ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

الإيقاعية الشعرية في ديوان " أغاني الحياة" لأبي القاسم الشابي

 

كوثر خليل - تونس

يمثل شعر أبي القاسم الشابي إذا ما درسناه من وجهة نظر تحليل-نفسية و من وجهة نظر التحليل الإيقاعي مدونة هامة لا فقط على مستوى الأدب التونسي بل على مستوى الأدب العربي عموما فهذا الشاعر المتخارج عن إبستيمياته الضيقة ليصوغ روح الكائن الإنساني في تردّدها الموجع بين عوالم متناقضة الأبعاد فلا ينطق بغير عبقرية الشعر و لا يعترف بحدود المكان و اللامكان دأبه في الكتابة طفولة مستعادة تعيده دائما إلى أصول الأشياء من كينونة فيزيائية أو نفسية و تنطقه بلغة العقل الشاعر فلا يفتأ يجوب أصقاع اللّغة  يغترف منها بديع المعاني و غريبها و يصهرها في تنور المكابدة و المأساة فيصير لشكلها تحديد و لكينونتها إشعاع و إيقاع يتردد في الكون من حقبة زمنية لأخرى، و قد اتخذ الزمن كإيقاع داخلي للنص الشعري أبعادا كثيرة تقوم باغناء النص و إضفاء الكثافة على الجو الشعري بصفة عامة و هو في أربعة أنماط:الزمن الجسدي و الزمن الموضوعي و الزمن المجرد و الزمن المنشود.

و مهما تعددت أشكال الزمن فإن الزمن الحقيقي هو الحلم و ما يتصل به من عدم تحديد و تفكيك لأنظمة الواقع بأكملها في علاقتهـا بالمادة فهذا التصور النـابع من وعي حاد هو غريب عن الأبستيميات النقلية و متخارج عنها تلك التي تقدم لنا جملة من الحلول الوجودية و ليس علينا سوى البحث داخلها كمنظومة لا خارجها فالنفس الشاعرة في الديوان تتأثر بالزمن الواقعي سواء كان زمن الجسد أو زمن المجتمع القائم على الاستعمار و لكنها تؤثر كذلك و تصنع زمنها المجرد من جهة و المتخيل من جهة أخرى فلحظة الكتابة لدى أبي القاسم الشابي لحظة ما ورائية صادقة لا تعدو أن تكون مرآة صافية للنفس في ألمها و ضعفها و أملها و خوفها و طموحها نحو الآفاق اللامادية.

يتحلل الشاعر حين يكتب من أصنام الواقع و لكنه مع ذلك يستنبطها فتظهر شعرا، ثورة، صرخة في وجه قُطان القصور أو المستعمر المستبد أو الشعب المتبلد الحس الذي لا يسمو إلى وطن الشاعر. فيتأسس الزمن الشعري في الديوان على التوتر و التواتر فهو من جهة يحاكي تناظرات الوجــود و من جهة أخرى ليس إلا صدى للروح المعذبة في صعودها و نزولها الأزليين بين عالم المادة و عالم المثل و هذا ما يعني الفعل الزمني الذي تتداخل فيها الإنسانية بالكائنات و الأجرام و عقل الطبيعة فلا تقدر على إدراكه إلا الروح و يغدو الكون موسيقى منسجمة متناغمة يكون من آثارها تحرير النفس من عذابات التمزق بين الماضي و الحاضر و المستقبل فالزمن واحد ينطلق من الحس إلى الحدس إلى النفس فتمتلئ به و تسبغه على الأشياء إذ أن الحياة تفعل حتى عندما لا تفعل شيئا فالأنا جوهر قديم و ليس الإنسان في واقعه و حاضره إلا شكلا من أشكال ذلك الجوهر و ليس منقطعا عنه و لا فاقدا للسيولة ( الزمنية).

لقد توقعت كتابة الشابي بذلك الشعور الفريد بالزمن فكان للغته خصائص ايقاعية صوتية في مستوى البيت الواحد.

ان سحر الضباب، و الليل، و الغاب بعيد المدى، قويّ الفتون

و جمال الظلام يعبق بالأحلام و الحب... فابتسمي، و اُلثميني

و توارى الوجود عنا بما فيه .... و غِبنا في عالم مفتون....

و نسينا الحياة، و الموت، و الكون و ما فيه من منى و منون

                                                                " ص 147 "

و في مستوى القصيدة فتكاد تكون اغلب قصائده و ان كانت عمودية قصيدة التفعيلة الواحدة و هو شكل من التناظر الإيقاعي و الذي ينسحب على رؤية مخصوصة للوجود فالمتقارب و تفعيلته "فعولن" تتردد في اكبر عدد من القصائد.

تبرمتَ بالعيش خوف الفنــاء              و لو دمتَ حيا سئمت الخلــود

وعشت على الأرض مثل الجبال           جليلا، رهيبا،غريبا، وحيــد

فلم ترتشف من رضاب الحيـاة             و لم تصطبح من رحيق الوجود

و لم تفتكر بالغد المستــراب              و لم تحتـفل بالمرام البعـيــد

و ماذا يرجّي ربيب الخلــود              من الكون و هو المقيم العهيــد

و ماذا يود، و ماذا يخـــاف              من الكون و هو المقيم الأبيــد

"حديث المقبرة "114

و ينسحب التناظر كذلك على علاقة الكلمات فيما بينها من مذكر و مؤنث فحساسية الشاعر لا بد تتفطن لهذه العلاقة الكيمائية في صميم اللغة بين الأسماء المؤنثة و ألأسماء المذكرة بل الأصوات المؤنثة و الأصوات المذكرة و تمزجها ذلك المزج الذي هو من صميم الطبيعة و الوجود.

" ظمئتُ الى النور، فوق الغصون !           ظمئت الى الظل تحت الشجـر!

  ظمئت الى النبع، بين المــروج،            يغني و يرقص فوق الزهــر!   

  ظمئت الى نغمات الطيــــور،                و همس النسيم و لحن المــطر

  هو الكون، خلف سبات الجمــود،         و في أفق اليقضات الكِبَـر"  

"إرادة الحياة "144-  143

و هي تتقدم في نص الشابي في شكل أزواج مثل الموت و الحياة ، الليل و النهار، الوجود و الفناء، العواصف و الخرير، المنى و المنون، أزواجا تتوالد من بعضها فتخلق قوة مزدوجة الكثافة تطور المفردات من الوجود المادي إلى الفكرة.

بل يذهب الشاعر إلى صدام المفرد بالجمع لخلق علاقة من التضاد المحبذ في الإيقاعية

بحر تجيش به العواصف في العشية و الغداه

و تظله سحب الظلام فلا سكون و لا إياه

نسيتك  أمواج البحيرة، و النجوم اللامعة

و البلبل الشادي و هاتيك المروج الشاسعة

و جداول الوادي النضير، برقصها و خريرها

و مسالك الجبل الصغير بعشبها و زهورها

          "قلب الأم" ص 110

انه كالحِرَفي في مشغله الصغير يجرب الأخلاط و يضيف و يعزل لإحداث المزيد من الدهشة في كل مرة و لا يحصل له ذلك الا بالمكابدة الشعرية و ملازمة الفعل الإبداعي و الإخلاص له فبذلك فقط نعلم ان للكلمات حياة و انها تتفاعل كالبشر، تتنافر و تتجاذب تحمل شحنتها في سياقها  Contextualisation  و لكنها لا تعدم الوظيفة و القوة خارج سياقهاDécontextualisation  فمنها ما يحمل معنى سلبيا  Péjoratif  او ايجابيا Mélioratif  و في كل مرة تتفاعل كيماويا مع سياق جديد                               Recontextualisation و تحدث تموجات خاصة تتظافر لتحاكي الحالة الشعرية المخصوصة.

عذبة أنت كالطفولة، كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد

كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالورد كابتسام الوليد

يا لها من وداعة وجمال وشباب منعم أملود

يا لها من طهارة، تبعث التقديس في مهجة الشقي العنيد

أي شيء تراك؟ هل أنت فينيس تهادت بين الورى من جديد

 

"صلوات في هيكل الحب " ص 101

ان الفصامية موجودة في اصل تكوين الشاعر لأنه ليس الا محايثة  رائعة للكون و للواقع، تجمع فيه كل الأبعاد على تضادها فيكون كالموشور تنعكس عليه الألوان و الأضواء فينضح بها في شكل تعاقبات صوتية و ضوئية تخلق هندستها المختلفة في كل مرة فينتقل في وظيفتها من التعاقب الى التواصل و من الإيقاع الى التوازن. و يعد الزمن في أبعاده القريبة و البعيدة رافدا للاشتقاقات اللغوية و السياقات الشعرية.

" انت... انت الحياة في قدسها السامي            و في سحرها الشجي الغريـد 

انت... انت الحياة في رقة الفجـــر                  و في رونق الربيع الوليــد

انت... انت الحياة كــــــــل  أوان                       في رواء من الشباب، جديـد 

انت... فوق الخيال و الشعر، و الفن               و فوق النهى و فوق الحـدود

" صلوات في هيكل الحب" ص 102

و يهدف التضاد الى احداث توقيع خاص في القصيدة فالرؤى الأنثوية  في المزاج الشعري تلتحم  التحاما  لطيفا بالمسميات الذكورية لتخلق كيمياء ماورائية و تصنع ايقاعية خاصة و غنى في مستوى الشعرية بل انها قادرة على جعل القصيد أكثر عمقا و أعمق هندسة فيتجلى في مجالها ألألسني و المعنوي كحالة متكاملة.

سأعيش رغم الداء و الأعداء             كالنسر فوق القمة الشماء

أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا            بالسحب و الأمطار و الأنواء

أصغي لموسيقى الحياة و وحيها          و أذيب روح الكون في إنشائي

و أصيخ للصوت الإلهي، الذي           يحيي بقلبي ميت الأصداء

" نشيد الجبار"

و رغم القول باعتباطية العلامة فان الكلمات رغم ذلك حاملة لشحنة و حاملة لجنس و لكيمياء تجعلها في كل مرة و كيفما ابدلنا نظامها تفضي الى جو آخر للقصيدة  يجعل نص "الشابي" غير نص "السياب"       و نص "بودلير" غير نص "نرفال".

الزمن الجسدي

تمثل الحالة الروحية الشعرية في جزء كبير منها تصعيدا للحالة الجسدية و قد كانت الحالة الجسدية للشابي حالة مخصوصة اتصفت في معظم فترات حياته بالعلة و الآلام بل انه كان من خلال الكتابة يبذل جهدا جبارا يرهقه و يحطم اعصابه و ان كان يعطيه لحظات من الشعور بالنصر و القوة، لحظات هي اللانهاية في عطائها و لكنها حين ترده الى عالم الواقع أي عالم المرض و العجز امام المستعمر تقضي على ما تبقى من أوصاله فيفر الى الغاب يطبب جراحه و يرتق أوصاله ليسترد بعض العافية تسعفه في عمره القصير فإذا شعره في هذا الباب قسمان قسم يحاكي الألم و يصفه و يشرح أبعاده التي تتعدى الجسد الى آلام الروح و شقاء الوعي الإنساني أمام عجزه الطبيعي ازاء قوى تتجاوزه كالقدر و الإستعمار ( المجتمع التونسي بتركيبته الإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية في ذلك الوقت) اضافة الى منزلة الشاعر في حد ذاته و حساسيته العميقة مقابل خصائص الواقع بصفة عامة.

اصيخي  فما  بين   اعشار  قلبي       يرف صدى نوحك الخافت

معيدا على مهجتي بخفيف             جناحيه صوت  الأسى المائت

"الزنبقة الذاوية" ص 41

انا  طائر، متغرد، مترنم               لكن بصوت  كآبتي و زفيري

" مناجاة عصفور"ص41

و لكن هو القدر المستبد                  يلذ له نوحنا كالنشيد

                                                                 "حديث المقبرة" ص115

و قسم كان يمثل البديل الذي يريده الشاعر لهذا الجسد ( غضارة الشباب، سعادة التلاحم مع عناصر طبيعية، الراحة المتوسطة بين ألمين ،آلام الجسد بصفتها وسيلة للتطهير و بلوغ الخلود)

أنت يا قلبي قلب، انضجته الزفرات

أنت ليل معتم، تندب فيه الباكيات

أنت كهف، مظلم، تأوي اليه البائسات

انت صرح، شاده الحب على نهر الحياة

لبنات الشعر... لكن قوضته الحادثات

"الى قلبي التائه" ص 80

إن الدراسة النفسية لشعر أبي القاسم الشابي تجعل من جسده قيثارة شعره فهذا الجسد المثقل بالمرض و الممزق بفورة الشباب من جهة و براثين العلل من الجهة الأخرى هو الذي يصدر هذه الأصوات الشعرية فتكون تارة رهيبة يصبغها الأنين و طورا صارخة دافعة للتجاوز في سماء الكونية الجسدية و الكونية الشعرية)   و تفضي دراسة علاقة الجسد بالإلهام الشعري إلى أن الألم يصير مدرسة للجسد و بوابة لمعرفة جديدة من جهة و من جهة أخرى فإن الشاعر في سعيه للتعويض عن ذلك النقصان و هو المطلق و كأنه يجعل من جسده الضعيف نايا يعزف ألحانا خالدة و لهذا فالعلاقة مع الجسد تتبع مرحلية ثلاثية، التعبير المباشر أو الواعي عن الألم، البحث عن الراحة من خلال إيجاد حقل لغوي يمثل حالة من السعادة و الحبور ينسينا المنطقة المؤلمة التي انطلقنا منها و أخيرا الاستعاضة عن الضعف الجسدي بحقل لغوي يختلف عن الثاني و ان كان الثاني يمهد له، عالم من القوة و تجاوز الذات عالم من الكلمات المذكرة ( الرعود، البروق، المجد، الفجر، العز...)

ان الحساسية الشعرية لدى أبي القاسم الشابي تتجلى ايضا من خلال تلك المحاكاة للطبيعة على أساس من المشاركة الكونية التي تربط الكائنات فيجتمع الشتاء مع السبات الى الخريف مع الركود و الجمود و الموت و تظهر مفردات الظلام و العجز فالخوف لتخلق جوا من العداوة و التفكيك بين العناصر لتتظافر ضد الشاعر و شعوره بالغربة و اللاتفهّم ثم ياتي الربيع فتتحرر الكائنات و تتزاوج و تتكاثر و تعيده الى الطفولة مهد السلام البعيد  الذي يفتقده جسده المريض و روحه الممزقة فتلتئم جراحه و  تطفئ حرارتها بندى الفجر الوليد.

و لكن الزمن الجسدي ما يفتأ ان يأخذ منعرجا آخر تماما فتغريه المكابدة الشعرية بولوج قبر الموت و ليس ذلك يأسا كما يذكر الشاعر احيانا و لكنه دفع بالمعرفة الجسدية حتى  اقصاها و استغراق في الألم حتى معرفة منتهاه و قد كان موت والده بالنسبة لروحه المرهفة هزة عنيفة أرغمته على التفكير في الموت        و محاولة ولوج هذا العالم فكرا و شعرا فكان حديث المقبرة و هو شعر فلسفي يروم اغوار  الممكن السحيقة و كذلك  قصيدة الى الله التي تمثل محاورة لما هو سماوي وجودي في سمة انسانية شمولية.

يعمل الطابع الإنصهاري للحظة الكتابة على صياغة الترابط الغنائي بين الأصوات اللغوية

و خلق الجدل بين الأصوات القوية و الضعيفة، الغليظة و الرقيقة، المرتفعة و المنخفضة، المتجاذبة

 و المتنافرة.

فالترابط بين هذه الأوصاف المختلفة هو الذي يغني القصيدة و يشحن الجو الشعري على أساس من الانتظام الداخلي للغة.

لقد اهتم دارسو التحليل الإيقاعي Rythmanalyse بالنصوص الشعرية أساسا و حاولوا أن ينفذوا إلى علم نفس الزمان معتمدين مجلوبات الفيزياء المعاصرة فالقصيدة لا تكون حساسة عبر الإيقاعات فحسب بل إن للكلمات شحنة و قوة تجعل لها تأثيرا خاصا في الحقل اللغوي الذي تعمل فيه و كما أن الفيزياء ترتكز على مفهوم المادة و الإشعاع المتموج و تحول كل منهما إلى الآخر و تناظرهما فالمادة بمزاياها التموجية و الإيقاعية تتحول إلى إشعاع في حالة من حالاتها و الإيقاع هو أساس دينامية المادة و النفس التي تصهر اللغة شعرا و لهذا يقول أبو القاسم الشابي بنظرية العدم  و الدثور التي تتحول فيها الروح إلى ضوء يلامس الأفاق السماوية فالكائن الحالم في إعادة صياغته للعالم من حوله يكون قد مرّ خلال الحالة الشعرية بما يمر به النائم من حالات الموت المستنبطة و التي تجعل من الذاكرة قماشا تملؤه الفتوق و هي الصور التي لا تحسن الذاكرة الواعية استبقاءها و تثبيتها في الوعي. إن كل ما ينطق به الشعر ينطق بلغة الحس و إن كان مكتوبا بلغة الفكر لأن له أصولا في الغرائز الغامضة فكل ما تعبر عنه الكلمات ينبغي أن تكون له صورة عقلية في عالم المادة و هذا ما يجعل الكلمات مفردة كانت أو جمعا، مؤنثة كانت أو مذكرة تحدث في النسب تموجات تختلف من شخص لأخر حسب الجنس و حسب الاستعداد الشعري.

إن الشعر ليس سوى حديقة تتجمع فيها كل جماليات العالم سواء كان جمالها جمال الصورة المادية أو المعنوية أو الإيقاعية و هذا ما جعل بودلير و رامبو يتحدثان عن جمال القبح و ما تفعله خمياء اللغة من إعادة تشكيل للكلمات و الصور حتى القبيحة منها و إضفاء أبعاد جمالية عليها لم تكن موجودة قبل صياغة القصيدة.

إن التلازم بين الشعرية و الزمنية ليس مجال أي شك لأن الزمان يتحكم بكل شيء من جهة و لأن أجمل صياغة للزمن و إعادة تشكيل له لا تتم إلا عبر الشعر حين نصهر كل المعطيات الزمنية من خلال اللغة الشعرية و هذا ما تقوم به الذات الشاعرة بما لها من خصائص تختلف عن النشر العاديين ففيها تتعايش الطفولة و الحياة و الموت و الأزل و الأبد و الفناء و الخلود لأنها منفتحة على عوالم الحقيقة التي لا يشف عن إدراكها كل الناس فهذا التداخل بين عالم الحلم و الواقع هو الذي يعيد صياغة اللغة و يتحكم بمستقبلها على المدى البعيد مفككا إياها إلى نوتات متدرجة من الأصوات و الروائح و المذاقات و الأبعاد عبر ميتافيزيقا الليل الغريبة.

 

إن عالم الطفولة بالنسبة للشابي هو عالم الألفة بعكس عالم الواقع الذي هو عالم الغربة و الفرق بين هذين العالمين بكل بساطة و بكل تعقيد فرق في خصوصيات الزمن فبقدرما يكون الزمن ممتدا، شاسعا، لا زمنيا تكون راحة الذات الشاعرة و سعادة الروح التي من طبعها اللاتحديد و الخلود و بقدر ما يكون الزمن إنسانيا ، دنيويا محدودا يكون اختناق الشاعر و عزلته ، إن أصل كل شيء معنوي هو بالضرورة فيزيائي و ما يفعله الشعر هو إقدارنا على التنفس العلاجي من خلال أصوات اللغة المتعددة بل إعادتنا إلى تنفس الجنين في بطن أمه كدليل على جنينية الوعي الإنساني و البدء من البداية حيث اللامكان و اللازمان موطن الروح قبل أن تدخل سجن الجسد -الزمني.

يعتبر أبو القاسم الشابي العدم أغنى قيمة من الوجود في الحياة على مستوى الشعرية لأنه يكون جسر تحقق الذات الشاعرة فالموت في نظره ليس نهاية الحياة بمعناها المادي و لكنه البعد الذي يأخذ فيه الزمن مساحته القصوى فالحياة و إن تركبت من حيوات بشرية غير محدودة فإنها تبقى قاصرة بذاتها مضمحلة بشروطها الزمنية أما الموت حيث لا زمن يخضع لشروط الأرض و الجاذبية تجد الذات الشاعرة ما تفتقده من أساس للحرية فالمكان و الزمان هما أيضا من حدود الحرية.

 

الزمن الموضوعي

ان العالم الموضوعي للشاعر يبقى بعيدا عن ادراكه المحض المباشر و ان كان متواجدا في شعره و يتخذ القصيد بأكمله فالزمن الموضوعي للشاعر هو زمن تتشابك فيه كينونة الآخر بكينوناتنا نحن، الآخر الشعب، الآخر المستعمر و هذا ما يجعل هذه المواضيع مثرية للتجربة الشعرية و حافزا للذات على تجاوز واقعها و الإنتباه الى ما يحدث فيه فانفتاح الذات الشاعرة على العالم الموضوعي يجعلها تتنزل بزخمها العاطفي و اللغوي الى ارض الواقع لتشارك شبيهما  وظيفته الواقعية و هو ما يتضاد مع الإنعزال الحالم الذي يجعل الذات الشاعرة منكفئة على  اختياراتها الجمالية الخاصة مكتفية بديكور مسبق للحالة الشعرية..أما المواضيع المتخارجة عن الحساسية الشعرية المباشرة فتتمثل في علاقة الشاعر بالمجتمع ككينونة مجردة من جهة و كواقع طبقي من  جهة  أخرى ثم علاقته بالعنصر الدخيل عليه و هو المستعمر و إن كانت علاقة الشاعر بالمجتمع تقوم على إسقاطات سيكولوجية أساسها الشعور بغربة الأنا وعلويتها و هذا يتراءى بجلاء في قصيدة " النبي المجهول".

" أيها الشعب أنت طفل صغير، لاعب بالتراب و الليل مُغس؟"

أنت في الكون قوة لم تسُسْها       فكرة عبقرية ذات بأس

أنت في الكون فكرة كبلتها          ظلمات العصور من أمس أمس

 

فالزمن بالنسبة للشعب زمن مظلم ( الليل،ظلمات العصور) وهو زمن مهدور ( طفل صغير ، لاعب بالتراب، أمس أمس)

و يتجلى هذا في قصيدة أغاني الرعاة حين يقارن الشابي الوحشة بالعدد

 

" فزمان الغاب طفل، لاعب، عذب، جميل

و زمان الناس شيخ ، عابس الوجه، ثقيل

يتمشى في ملال، فوق هاتيك السهول

                                                                            ص 131

 

فالزمن دليل الحياة و هو بالنسبة لمحيط الشاعر الموضوعي لا يدل إلا على الجمود و الموت فشوق الحياة لا يصيب بنعمته إلا من كان رقيق الفؤاد عظيم الطموح.

إن الزمن الموضوعي بالنسبة للشابي زمن هرم غير فاعل، زمن مستقيل من الحياة ، زمن السبات في دورة الحياة البيولوجية .

" يجيء الشتاء، شتاء الضباب         شتاء الثلوج ،شتاء المطر

فينطفئ السحر، سحر الغصون           و سحر الزهور و سحر الثمر

و يفنى الجميع، كحلم بديع،           تألق في مهجة و اندثر

          "إرادة الحياة" ص 143  

كما يرتبط الزمن الموضوعي بكل مظاهر الطبيعية الدالة على الزوال (الكسوف، الخريف، غدير موات، غفوات الكهوف) و قد استدعتها الفوارق الطبيعية التي يلاحظها الشاعر في واقعه

" كرهت القصور و قطّانها             و ما حولها من صراع عنيف

و كيد الضعيف لسعي القوي           و عصف القوي بجهد الضعيف

ص 59

و اذا كان الشعور بالزمن يبلغ هذه الحدة فذلك بسبب وجود الاستعمار الذي يزيد الشعب الفقير المتخلف آنذاك فقرا و تخلفا

" أه بل أنت في الشعوب عجوز            فيلسوف محطم في إهابه

مات قلب الشباب في قلبه الذاوي          و عزم الحياة في أعصابه

فمضى ينشد السلام بعيدا                    في قبور الزمان خلف هضابه

و هناك اصطفى البقاء مع الأموات        في قبر أمسه غير آبه

و ارتضى القبر مسكنا، تتلاشى              فيه أيام عمره المتشابه

          "إلى الشعب"ص 148/149

و لكن الزمن الموضوعي يبقى منفتحا على غد بالنسبة للظالم لأن نهاية الظلم معروفة:

" لك الويل يا صرح المظالم من غد         إذا نهض المستضعفون و صمّموا"

أن الزمن الموضوعي بكل تمضهراته يصدر مقاومة ضد الذات التي تلجأ في اغترابها الى الشعور بالتفرد كتعويض لاواع عن حالة اللاتواصل التي تعيشها و تعبر عنه من خلال زمن آخر تنشده.

 

الزمن المجرد

ان الزمن المجرد أو المعياري للكتابة الشعرية لدى الشابي هو بلا محيــص زمن الطفولــة      و العلاقة البدئية مع الطبيعة، هو زمن الراحة التي لا تحُدّ روح الشاعر في الواقع جسديا كان او موضوعيا، هو زمن الكتابة فمجال الطفولة هو مجال الذكريات المنتقاة و السعادة المنشودة و هو مجال الحكي الشعري ان صحّ التعبير:

 " كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النظير/ فضية الأسحار مذهبة الأصائل و البكور / كانت ارق من الزهور و من اغاريد الطيور/ و الذّ من  سحر الصبا في بسمة الطفل الغرير / ايام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور / و تتبع النحل الأنيق و قطف تيجان الزهور / و تسلق الجبل المكلل بالصنوبر         و الصخور / و بناء اكواخ الطفولة تحت اعشاش الطيور / مسقوفة بالورد، و الأعشاب، و الورق النضير / نبنني فتهدمها الرياح  فلا نضج و لا نثور  /  و نظل نبعث  بالجليل من الوجود و بالحقير  /  لا نسأم اللهو الجميل و ليس يدركنا الفتور "

"قصيدة الجنة الضائعة ". ص 124/125/126

 

ان الشاعر يعيش هذه الصور القديمة و يتغذى بها في لحظات الألم الجسدي او الروحي، ان الطفولة هي المرآة التي تنعكس فيها كل الصور الجميلة و الآلام الخبيئة التي تشرع للنفس الحساسة  الوعي العاطفي للظلم و القهر و الاستغلال و كأنها خبرات سابقة لها فالزمن المعقول و الزمن المعاش لا يخضعان لنفس المبدأ وهذا ما يجعل لحظة الكتابة منفصلة عن كل ما عداها، خاضعة لجاذبيتها الخاصة، مغايرة في علويتها رغم الألم الذي يصاحبها و لا شك أن سرعة أحدهما و بطء الآخر هو الذي يخلق حالة السأم و الإكتئاب التي يشعر بها الشاعر لأنه يعيشها في ذاته كما في جسده كما أن تراكب الأزمنة المذكورة ( المنشود و المتخيل، الجسدي و الموضوعي) لا يجعل لها نفس الإتساق و المرونة و التناسق( شعر الروح المفكر) بل إن الشاعر يعاني انفصالا في كل مرة بين الأنا المفكر و الأنا الشاعر و الأنا الإجتماعي و الأنا الفيزيائي فلا يجد لحظة الراحة و المصالحة إلا لحظة الإبداع و الخلق حيث يصير الجسد و الفكر و الروح كلا ضوئيا و الفرد جمعا حيث ينتقي التعاقب و التراتب و التراكب و الصيرورة لترتسم اللحظة اعلاء للحاضر و استشرافا للقادم.

ان الكتابة الشعرية تبدو كالحياة الحلمية التي تحتوي على تمفصلات لاواعية تجعل من تفجير البنى اللغوية أمرا ممكنا و لكن الكتابة الشعرية لا تنفي وجود روح واعية و عقل مفكر يصوغ المشروع لغويا كان حضاريا.

ان لحظة العودة الى عالم الطفولة أو عالم الطبيعة (الغاب) هي اللحظة الأثيرة لدى الشاعر و لها دلالات كثيرة فهي عودة الى الأصل الى وطن الروح حيث تنتفي حدود السماء و الأرض.

 

شردت عن وطني السماوي الذي                ما كان بوحا واجما، مغموما

شُرِّدت عن وطني الجميل أنا الشقي              فعشت مشطور الفواد يتيما

في غربة روحية ملعونة                        أشواقها تقضي عطاشا، هيما 

ياغربة الروح المفكر انه                       في الناس يحيا سائما مسؤوما

"صوت تائه" ص 70

و هي حضن الراحة بلا منازع و تخلق التوازنات الموسيقية في القصيد.                                                                               

إن الطفولة حقبة شعرية بشعورها

و دموعها و سرورها و طموحها و غرورها

لم تمش في دنيا، الكآبة و التعاسة و العذاب

فترى على أضوائها ما في الحقيقة من كذاب

"الطفولة" ص56 

الزمن المنشود

تتنزل الصورة الشعرية ككينونة لغوية جديدة فتضيء الوعي الداخلي للشاعر من جهــــة        و مستقبل  اللغة من جهة أخرى فالشعر هو آلية اللغة للتجديد و التناسق الداخلي و اذا كانت الصورة تبدو لنا و كأنها حاضرة بالقوة في وعينا و شعورنا فذلك ينبع من أصالة روح الشاعر القادرة على إنتاج لحظة صافية تخلق الاتساق بين أعماق الإنسان.

ان عملية التخيل الشعري حين تبلغ زمنها المنشود في شعر الشابي تحول حروف اللغة الى نوتات موسيقية تلتحم بخرير المياه و هدير الصاعقة و حفيف الأوراق و رقة انسكاب الندى على مهجة الورد في الفجر الوليد.

يتمثل الوحي (L’inspiration) في شعر ابي القاسم الشابي حين تتحد الذائقة الشعرية بالمواضيع المثيرة لها و هي مواضيع قد تتصل بالفترة العالمية و الحساسية الكونية التي جعلت "بودلير" و شعراء الرومنطقية الأوروبيين بصفة عامة و من بعدهم شعراء المهجر ينحون منحى الحيرة الوجودية الشعرية و ما يسمى بألم العصر (Le vague à l’âme , le mal du siècle) .

إن الزمن المنشود  في الشعر ليس إلا زمن الروح المتفصّي من دائرة الساعة و عجلة الليل             و النهار، انه زمن حرّ بأشواقه، أصيل بقدمه، قوي باندفاعه الموتور نحو الأمام و هذا ما يكفل للشعر الخلود، إن الشعر هو العالم الحقيقي للزمن، حيث الحلم و الحرية، حيث تقف فوق الهوة السوداء و نملؤها معنى و جمالية.

ان الزمن المنشود بالنسبة للشابي بصفة عامة هو زمن  الحقيقة، الزمن  المطلق حين تتخلص الروح من صراعها  الموتور مع الماضي والحاضر و المستقبل و تعلو فوق قوانين المادة الزائلة هو زمن تحاكي فيه اللغة آلاء السماء و تتحلل من عِقدها الإعتباطي  مع البشر فتزمجر مع الموج  وتتسامى مع الجبل  وتتخلل الوريقات الصغيرة كنسمة السحَر.

هو زمن تسكر فيه روح الشاعر بالمجد فيصير كقائد الأوركسترا بالنسبة لعناصر الطبيعة ولمفردات اللغة يخضعها لسيطرته وجنونه الخلاق  و يحبلها بماء  شاء  من موصوفات و أفكار و معان  أبكار لم يجدها شاعر قبله، ان الزمن المنشود بالنسبة للشاعر هو زمن التحرر  و لا  يتم التحرر إلا بالتجاوز فتتحقق الذات على مستوى فردي (الأنا) و جمعي (  النبي  و الشعب ) و كوني ( الشاعر ذاكرة الوجود) و هذه هي وظيفة الشعر في اللغة ووظيفة الشاعر  في الحضارة انه  وسيلتها الأجدر للتطور من الداخل و البقاء وفق وظائفها العضوية الأكثر حيوية .

اذا الشعب يوما اراد الحياة                   فلا بد او يستجيب  القدر

و قالت لي الأرض لما سالت                  أيا أمّ هل تكرهين البشر

ابارك في الناس  اهل الطموح               و من يستلذ ركوب الخطر

والعن  من لا يماشي الزمان                  و يقنع بالعيش عيش  الحجر

هو الكون حي يحب الحياة                و يحتقر الميت مهما كبر

و لو لا امومة قلبي الرؤوم                     ما  ضمت  الميت تلك الحفر

"إرادة الحياة"   

إن  الفلسفات التي تناولت مفهوم الزمن و حاولت إيجاد قراءة لا زمنية له ظلت ضمن حدوده لن مفهوم الزمن كمفهوم الفلسفة فالموقف المضاد للفلسفة هو بالضرورة موقف فلسفي.

هو الموت طيف الخلود الجميل، و كهف الحياة الذي لا ينوح

هنالك..، خلف الفضاء البعيد ، يعيش المنون القوي الصبوح

يضم القلوب إلى صدره، ليَأسوَ ما مضّها من جروح

و يبعث فيها ربيع الحياة، و يبهجها بالصياح الفَروح

                     "إلى الموت" ص68

هل قاوم الشابي غواية الموت و العدم، هل كان سبب الانخراط في هذه المخاطرة اليأس الحقيقي من الحياة في سجن جسدي( المرض) و سجن فكري ( الجهل و الاستعمار) سجن نفسي ( ألام الشعر و آلام الكتابة ) أم أن قراءته للموت كانت من قبيل الحب الأعمق للحياة؟ و من قبيل أن الزمن الذي يمر على تكوينه الجسمي و النفسي يختلف بشدة عن الزمن الذي يمر على أشباهه إن هذه العبقرية التي أنتجت أغاني الحياة و انطفأت شعلتها الجسدية عن عمر 25 سنة لا يمكن أن تفهم الزمن كما نفهمه بل ستفهمه انطلاقا من شروطها الزمنية و ستعدل إيقاع لغتها على أشواقها و تمزقها و انحداراتها فاللغة التي تصف التجربة يجب أن تحتفظ بقوتها معتقة من أجل صياغة اللحظة، اللحظة الزمنية الهاربة إن في صيرورتها أو في التفاتتها .

المراجع:

ديوان أغاني الحياة 

Gaston Bachelard : la dialectique du temps 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا