ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

ياسر عثمان - مصر

الضوءُ ومآلات الدلالة

في قصيدة " ولد الهدى"  لأمير الشعراء

ياسر عثمان - مصر*

 

مفتتح:

تسعى هذه المقاربة إلى تتبع مسارات الضوءِ في قصيدةِ " ولد الهدى " لأمير الشعراء أحمد شوقي. وذلك بوصف تلك المسارات الدلالية متوالياتٍ ، تتوالد عبر مجمل النَّص مستجيبةً لتوجيهات العنوان بوصفه دالاً مركزياً رئيساً وعتبةً للدخول إلى عالم النور المحمدي. وهي في سعيها هذا تنطلق من مسلمةٍ وفرضيةٍ رئيستين :أمَّا المُسَلَّمَةُ فهي أنَّ ما تقولُهُ القصيدة في مدح سيد الخلقِ صلى الله عليه وسلم؛ إنما هو ثناءٌ على الممدوحِ بما فيه من صفات النور والخير والبهاء والسجايا المحمدية جميعها، وأمَّا الفرضيةُ فهي أنَّ دوالَ النور ودلالاتِها الحسية تصب جميعها في الدلالة الأم لهذه القصيدة وهي دالة الهدى بما توحي بها من معاني الهداية والرشاد والفلاح والنجاةِ من ظلمات الكفرِ وغياهبه.

كما أنَّها – أي هذه المقاربة – تستضيءُ في سعيها لتعقب مسارات الضوءِ هذه بقبساتٍ منهجية من السيميائية و التفكيكية والبنيوية والمنهج اللساني في تحليل الخطاب.

 ونظراً لطول القصيدة ولاتفاق أبياتها غالباً في آليات ترسيم مسارات الدلالة أمام التلقي- ستختار المقاربة لتوضيح هدفها من التأويل والتلقي مجموعات منتخبة من الأبيات، للاستفاضة في مقاربتها، ثم ستكتفي من بقية أبيات القصيدة بالاستشهاد بالدوال المفردة، أو الوحدات القولية المركبة، بما يكمل عملية المقاربة هذه من دون الوقوع في براثن التكرار الممل الذي غالباً ما يضر بالمقاربات النقدية، عندما تقع في غوايات الكم من دون الاهتمام بالكيف.

تأتي المنظومة الدلالية للضوء في هذه القصيدة سلسلةً أو متواليةً من الصفات التي تتوالد من بعضِها البعض، من دون انتهاء، كأنها متتابعةٌ حسابيةٌ أو هندسيةٌ يُمْسِكُ القارئُ بحدها الأول وهو الضوء ولا يستطيع إدراك حدها الأخير، وإنما يسبح في دلالاته .وهي متوالياتٌ ليست إلا لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، منظومةٌ مفتوحةُ النهايات يوجهها الدال المركزي الرئيس ممثلاً في عتبةِ النَّص ( العنوان ) ولد الهدى الذي يشير للبعد الأسمى لغائية الضوءِ ، أي يشير إلى الهداية ببعدها المعنوي الذي تجسده غائية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهي الهداية والإرشاد والتبيين كما جاء في قوله جلَّ وعلا :﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ (المائدة 15)، وفي قوله جلَّ في علاه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا  وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ ( الأحزاب45، 46).

هكذا يشكل عنوان هذه القصيدة مركزاً للدلالة، وعتبةً للدخول إلى عالم النَّص. فالعنوان لدى شاعر بحجم أحمد شوقي لا يجيء اعتباطياً، ولا يَهَبُ نفسه للنَّص مجاناً، وإنما يجيءُ علامةً لغويةً ترابطُ عند مدخل القصيدة، فتصبحُ جوازَ مرورٍ نحو أفق التلقي ومآلات الدلالة، بل تصبحُ - أيضاً - الوسيطَ الفاعل بين النَّص والتداول ( أقصد بالتداول هنا التلقي في صياغاتِهِ المتنوعة المتعاقبة على النَّص الشعري الواحد). هذا هو العنوان الشعري في النصوص الحديثةِ، وهذه بعض سماته الوظيفية في عمليتي الإنتاج والتلقي. وقد تشكل عناوين القصائد التي يتألف منها ديوان شعري ما دوالاً صغرى فرعية في دالة رئيسة هي دالة العنوان الرئيس لذلك الديوان.

وقد يحيل العنوان الرئيس إلى عنوانٍ موازٍ في مخيلة التلقي، مما يحدو بتلك المخيلة إلى التعاطي مع منظومة دلالية موازية تتقاطع بدرجات متفاوتة مع مثيلتها التي ينتجها العنوان الرئيس بدرجات مختلفة تختلف باختلاف التداول(1).

كما أن" العنوان في القصيدة - أية قصيدة – هو آخر ما يكتب منها، والقصيدة لا تولد من عنوانها، وإنَّما العنوان هو الذي يتولد منها. وما من شاعرٍ حق إلا ويكون العنوان عنده آخر الحركات، وهو بذلك عملٌ عقلي." (2 ).وهذا ما يجعلنا نقول إن العنوان هو ابن النَّص، فيه من صفاته بالنسب والوراثة ما يجعلُهُ مفتاحاً للدخول إلى عالم أبيه، فتسهل عملية التأويل والكشف عن / في ذلك العالم.

فـ" إذا كان العنوان- فيما مضى – لا يشكل هماً شعرياً جمالياً للنَّاصِّ الأدبي، من أجل استكمال معمارية البناء الأدبي بالرغم من انطوائه على شيءٍ من هذا بالضرورة، فإنَّه اليومَ أضحى بنية ضاغطة ومركزية من البنيات الأسلوبية المؤلفة لهيكل النَّصِّ وهيأتهِ ونظامه. لذا توسَّعَ الاهتمام بدراسةِ العنوان والكشف عن جماليته وفلسفة بنائه، وأسهمت الدراسات المتخذةُ من بنيةِ العنوانِ أساساً لها في توجيه الاهتمام البنائي نحو مركزٍ باثٍ وبؤرة دائمة الإشعاع في شعرية النَّصِّ الأدبي، ولم يتوقف الاهتمام به عند حدود الجانب البنائي- بالمعنى الشكلاني الصرف- بل أخذ يستنطق البعدَ السيميائيَ في تحليل العلاقةِ الجدلية بين العنوان في قمة الهرم، وبين البنيات المشكلة لمتن الهرم،عبر متابعة العلامات الهابطة من الرأسِ إلى المتنِ، أو الصاعدة من المتنِ إلى الرأسِ، وما تحدثه في تقاطعاتها في مراكز معينة من إيحاءات وصور وإيقاعات"( 3 .

 

إنَّ عنوان القصيدة – هنا – جاء وفق استجابة النَّص لغواية التناص مع القرآن الكريم بوصفه المرجعية الأهم للصورة الشعرية عند شوقي في هذه القصيدة، وفي غيرها من قصائده الدينية. وما يؤكد عمق تلك الاستجابة ليس فقط البدء بجملة " ولد الهدى " مفتتحاً للنَّص، بل البدء بها أيضاً مفتتحاً للبيت الأول. كأنَّ النَّص يريد تبئير كلِّ الغايات الدلالية لدوالِ الضوءِ، وكذا الغايات الدلالية لصفاتِ الممدوح صلى الله عليه وسلم عند الدال المركزي " الهدى " بما يشي به هذا الدال من دلالات الهداية والنور والخير والبيان والرشاد.

 وإن كان النَّص قد بدأ بدوالٍ فرعيةٍ قد تنمُ عن مقاصدِ الضوءِ المادية والبصرية، أي الهداية بمعناها المادي البصري الممثل في رؤية الأشياء الحسية كما في الأبيات الأربعة الأولى من القصيدة، فإن ذلك لا يعدو سوى أن يكون استهلالاً لحضور " الهدى" و" النور" وما يدور في فلكهما من دوالٍ في بُعدهما المعنوي/الإيماني فيما بعد، بل حضورهما متبادِلَيِّ المعنى؛ إذ النور يعني الهدى، والهدى يعني النور كما في تفسير ابن كثير وغيره، الأمر الذي يدل على اتساع النافذة التي يفتحها شوقي على التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية؛ فابن كثير مثلاً على سبيل المثال يقول في تفسير " الهدى " في قوله جلَّ وعلا: ﴿ أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون﴾ ( البقرة 5 ) : " يقول الله تعالى أولئك أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة والإنفاق من الذي رزقهم الله ،والإيمان بما أنزل الله إلى الرسول، ومَنْ قبله من الرسل والإيقان بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات على هدى أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى، وأولئك هم المفلحون، أي في الدنيا والآخرة، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس، أولئك على هدى من ربهم، أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به، وأولئك هم المفلحون، أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا، وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى أولئك على هدى من ربهم، فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم"(4 ).

وبذلك يكون تفصيل الأبيات الأربعة الأولى دلالياً - وفق ما طرحناه منذُ قليل- كما يلي:

وُلِدَ الهُدى  فَالكائِناتُ ضِيـــاء      وَفَــمُ الزَمــانِ تَبَسُّمٌ  وَثَنــاءُ

الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ  حَولَـــهُ     لِلديــنِ وَالدُنيا بِــهِ   بُشَــراءُ

وَالعَرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ  تَزدَهي     وَالمُنتَهى   وَالسِدرَةُ   العَصمــاءُ
وَحَديقَةُ الفُرقـانِ ضاحِكَةُ الرُبـا      بِالتُرجُمــانِ شَذِيَّةٌ غَنّـــــاءُ


فـ "
الهدى
" الذي سيُحمَل في بقية القصيدة على دلالته المعنوية الإيمانية، قد استحضر معه الشاعر في مستهل القصيدة دوالاً فرعيةً تشي بالغاية المادية المحسوسة لمعنى الهدى وهذه الدول هي( ضياء- تبسم – ثناء – بشراء- يزهو – تزدهي – ضاحكة- غنَّاءُ).

 

ولكي ينتقل النَّصُّ من الدلالات الحسية للهدى - التي هي في الأساس نتيجةٌ للحضور الحسي للضوء ودلالته – إلى الدلالة المعنوية، فإنَّه ( أي النَّص) يتوخَّى من أجل ذلك  بناء إستراتيجيتِهِ الخاصة مرتكزاً على آلياتٍ بعينها تتجلى أمام التلقي عبر مقاربة النَّص.ففي قوله:

وَبَـدا مُحَيّــاكَ الَّـذي  قَسَماتُـهُ     حَـقٌّ وَغُرَّتُهُ هُدىً وَحَيـــاءُ
وَعَلَيهِ مِـن نـورِ النُبُـوَّةِ  رَونَقٌ      وَمِـنَ الخَليلِ وَهَديِهِ سيمــاءُ
أَثنى المَسيحُ عَلَيهِ خَلفَ  سَمائِـهِ       وَتَـهَلَّلَت وَاهتَزَّتِ  العَــذراءُ
يَـومٌ يَتيهُ عَلـى الزَمانِ صَباحُـهُ     وَمَسـاؤُهُ بِمُحَمَّدٍ  وَضّـــاء

يصبح المجاز آلية ضمنَ تلك الآليات المتوخاة في الانتقال من حسِّيةِ الهدى ومادِّيته، إلى عقلنته ومعنويته من خلال تبني آليةٍ للمجاز تقوم على:

1-   تحويل الوحدات المادية إلى وحدات معنوية أو العكس كما في البيتين الأول والثاني والرابع.

2-   أو بترسيم مشهد قوامُهُ الفرح والبهجة والثناء عبر دوال فرعية لا تحدث إلا في فضاءات من النور، والضوءِ المبتهج ( إذ إنَّ البشر جميعهم مهما اختلفت ثقافتهم وطقوسهم في الفرح ، فإنهم يتخذون من النور والأنوار قاسماً مشتركاً ضمن مراسم الأفراح الجماعية بمختلف حجمها. بل إن من مراسم الاحتفال في كثيرٍ من الحفلات الحديثة التلاعب بتشكيلة الضوء ودرجات وقوى الإضاءات، بل وتلوين الضوء أحياناً من خلال تلوين السطح الزجاجي الخارجي للمصابيح المنبعث منها الضوء بألوان مختلفة وبدرجات مختلفة) .

هذا وتتم عملية الانتقال عبر جسور شعرية تسمى بالكلمات الاختراع في النَّص الشعري، إذ إن الشاعر كما يقول جان كوين" ليس مبدع أفكارٍ، وإنَّما هو مبدع كلمات، وكلُّ عبقريته تكمن في اختراع الكلمة"(5). فالكلمات الاختراع يتحكم وجودها - داخل النَّص الشعري -  في شكل الصورة الشعرية وقوتها وقدرتها على تحقيق عنصر الدهشة في عملية التلقي.والكلمات الاختراع، أو الكلمات الجسور من حيث الوظيفة – هنا في هذه القصيدة - نوعان:

الأول:   ويربط بين دوال القول الشعري داخل بنية النَّص القولية ذاتها.

والثاني:  ويربط بين الدال الشعري وبين مآلات الصورة الشعرية في ذهن التلقي.

 فبخصوص البيتين الأول والثاني يمكن ترسيم عملية التحويل في شكلين متعاكسين يتقطعان عند الغرض الدلالي نفسه أي الهدى بدلالته المعنوية التي تلتقي عند معاني مثل: الهداية.. الإيمان.. الحق.. اليقين..البصيرة ... إلخ.

ففي البيت الأول تترسم عملية تكوين الدلالة المتوخاة في شكل متوالية من الكلمات تسير في اتجاه مقابل لمتوالية البيت الثاني، لتتقاطعَ المتواليتان عند الهدى بدلالته المتوخاة من النَّص كما يلي:

البيت الأول:

وَبَـدا مُحَيّــاكَ الَّـذي  قَسَماتُـهُ      حَـقٌّ وَغُرَّتُهُ هُدىً وَحَيـــاءُ

أمَّا البيت الثاني:

وَعَلَيهِ مِـن نـورِ النُبُـوَّةِ  رَونَقٌ        وَمِـنَ الخَليلِ وَهَديِهِ سيمــاءُ

فسنعيد - قبلاً - كتابته جملةً لغويةً وحسب، بعيداً عن الموسيقى والوزن، وفق ما يقتضيه السياق النحوي من التقديم والتأخير، ثمَّ تقدير المحذوف من الشطر الثاني ولتكن جملة (عليه ) فيُصبحُ البيتُ هكذا:

وَ سيمـاءُ (عليه) مِـنَ الخَليلِ، وَ رَونَقٌ عَلَيهِ مِـن نـورِ النُبُـوَّةِ، وَهَديِهِ( الهاء تعود على الخليل).

وبتالي فكتابة المتواليتين الدلاليتين لهذين البيتين يكون بالتعاكس الذي يجعلهما يلتقيان عند بؤرةٍ دلاليةٍ مشتركة هي الهدى بدلالته المعنوية:

متوالية البيت الأول:

{ مُحَيّـاكَ قَسَماتُــهُ، حَـقٌّ( الكلمة الجسر، أو الكلمة الاختراع) وهي هنا تربط بين دوال القول الشعري: قبلها وبعدها، وَغُرَّتُـهُ، هُـدىً و حياء( الكلمتان الجسر، أو الكلمتان الاختراع ) وعبرهما تتم عملية الربط بين دوال القول الشعري والصورة الشعرية التي تتكون تبعاً لها في ذهن التلقي}

متوالية البيت الثاني:{وَسيمــاءُ مِـنَ الخَليلِ،وَرَونَقٌ عَلَيهِ مِـن نـورِ، نـورِ النُبُـوَّةِ

، وهديه (الهاء تعود على الخليل)( الكلمة الجسر، أو الكلمة الاختراع هي هديه ) وهي تربط هنا  بين دوال القول الشعري والصورة الشعرية التي تتكون تبعاً لها في ذهن التلقي)}.

وهكذا يحدث التعاكس في قراءة البيتين لتلتقي القراءتان عند الهدى بدلالته المعنوية الإيمانية،إذ إن الكلمة الأولى في البيت الأول - هنا - هي الحد الأول في متوالية الدلالة لهذا البيت، بينما الكلمة الأخيرة في البيت الثاني هي الحد الأول في متواليته.

وهو ما نمثل له بالشكل التالي:

وهكذا تتجلَّى عبقرية النَّصِّ فيما مضى من أبيات- وفيما هو قادمٌ أيضاً -  في التعاطي مع مفردات الضوءِ وتوظيفها ضمن سياقات غايةٍ في الإبداع، غير أنَّ تلك العبقرية لا تقف عندَ تحريك دلالة الضوء من الحسي إلى المعنوي وحسب ، بل تتجاوز ذلك إلى تأكيد عالمية الضوء، ومن ثمَّ عالمية الهُدى و الهديِّ المحمدي، وذلك عبر إستراتيجيتين اثنتين:

أولاهما: إستراتيجية التناص: وتنبني تلك الآلية – غالباً – على عدة آليات تستلهم النَّصِّ القرآني بوصفهِ المرجعيةَ العليا لتلك الآليات في هذه القصيدة، بل لآليات التنَاصِّ في مدائحيات شوقي جميعها:

و ثانيتهما: إستراتيجيةُ بناءِ الوحداتِ القولية:

 وتتنوع تلك الوحدات بين الوحدات القصيرة والمتوسطة والطويلة، بيدَ أن النَّصَ – هنا – يتأسسَ أكثر ما يتأسس على الوحدات القولية المطولة:

و يمكن استجلاء مسارات هاتين الآليتين من خلال التفصيل التالي:

أولاً : إستراتيجية: التناص:

نصوغ هذين المعطيين النقديين:

1-  إن الإبداع كيمياء تعمل على دمج معارف الذات المبدعة وخبراتها برؤية الذات نفسها، ثمَّ إعادة استثمار كل ذلك في حدث لغوي هو النَّص.

2-   إن التناص في الكثير من المذاهب النقدية ليس إلا  تلك التعالقات التي تحدث بين الذات المبدعة والعالم من حولها.

 وبناءً علي هذين المعطيين فإنَّ:

-       " أساس إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه للعالم، وهذه المعرفة هي ركيزة تأويل النَّص من قبل المتلقي أيضاً" (6 ).

-       لا يوجد نص شعري أو نص إبداعي إلا وكان التناص عاملاً فيه ما شاءت اللحظة الإبداعية أن يعمل، فالتناص أمرٌ جوهريٌ وأساسٌ لا بد منه في البناء الإبداعي؛ إذ إنَّه لا يوجد قولٌ يمكن النظرُ إليه بوصفهِ قولاً أول إلا قول الحق جلَّ وعلا، ولا يوجد كلامٌ يمكن وصفه بالكلام الأولِ إلا كلام الله عزَّ وجل. وما عدا ذلك من كلام فهو قولٌ/ كلامٌ ثانٍ أو ثالثٍ ....إلخ.

-       إنَّ ما يُمَيز نَصاً إبداعياً عن غيره في مسألةِ التناص هذه إنَّما يكون في الآليات التي يتوخاها النَّصُّ في بناء تناصِّه.

وعليه فإنَّه يمكن استجلاء ملامح إستراتيجية التناص في هذه القصيدة عبر رصد آليتي التمطيط والإيجاز كما يلي:

أولاً :آليات التمطيط : ومنها :

أ -  الاستعارة: وقد سبق الإشارة إليها في الحديث عن المجاز بوصفه آليةً يتبناها النَّصُّ في إنتاج صوره والانتقال من الحِسِّي إلى المعنوي.

ب- الباكرام ( أو الكلمة المحور أو الكلمة المركز):

 وهي – هنا – في القصيدة كلمة الهدى بدلالاتها المعنوية التي توحي بالنور والهداية والرشاد كما سبق أن ذكرنا، ثمَّ بالتنويع على تلك المفردة بمفردات تشكل كلمات محور فرعية بالنسبة للقصيدة، لكنها كلمات محور أساس في البيت الشعري، وتصب  تلك الكلمات جميعها دلالياً في معنى النور والهدى والإشراق والوضوح والتجلي.... إلخ.

وهذا ما يمكن التمثيل له جزئياً( إذ إن ما اخترناه من مفردات تتعالق دلالياً مع الهدى هو على سبيل المثال والتوضيح، وليس على سبيل الحصر) بالدائرة التالية التي مركزها الهدى ومحيطها كلمات تتعالق معها دلالياً بما يجعل الدوال تستفيد من بعضها البعض:

 

وهنا نلاحظ في الشكل كيف يتجاور الحسي من مفردات الضوء مع المعنوي منها من أجل تحقيق حضور الضوء بدلالته المعنوية التي تتجه نحو مركز الدائرة وهو الهدى بمعانيه الإيمانية الممثلة في الإيمان والرشاد والهداية... إلخ كما ذكرنا من قبل.

 

ج – آلية الشرح: وهي الآلية الثالثة ضمن آليات التناص: حيث بدأ الشاعر بقول مُرَكَّزٍ في بيت القصيدة الأول :

وُلِدَ الهُدى  فَالكائِناتُ ضِيـــاء وَفَــمُ الزَمــانِ تَبَسُّمٌ  وَثَنــاءُ

ثم توالتْ بقيةُ أبياتِ القصيدة لتشرح لماذا كان مولده صلى الله عليه وسلم مولداً للهدى، ولماذا في ميلاده نورٌ ورشاد وإرشاد للخلق. فتؤكد عبر تعليلٍ مفاده أن مولده كان كذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جاء بخير الكلم وخير الهدي، جاء بخطابٍ أبلج واضحٍ وضوحَ الشمس في رابعة النهار، نزل عليه وحياً من السماء، فأشرقت الأرض بنوره. وقد اختار النَّصُّ لهذا الغرض التفسيري التوضيحي دوالاً غايةً في العبقريةِ تتراوح بين الدوال المفردة والأخرى المركبة، وهي على سبيل المثال لا الحصر:

1- الدوال المفردة:

  الوَحيُ- اللَوحُ - القَلَمُ - الهُدى - - حَقٌّ - هُدىً – وَضّاءُ – الحَقُّ - صَباحُهُ – الهادي.

2- الدوال المركبة :

- مِن مُرسَلينَ

-  بِكَ بَشَّرَ اللَهُ السَماءَ

- نورِ النُبُوَّةِ

-  جِبريلُ رَوّاحٌ بِها غَدّاءُ

- دينًا  تُضيءُ بِنورِهِ الآناءُ

- نُسِخَت بِهِ التَوراةُ وَهيَ وَضيئَةٌ

- في كُلِّ مِنطَقَةٍ حَواشي نورُها

 -  وَأَنتَ النُقطَةُ الزَهراءُ.

 - أَنتَ الجَمالُ بِها وَأَنتَ المُجتَلى.

-  وَالكَفُّ وَالمِرآةُ وَالحَسناءُ.

- أَنتَ اليَدُ   البَيضاءُ

- نورٌ وَ رَيحانِيَّةٌ وَبَهاءُ

- وَالحُسنُ مِن كَرَمِ الوُجوهِ وَخَيرُه

 - أَمّا الجمالُ فَأَنتَ شَمسُ سَمائِهِ

د: التكرار: وقد حضر في القصيدة من خلال:

أ- التشاكل الصوتي ومثاله:

1-  وضيئةٌ- ضياء                 حرف الـ ( ض ).

2-   اللوح – اللوح                 اتفاق جميع الحروف.

3-  فَأَنتَ شَمسُ سَمائِهِ              حرف الـ ( س )

 ب - التشاكل الكَلِمِي: ومثاله:

1-  الملأ الملائك           جناس ناقص

2-  حنائف – حنفاء        جناس ناقص

3-  ضياءُ- ثناء            تشاكل صوتي – دلالي أيضاً

ج – البلاغي المضموني: ومثاله:

1-  الكائنات ضياء

2-   فم الزمان تبسمٌ وثناءُ

فقد وردت الاستعارة في شكل جملة اسمية تأكيداً لكون الضوء ليس فعلاً يحكمه الزمن، وإنما هو صفة الموصوف الملاصقة له، الدائمة ديمومةَ الموصوف.

د: التشاكل النحوي ومثاله:

-أثنى  المَسيحُ- وَتَهَلَّلَت-  وَاهتَزَّتِ  العَذراءُ

- تُضيءُ  بِنورِهِ   الآناءُ- مَشَتِ الحَضارَةُ في سَناها وَاهتَدى

تكرار الجمل الفعلية.

ثانياً : آليات الإيجاز: وينتهج فيها النَّص نهج الإحالات القرآنية: منذ افتتاح النَّص وحتى نهايته بجانب الإحالات على ما جاء في سنةِ النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً، والإحالات على المثل أيضاَ في أحيان أخرى. وسنكتفي هنا بذكر بعضٍ من هذه الإحالات على سبيل المثال لا الحصر كما يتضح من الأبيات التالية المنتخبة من القصيدة. ففي البيت:

وَالوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلًا مِن سَلسَلٍ          وَاللَـوحُ وَالقَلَمُ البَديــعُ رُواءُ

 يُبرزُ الشاعرُ:

1-      كيف أنَّ القرآنَ جاء متتابعاً على فترات وليس جملةً واحدة، ليربط بين نصوصه وبين حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد اختار الشاعر لذلك الوصف قوله (يَقطُرُ ).مُتنَاصَّاً مع قوله سبحانه وتعالى:﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ ( الإسراء 106 ). ففي قولِهِ عزَّ وجلَّ " فرقناه " وجوهٌ: فقد قرأ جمهور الناس ( فرقناه ) بتخفيف الراء ، ومعناه بيناه وأوضحناه ، وفرقنا فيه بين الحق والباطل ، قاله الحسن ، وقال ابن عباس : فصلناه ، وقرأ ابن عباس وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب و قتادة و أبو رجاء و الشعبي ( فرقناه ) بالتشديد ، أي أنزلناه شيئاً بعد شيء لا جملة واحدة ( 7 ) . وعليه فإنه يمكن القول بأن الشاعر قد تناصَّ مع الآية من هذا الوجه الأخير من القراءة فجاء بقوله:" يقطر" لما في التقطير من التتابع والتعاقب الزمني بين أجزاء المُقَطَّرِ .

2-  كيف أأ أنَّ النَّصَّ القرآني جاء ميسراً عذباً سهلاً مطواعاً في الفهم، مطواعاً في القراءة، تتحقق معانيه في القلب من دون عناء، وينطلق اللسان به من دون لعثمةٍ. وقد اختار الشاعر لذلك الوصف قوله ( سَلسَلًا مِن سَلسَلٍ). فكما جاء في لسان العرب - السَّلْسَلُ والسَّلْسال والسُّلاسِلُ: الماء العَذْب السَّلِس السَّهْل في الحَلْقِ، وقيل: هو البارد أَيضاً.وماء سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ: سَهْلُ الدخول في الحلق لعُذوبته وصفائه..( 8 ). لذا ففي قول الشاعر ما فيه من التدليل على يسر القران وسهولته فهماً وتلاوةً وذكراً، بما يؤكد عمليةَ تناصَّ القول الشعري هنا مع قوله سبحانه وتعالى ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر 17).

وفي البيتين :

بَيتُ  النَبِيّيـنَ  الَّـذي لا يَلتَقـي    إِلّا الحَنائِفُ  فيــهِ وَالحُنَفـاءُ

بِكَ يـا ابنَ عَبدِ اللهِ قامَت سَمحَةٌ     بِالحَقِّ مـِن مَلَلِ الهُدى غَـرّاءُ

يحدث التناص مع عدد كبير من آيات الذكر الحكيم نذكر منها:

 قوله عزَّ وجل : ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ .. ( البقرة 135).

وقوله:  ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ﴾ (النساء 125).

 وقوله : ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ .. (الأنعام 161).

كما يتناص مع قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالحنيفية السمحة"

هذا وتأتي كل تلك الإحالات، وما بعدها من إحالات داخل النَّص مستجيبةً للإحالة الأم التي تؤكد عالمية هدي النبي صلى الله عليه وسلم، و- من قبل عالمية - رسالته، بل إن هذه الإحالات المتوالية، يمكن النظر إليها بوصفها توضيحاً وتفسيراً لحاجة العالم لاتباع هذه الرسالة انطلاقاً مما تفرضه حاجةُ البشر جميعهم لها.وقد تجلَّى القول بضرورة عالمية رسالته صلى الله عليه وسلم في البيت:

الروحُ وَالمَلَأُ المَلائِكُ  حَولَـــهُ     لِلديــنِ وَالدُنيا بِــهِ بُشَــراءُ

والذي يتناصُّ فيه الشاعر مع قوله تبارك وتعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ الأنبياء 107.

وغير ذلك الكثير من أشكال التناص المنتشرة عبر ربوع القصيدة منها ما يستحضر الدار الآخرةَ بوصفها مستودعَ ذخائرِ العبدِ من الصالحات مثل قول الشاعر:(وَالصالِحاتُ  ذَخـائِرٌ  وَجَزاءُ) الذي يحيل فيه القول الشعري إلى قوله عزَّ وجلَّ ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ﴾ ( الكهف 46)، ومنها ما تمتدُّ غوايةُ التناصِّ فيه من التناصِّ مع القرآن إلى التناص مع المثل والحكمة والتاريخ والسرد ففي قول الشاعر:

أَبَوا  الخُروجَ إِلَيكَ مِن أَوهامِهِمْ      وَالناسُ في أَوهامِهِمْ  سُجَناءُ

خُلِقَت لِبَيتِكَ وَهوَ  مَخلوقٌ  لَها        إِنَّ العَظائِمَ كُفؤُها  العُظَمـاءُ

يتناص مع الحكمة والمثل، وفي تاريخ الشعوب - على مختلف ثقافاتها ولغاتها-  من الحكم والأمثال ما يؤكد حضور بعض هذه الأمثالِ لدى اللحظة الإبداعية لحظةِ كتابةِ هذين البيتين، وتحديداً لحظة كتابة شطريهما الأخيرين: (وَالناسُ في أَوهامِهِمْ  سُجَناءُ) و ( إِنَّ العَظائِمَ كُفؤُها  العُظَماءُ) الذين يشيان بحضور الحكمة والمثل باعثين عليهما، وماثلين فيهما، ولن نذكر هنا مثلاً بعينه، ولا حكمةً بعينها، بل سنترك الأمر للقارئ على اختلاف مشاربه الثقافية لاستجلاء ما شاء له أن يستجليَ من الحكمِ والأمثالِ المحتملة وراءَ هذين القولين الشعريين.

أمَّا في البيت: بُنِيَت عَلى التَوحيدِ وَهيَ حَقيقَةٌ      نـَادَى بِها سُقراطُ وَالقُدَماءُ:

نجد الإحالةَ إلى التاريخ، بما يؤكد أن التوحيد فطرةٌ موجودةٌ في الإنسان منذ خلق الكون، وبأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دين الفطرة السليمة الذي تتوسمه النفس السوية وترغب فيه نوازع الاعتدال والسكينة داخل هذه النفس، فالتوحيد دعوةٌ قال بها الفلاسفة الأقدمون ومنهم سقراط من قبل استجابةً لنداء الفطرةِ السليمةِ، وهو دعوة قال بها المنصفون من أرباب العروش والسلطة ومنهم إخناتون، عندما أنصتوا لصوت الفطرة الإنسانية السوية بداخلهم. وعلى الرغم من كون هذا البيت علامةً على التناص مع السردِ والتاريخِ؛ فإنَّه- أيضاً - علامةٌ على التناص مع القرآن، ومع السُّنة، إذا ما تجاوزنا بنيته السطحية إلى بنيته العميقة وما تحمله من دلالات؛ ففي القرآن يُخْبِرُنَا الله بفطرية هذا الدين فيقول: ﴿ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدينُ القيِّمُ ولكنَّ أكثر النَّاسِ لا يعلمون (الروم 30 ). وفي السُّنة يخبرنا المعصوم صلى الله عليه وسلم كما جاء في  كتب الأحاديث ومنها صحيح البخاري:" كل مولود يولد على الفطرة ( أي على الإسلام ) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ( 9 ).

ومن الأبيات التي يُحيلُ التناص فيها إلى السُّنة صراحةً مثلما يحيل إلى ما سبق من إحالات قول الشاعر:

جَرَتِ الفَصاحَةُ مِن يَنابيعَ النُهى       مِـن دَوحِهِ وَتَفَجَّرَ الإِنشاءُ.

ففيه حضور الوعي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة والذي ورد في صحيح مسلم بشرح النووي: "‏‏ فُضِّلْتُ على الأنبياءِ بستٍ: أعطيت ‏جوامعَ الكلم،‏ ‏ونصرت بالرعب، وأحلت ‏لي الغنائم، وجعلتْ‏ ‏لي الأرضُ طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافةً، وختم ‏ ‏بي النبيون".

وكثيرةُ هي الأبيات التي يحيلك فيها القول الشعري إلى التاريخ والسرد وما ذكرناه منها ليس إلا مثالاً، لا حصراً كما سبق وأن ذكرنا.

ثانياً إستراتيجية بناء الوحدات القولية:

لن نسترسل هنا في هذه النقطة في التمثيل لها من القصيدة ، وذلك لكون الدراسة قد أشارت من قبل لمختلف أنواع الجمل النَّصية عند الحديث عن آليات التناصَّ، ولكن يمكن اختصار القول في أن النَّصُّ يمزج في ترسيم دوال الضوء والهدى بين الوحدات القصيرة والمتوسطة والطويلة، وإن بدا معتمداً على الوحدات المطولة أكثر من غيرها وذلك بالتنويع في بنية الجمل بين الفعلية والاسمية؛وفيما يلي نماذج من القصيدة تثبت ذلك التنوع:

1-  التنويع في الأغراض الأسلوبية: مثل التنويع بين الخبر والإنشاء كما في قوله:

يا  خَيرَ مَن  جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً       مِن مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جـاؤوا

خَيرُ   الأُبُوَّةِ  حازَهُمْ لَـكَ  آدَمٌ      دونَ الأَنـــامِ وَأَحرَزَت  حَــوّاءُ

فالإنشاء في البيت الأول يتجه بالنداء إلى صفة الممدوح صلى الله عليه وسلم، وكيف هو خير الدَّالينَ على الله الداعين إليه، والإخبار في البيت الثاني يجيء بالخيرية نفسها تأكيداً لمضمون البيت الأول الذي تَضَمَّنَ دالَ " الهدي" تأكيداً لخيريةِ هديه صلى الله عليه وسلم واستكمالاً للدلالاتِ المعنوية للضوء.

2-  التنويع في شكل وبنية الجمل بين المنفية والمثبتة والتقريرية والوصفية..كما في الأمثلة التالية :

أ‌-     الجملة المثبتة الوصفية:

نُظِمَت أَسامي الرُسلِ فَهـيَ صَحيفَةٌ        فــي اللَوحِ وَاسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ

 اسمُ   الجَلالَةِ  في بَديعِ  حُروفِــهِ      أَلِفٌ هُنالِكَ  وَاسمُ طَــهَ البــاءُ

فالجملةُ الشعريةُ - هنا- في البيت الأول جملةٌ مثبتةٌ وصفيةٌ ترسم مكانة هدي النبي صلى الله عليه وسلم بين سائر هدي الأنبياء، وكيف هو صلى الله عليه وسلم علامة كبرى في صحيفة الأنبياء وخطاٌ بارزٌ يتيه على ما سواه من الخطوط في صحيفة الأنبياء. وقد اختار الشاعر دالاً على ذلك غايةً في العبقرية ممثلاً في " طُغَراءُ" التي تحيلُ التلقي مباشرةً إلى البهاء والجمال الكائنين في هذا النوع من التشكيل الخطي العربي المعروف لدى التشكيليين والخطاطين، ومن ثمَّ تحيلُ إلى بهاء النبي وجماله وإشراقه ونور هديه صلى الله عليه وسلم.

والجملةُ في البيت الثاني هي تماماً مثلما في البيت الأول مثبتة وصفية تحيلكَ إلى  أسباب النور والبهاء الكامن في اللوحة الأولى/ التي رسمها ذلك البيت أي أنها تحيلكَ إلى الرافد الأول لهذا النور المحمدي وهو نور الله جلَّ وعلا، وقد رسم النَّصُّ ملامح هذه العلاقة الوطيدة بين طرفيها بوصفها علاقة سببية ( يتجلى ذلك في دلالة القول، ليس في مبناه)، من خلال استعارته لعلاقة القرب والحميمية القائمة بين حرفي الألف والباء.

ب – تنويعُ الجملةِ داخلَ البيتِ الواحد: بين شرطيةٍ حاليةٍ تجيءُ صدراً للبيتِ، وأُخرى تقريرية خبرية يبنيها النَّصُّ في إطارِ الحكمةِ والمثلِ وتجيءُ عجزاً له؛ لتوكيدِ ما أشارت إليه تلكَ الجملُ من صفات النُّبُوَّةِ والأخلاق التي من شأنِّها تقرير معنوية الضوءِ وإحالة دلالته الحسية إلى الدلالة المعنوية التي تنتهي عندَ الهَدْي بأبعاده المعنوية كما ذهبت هذه المقاربة منذُ بدايتها ومن أمثِلَتِهَا ما يلي:

-       وَإِذا  رَحِـمتَ فَــأَنتَ أُمٌّ أَو أَبٌ        هَذانِ فـي الدُنيا هُمـا  الرُحَماءُ

-       وَإِذا رَضيتَ  فَذاكَ فــي مَرضاتِهِ     وَرِضـا الكَثيرِ تَحَلُّــمٌ  وَرِيــاءُ

ج- التنويع بين الجمل المثبتة والمنفية :

ويهدف ذلك التنويع إلى تأكيد ما يستهل به الوصف بتعاقب المثبت والمنفي كما في البيت:

الحَقُّ عالـي الرُكنِ فيـهِ مُظَفَّرٌ      فــي المُلكِ لا  يَعلو عَلَيهِ  لِـواءُ

فالإقرار بالعلو للحق في صدر البيت ونفيه عمن سواه في عجزه. أو الإقرار بصفة العفو وما يجملها من حكمته صلى الله عليه وسلم، ونفي ما قد يشوب العفوَ من الضعف وسوء تقدير الآخر لهذا العفو كما في البيت:

وَإِذا  عَفَوتَ  فَقــادِرًا وَمُقَـــدَّرًا       لا  يَستَهينُ  بِعَفـوِكَ  الجُهَـلاءُ

وبالإقرار بالصفة ودوافعها الإيمانية النبيلة في الصدر، ونفي الدوافع السلبية عنها في العجز كما البيت:

وَإِذا غَضِبتَ  فَإِنَّمـــا هِـيَ غَضبَةٌ       فـي الحَقِّ لا ضِغنٌ وَلا بَغضـاءُ

 

وهكذا تأتي قصيدة ولد الهدى في مجملها تنويعاً في البُنى وطرائقَ التصوير بغية تحقيق والانزياح بدلالات الضوء من حيزها المادي إلى حيزها المعنوي الممثل في دوال الهدى ببعدها المعنوي  الممثل في الهداية والرشاد والإيمان......إلخ .

 

* شاعر وناقد وكاتب من مصر

 

 الهوامش والإحالات:

 

( 1 ) ياسر عثمان: العنونة الشعرية والانزياح الدلالي صحيفة الوقت البحرينية 29 يناير 2007م.

( 2 ) عبد الله الغذامي، الخطيئة والتكفير،من البنيوية إلى التشريحية، قراءة نقدية لنموذج إنساني معاصر،النادي الأدبي الثقافي، السعودية ، جدة 1985 م ص 261.

( 3 ) محمد صابر عبيد، المغامرة الجمالية للنَّصِّ الشعري،عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، إربد، الأردن 2008م ص 113،114.

 ( 4 ) ابن كثير، تفسير القران العظيم، دار ابن حزم، بيروت لبنان، ط1 200م ص 87.

(5) جان كوين: بناء لغة الشعر، ترجمة د. أحمد درويش، مكتبة القاهرة1985 ص55.

(6 ) محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري( إستراتيجية التناص)،المركز الثقافي العربي الدار البيضاء ، المغرب ط2 1986 ص123.

( 7 ) أنظر في ذلك عدداً من أقوال المفسرين في الرابط المباشر:

 http://www.listenarabic.com/ar/tafseer-quran17-106.html

( 8): انظر الباحث العربي، الرابط المباشر:

  http://www.baheth.info/all.jsp?term 

(9)  صحيح البخاري ، الجزء الأول ، ص465.

 

* شاعر وناقد من مصر: yasserothman313@yahoo.com

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا