ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

محمد حلمي الريشة في "معجمٌ بكِ"

أيُّها الشَّاعرُ العَاشقُ الشَّقيُّ

د. بطرس دلّـة - فلسطين

 

"محتشدًا بالصُّور الموحشة، ولذاذات الخلق الشعري، هذا هو الشاعر محمد حلمي الريشة في انثيالاته الكتابية، واحتراقه في محترق القصيدة."

(مراد السّوداني)

 

قرأت هذه المجموعة الشعرية مرَّتين: المرَّة الأولى كانت قراءةً عابرةً وسريعةً، والمرَّة الثانية كانت بمصاحبة القلم.

حيَّرتني هذه المجموعة لأنها مجموعةٌ غيرُ عاديةٍ! مجموعة يلهثُ فيه الشاعرُ كثيرًا وراء الكلمات ذاتِ المضامين الغريبة مستغِلاًّ ثَروتَه اللغويَّة، ووسائل البلاغة المختلفة من بيانٍ إلى بديعٍ، ليصوغَ لنا شعرًا ذا إيقاعٍ موسيقيٍّ جميلٍ، ومقطوعاتٍ نثريَّة ذات شاعريَّةٍ، لأن كلماته النثريَّة تُفجِّرُ شاعريته إلى الأجملِ والأروع؛ فهو بين قصيدةٍ وأخرى، وبين مقطوعةٍ وأخرى، يتألَّق في سماء الإبداع فيأتينا بالغريب والجديد في محاولةٍ منه لأن يقول شيئًا لم يقُلْه غيرهُ من الشعراء المجيدين؛ فقراءةٌ مُتمعِّنةٌ في نصوص هذا الكتاب- المجموعة، تجعلنا نشعر أننا إزاء شاعرٍ متمرِّسٍ في الكتابة، شاعرٍ ذي ذائقةٍ فنيَّةٍ وموسيقيَّةٍ حيث يُمَوسِقُ الكلمات، ويُكسِبها رونقًا خاصًّا، ومعانيَ أبعدَ من مدلولاتها الحرفيَّة، ويلجأ أحيانًا إلى إدخال أل التعريف على الأفعال، كما يلجأ إلى إضافة الصِّفات إلى الأفعال، وهو أمرٌ لم يَسْبق لنا أن تعرَّفنا إليه إلاَّ لدى القليلين من شعراء الحداثة.. هكذا يقول في (ص 15) من المجموعة:

كُلُّ لَوْنِ عَطَشٍ

بَيْنَ

مَدَى

مِعْرَاجِنَا

يُمْحَى بِرِيشَةِ مَاءٍ

مَغْمُوسَةٍ

بِصَرْخَةٍ

تَ تَ عَ رَّ ى

فكيف نغمسُ الريشةَ بماء صرخةٍ تتعرَّى؟!

وفي (ص 16) يكتب:

أَيَّةُ مُوسِيقَى سَائِلَةٍ الْآنَ

تَتَخَارَقُ إِنَاءَيْنَا

تَتَشَاسَعُ دَائِخَةَ تَجَلٍّ

كَسَكْرَانِ وَابِلِ تُفَّاحَةٍ لَا تَكُفُّ

كَأَنَّهَا صَبَاحُ نُعَاسٍ

أَوْ

لَيْلَةٌ هَشَّةُ سُدُولٍ

هُنَا

نُقَارِبُنَا إِلَيْنَا بَعْدَ نِصْفِ تَقْشِيرٍ

وَنَعْتَصِرُنَا

قَطْرَةً كَامِلَةً

فكيف يكون الفاعل مفعولاً به؟!

أيها الشاعر الكبير، لك ميراثٌ عظيمٌ في الشعر والنثر، لذلك نرى فيك نجمًا ساطعًا مُعبَّئًا بالتباشير النديَّة نحو فجرٍ هو الأجملُ والأروعُ آتيًا من بعيدٍ، تدغدغهُ أحلامُك الكبيرةُ عندما تَنضُجُ كلماتُك وكتاباتُك وإبداعاتُك على الأوراق البيضاء، فترتَسمُ البسماتُ على الشِّفاه، وتصحو الذاكرةُ العربيَّة لأنَّ ما تُبدِعهُ هو خُبزُ الحياة! ذلك الخبزُ مصنوعٌ من حبَّات القمح الذهبيَّة التي تُعبِّئُ السنابلَ الخارجةَ من حقول فلاَّحينا الذين طوَّعوا الصخرَ، وطحنوه بسواعِدهمُ القويَّة في عشقٍ مُتوِّهجٍ للأرضِ والوطن.

هذه المقدّمة هي تعبيرٌ صادقٌ عمَّا يجيشُ في الصدر من عواملَ جيَّاشةٍ تجاه شخصِ الشاعر الكريم! فأنت، يا أخي محمد، تحلِّق في سماءِ الكلمة بغير حدودٍ، وتُموسِق أبياتَك بموسيقى كما السيمفونيَّات الرائعة، تُؤنِّثها وتُذكِّرها حتى يتداخلَ المذكَّرُ بالمؤنَّث في شقاوةٍ مفصودةٍ، لأنك ترى معشوقتك كما ترى نفسَك كتابًا واحدًا وبورقةٍ واحدةٍ موضوعها واحدٌ هو: أُحِبُّكِ! فعجمُ القصيدةِ هو كلماتُها، ومعجمُ الحبِّ هو ارتعاشاتهُ التَتَحرَّكُ في مهبِّ الريح حتى لا تتركُ شرشفَ الغبار يُملِي عليها إقامتَهُ!

وإذا ما جنحَ صوتُها- أي الحبيبة- إلى أُذنك بصيغة الآهِ، تَساقَطْتَ فوق بَينِكَ بكلِّ وضوحِ الشَّغف إلى صورتها الغامضة، فكيف يكون وضوحُ الشَّغف إلى صورتها الغامضة؟!

كلماتُك، أيها الصَّديق، حُبلى بالمشاعر الجيَّاشة تجاهَ مَن تحبُّ! فهل يبدأ الليلُ منكَ عتمةَ تماهٍ  بيضاءَ كي ينتهيَ نوَّارهُ فيها؟! وكيف إذًا تقدِّم لها طاقةً من ثلاثِ ورداتٍ؟! هي بلَون الحنين، وأنتَ بلَون الشَّوق، وأنتما معًا بلَون المسرَّة؟!

أكلُّ ذلك كي يقطُرَ عطشُكَ قطرةً قطرةً قطرة؟! كيف تنتقلُن لا بل تنزلقُ الكلماتُ مُموسقةً تارَّةً، ومنثورةً أخرى، فتطيرُ رشاقةُ الأثيرِ بخفَّةِ الوَلَه، ويضجُّ الشَّوقُ بتضوجِ وخزهِ كي يفرُكَ الحلمُ أسئلةَ عَينيْهِ هَرِعًا من غبشهما نحو أجوبةِ هتافٍ صافٍ؟! ألأَنَّ ثغرَها نحلةُ عسلٍ تتعسَّلُ غناءً فترشقُها انسكابَ طربٍ؟! أم لأنها تتحوَّلُ بين يديكَ إلى قيثارةٍ بتواجُدِ الوترِ تعزفهُ ضائعَ البحث عنه؟! وعندما تتصاعدُ أنفاسُها هديل ورقاءَ وسطورًا، فكيف يخرقُكَ أنينُ لهثكَ، فتخونُها معها؟!

يتراقصُ صخبُكَ من عُلوِّ نارهِ فتنطفئُ نارُك في موقد عشقِها!

أيها العاشق الشقيُّ! تنخطفُ إلى برزخِ الحُلمِ تتوقُ إلى احتضانها خصرًا وحصرًا، فتتهجَّاها لتبقى أبجديَّتُكَ، وتبقى صاديًا صبابةً تتعلَّلُ بلثغةِ الأثير أمامَ كوَّةِ السَّمعِ، أو تأتأةِ القلب حين تحبُو على شفتيها، وعلى سُندس السُّطور! فتكون هي بين يديكَ أُبَّهةً مُستكينةً، وما أروعها من أُبَّهةٍ!

فمَن هي هذه المحظوظةُ التي تتماهى فيها متوحِّشًا في لذاذاتكَ الشعريَّة ناهبًا منهوبًا، تُصدِرُ روحكَ رغوةَ الشَّوقِ والشَّبق توَّاقًا لصناعة الحياة مع تلك المعشوقة؟!

فهل هي فتاةُ أحلامِكَ الحقيقيَّة ورمز الأنوثةِ الصَّارخة، أم هي قصيدتك التي تشعر بعقدةِ عشقها ككلِّ شاعرٍ يحبُّ قصائدَهُ كما يحبُّ الأبُ أبناءَه، فتُسكنها شغافَ القلب حتى لو احترقتَ في احترافكَ لقصائدِك؟!

أنت أيها العزيزُ تُطلِق نفسَك إلى القمر والنُّجوم.. تُطلِق نفسَك إلى فوق؛ إلى ذروة جبلِ البياض، وتمسحُ طلَّكَ عن سطح بهاءِ مَن تحبُّ بفوطةِ سحابةٍ! فمن أين تأتي بكلِّ هذه الاستعارات المُنمنمة؟!

في (ص 34) تضيف تساؤلاً غريبًا خارجًا عن كلِّ مألوفٍ عندما تقولُ:

كَيْفَ صِرْنَا نُشْبِهُنَا؛

نَحْنُ اللَّذَيْنِ اخْتَزَلْنَا سِيَاجَ الْفُصُولِ/

فنَهَضَتْ لأَجْلِنَا مَنَازِلُ

الْوَرْدِ.

إن موسيقى شاعرِّيتكَ تشيرُ إلى تفجُّرِ الشَّاعريَّة من بين الكلمات، ومن حقيقة انسجامها مع بعضها!

في الصفحة التالية تُضيف، وهو أيضًا من غريب تجديداتكَ:

كَمْ تَمَنَّيْتُ لَوْ أَكْسِرُ سَاعَةَ الرَّمْلِ؛

تِلْكَ الَّتِي أَغَاظَتْ لَحْظِيَ بِسَرِقَتِهِ/

وَأَنَا جِدُّ جَعَلْتُهُ نَحْوَكِ

دَائِمًا.

فكيف أضفتَ الجِدَّ إلى الفعل؟! هل هو تحليقٌ في عالم الرَّمز والخيال أم ماذا؟ وكيف يكون بضع الأرق؟!

أنتَ أيها الشَّاعر صيَّادٌ ماهرٌ تصطاد الكلمةَ الحلوةَ لأنك تعرف أنَّ الكلامَ الجميل هو شيءٌ من الرَّقص، وعند سماعه ترقصُ قلوبُنا فرحًا ونشوةً!

أهي مبالغةٌ عندما تصطاد سربَ خيالاتها بخدشةٍ طائشةٍ، وتعجنها بمحلولِ الحنينِ؟! ثم تعود لِتَنقُرَ بأصابعكَ على صهوةِ الوقت!

الله.. ما أجملَ هذا النَّقر! وتنتقل بعدها إلى نثرنتها بانفتاحٍ يُضرِّج قماشَ وجهها!

الأنثى، يا عزيزي، هي القصيدةُ، وقد تكون الحياةَ أيضًا، ونحن لا غنى لنا عن الاثنتين! كما قد تكون فتاةَ أحلامِكَ، أو أيَّة معشوقة أخرى! مع أنك لا تشبه عمر بن ربيعة الذي قال:

سلامٌ عليها إن أرادتْ سلامنا / وإنْ لم تُرِدْ هذا السلام إلى الأخرى

فعمر هذا كان شاعرًا عابثًا، أمَّا أنتَ فلا يليق بكَ العبثُ، ولا الشَّقاوة بهذا المستوى.

أخيرًا بحثتُ في صفحات المجموعة عن الوطنيَّة والتعلِّق بالوطن، فلم أجدها صريحة إلا إذا كانت معشوقتك أرضَ الوطن فلسطين، عندئذٍ تنقلب الموازين، ويتحوَّل تفسير مضامين القصائد.. ولنا أن نفلسفَ المعاني كقرَّاء كما يحلو لنا!

لك الحياة!

 

 

* أُلقيت في قاعة إبداع بكفر ياسيف بدعوة من خيمة البادية يوم الخميس 26/06/2008).


 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا