر الحديثة بالقيم المتجذرة في تربتها‏,‏ بنسغ الشجرة الأم الذي يغذي الفروع‏,‏ وينير الحافة التي يقف عليها كاتب الدفتر بما يجعله يري الحاضر والماضي والمستقبل في ضياء كاشف تتصالح فيه الاشياء ويستقيم المعني في جملة مفيدة تبدأ بالميلاد وتنتهي بالابدية‏.‏

ويخطيء من يقرأ هذا الدفتر علي أنه رواية‏,‏ فسرعان ما يتلخبط غزله ويتوه‏,‏ بل هو كما وصفه صاحبه دفتر تدوين كأنها مذكرات وانطباعات مسافر رحالة‏,‏ كأن الغيطاني لايكتب بل يتكلم ـ كل هذا سطحي وبعيد عن الدقة‏.‏ أما التصنيف الذي هو أقرب إلي الدقة‏,‏ والأسلوب الذي نفذت إليه بعد عدة فصول من الحيرة‏,‏ فهو النقش‏.‏ إن هذا الكتاب كنقوش قلم الطير‏,‏ كنقوش السجاجيد ـ سجاد بخاري المذكور في العمل‏:‏ ترددات من فصل إلي آخر تعيد وتستعيد معاني وصياغات متكررة تختلف في التفاصيل‏:‏ حول الاسم وقوته الفاعلة‏;‏ حول الانثي صانعة القدر‏,‏ حول معابد الملوك‏;‏ وأولياء الله صاحبي الخطوة‏.‏

نقوش كأنها تقاسيم من مقام الصبا‏,‏ المقام المفضل لدي مدون الدفتر‏,‏ وهي نقوش ايضا لأنها مجردة‏;‏ فالعمل ابحار في المجردات‏,‏ إبحار أفلاطوني في الما فوق‏,‏ في المثل الأعلي المجرد الذي هو الاصل‏,‏ وما يشبهه علي الأرض مجرد ظل له‏,‏ فالنغم كما يري الغيطاني موجود وجودا مطلقا‏,‏ أما ما ينطق به الرباب والأعواد والبيان فهو استنطاق له وترجمة عنه‏,‏ إذا استطعنا أن نستحضره ونخرجه من مكمنه‏,‏ وما الاسم إلا مجردة أخري‏;‏ انه شرط الوجود وازليته ومعناه المجرد‏..‏

إذن فهذا الدفتر له وجوه عدة‏:‏ أدب رحلات من نوع خاص‏,‏ رواية بمعني ما‏,‏ متن فلسفي‏,‏ حج صوفي‏,‏ نقش إسلامي أو بقلم الطير أو تقاسيم قانون شرقي‏.‏ لكل هذا هو عمل غني وعميق‏,‏ وفوق كل هذا هو عمل يجعلك تحب صاحبه‏,‏ تترقرق فيه روح عذبة بسيطة متواضعة‏,‏ روح جعلتني أدرك لأول مرة أن الجمال الفني يمكن أن يشمل شخصية الكاتب إلي جانب شخصية النص‏.‏

أما أجمل ما في هذا العمل فهو لغته‏:‏ هي لغة كلاسيكية لكنها بسيطة‏,‏ غنية في مفرداتها الغيطانية والتراثية لكنها ليست حفريات متقعرة‏,‏ تجعلك تشعر أنها منبتة الصلة بأي شيء عداها‏,‏ لأنها تعيد إنتاج التراث صانعة منه رحيقها الخاص كشهد الملكة‏.‏ وهي لا تشبه تجارب الغيطاني الأولي في محاكاة لغة المؤرخين الإسلاميين في مصر المملوكية والعثمانية‏.‏ فلا توجد محاكاة هنا‏,‏ هنا امتلاء فقط‏,‏ لغة مترعة تفيض من كأسها‏.‏ علي سبيل المثال‏,‏ في الفصل النهائي عن إيزيس والاسماء والنغم‏:‏ انها كامنة تماما مثل انغام الموسيقي التي تتوالي علي‏,‏ كل الانغام دفينة اللامكان واللازمان‏,‏ فقط تحتاج من يستخرجها‏.‏ في تلك الليلة عزف اللحن الذي توصل إليه كبيرهم‏,‏ نغم مكرس للحنين إلي عذراء الكون الوفية لأوزير‏,‏ المنجبة منه بعد تمامه‏.‏ لحن من مقام لم يعرف من قبل‏,‏ مستلب منتزع من هفوف الرياح الواهنة ليس إلا الصبا‏.‏

هكذا رأي فكتب‏,‏ محاولا أن يرأب الصدع المفتعل بين روحانية مصر الفرعونية وروحانيتها الإسلامية‏,‏ فهو يري أن روح الشجا الساري في الكون مقام الصبا يوحدهما‏,‏ وعبره يفوح عطر الأولي ذائبا في عطر الثانية‏.‏

 

(نقلاً عن الأهرام)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا