سؤال. كيف حالكِ الآن، بعد الإنهاك الذي صاحبَ جائزة النوبل؟
جواب. هل تسألني بجدّ؟ الواقع أنني مصابة بالسعال وبإسهال خفيف والتهاب في المثانة.
باستثاء هذا، أنا على أحسن ما يرام، شكراً. ما أصابني هو بسبب الإجهاد. عنيت إجهاد
جائزة النوبل. كل ذلك مجهِد للغاية. يدق جرس الباب، ها آنتم قد جئتم لزيارتي،
والهاتف لا يتوقف عن الرنين، وهكذا طوال اليوم. والقط منزعج من كل هذا. ألم تلاحظ
ذلك؟
س. ولكن حصولك على هذا النوبل خبر سعيد، وإن لم يكن مفاجئاً…
ج. حقاً، هذا جميل. الآن لدي جوائز كثيرة، النوبل وجائزة أمير أستورياس الإسبانية…
كل هذا جميل جداً.
س. روصا مونطيرو، الكاتبة التي سجلت معكِ مقابلة خاصة بصحيفة “إلباييس الأسبوعي”
قبل تسع سنوات كتبت قائلة إن مبرر الأكاديمية السويدية لمنحك النوبل “مغلوط وغير
عادل”…
ج. أنا متفقة معها. فكلام أعضاء الأكاديمية عن “الملحمة النسوية” لم يرقني كثيراً.
كما ان وضع الرجال والنساء في فضاءين مختلفين لا يبدو لي مناسباً… هكذا أرى الأمور،
ولكن من الواضح أن الناس تعشق النعوت الجاهزة: رجال مقابل نساء، الخير مقابل الشر،
هلمجراً…
س. هل ستكسبك جائزة النوبل مزيداً من القراء؟
ج. لقد كتبت العديد من الكتب، في أجناس مختلفة وحول مواضيع كثيرة ومتنوعة، وهناك
كثير ممن يتبعونني بالقراءة لسبب أو لآخر. أما لماذا يقرؤونني بالضبط فلست أدري؛
ربما لأن لدي بعض الكفاءة في الكتابة. (ضحك).
س. وسيزداد عدد القراء الذين سيقرؤون ما تكتبين، واهتمام الصحافة بك. وما دمنا في
هذا الموضوع، لقد حذرت دائماً من الاستعمال الفاسد لوسائل الإعلام، من صحافة وتلفزة
وكل ما يحيط بنا…
ج. وما زلت أحذر من ذلك. مهما يكن، تظل وسائل الإعلام والصحافة موضوعان مختلفان،
أقصد بذلك في إنجلترا، وليس في إسبانيا. لدينا في هذا البلد بعض أسوإ الصحافيين في
العالم، ولكن لدينا كذلك بعض أفضلهم. أما الصحافة في إسبانيا فلا أعرف عنها شيئاً.
ثم جاءت شبكة الإنترنيت التي أدخلت لوناً جديداً من الحضارة لم نتوصل بعد إلى فهم
معناها. والتلفزة نفسها، فهي قد غيرت عقلية الناس في العالم بأسره ومع ذلك، لا زلنا
دون فهمها، بكل صراحة.
س. تقولين في أحد كتب مذكراتك إن التلفزة قد قاطعت التحادث بين الناس وكسرت
السعادة، أو على الأقل التعايش العائلي…
ج. لم أقل إن ذلك التعايش كان سعيداً بالضرورة، ولكن لا شك في أن الحياة العائلية
كانت مختلفة قبل وصول التلفاز. شخصياً كنت شاهدة على وصول التلفاز إلى منزل ألف
أهله الإنصات إلى المذياع، والجلوس كل ليلة مجتمعين للتحدث والأكل، الأكل بمعنى
الكلمة، بالتأكيد… أنا أتحدث عن ثقافة مختلفة عن التي جاءت لاحقاً. التلفزة قاطعت
تلك الثقافة. وضعت حداً للتحادث والتعايش المرح. انتهى معها جلوسنا مجتمعين لتناول
وجبات الطعام. صحيح أن أغلب الأغاني التي كنا نرددها كانت مملة، ولكن صحيح أيضاً أن
عادة الغناء داخل العائلة، حول آلة بيانو قد انتهت إلى الأبد. الجميع حول مائدة
وكلب ينبح في ركن من أركان البيت وطعام لذيذ (لأن الطباخين الإنجليز ليسوا كلهم
سيئين!). كل ذلك ذهب مع وصول التلفاز، وأنا ما زلت أتذكر ذلك اليوم.
س. وفي أي ثقافة نحن الآن؟
ج. إننا في نهاية الحياة العائلية كما عرفناها. وكما تعلمون، فهناك نساء كثيرات
يشتغلن، وعندما يعدن إلى المنزل يكن مرهقات؛ لهذا يحضرن معهن طعاماً جاهزاً، وهذا
شيء جديد في إنجلترا. كما لا نقرأ للأطفال قبل نومهم لأننا جد متعَبين… كل هذا
جديد.
س. جئتِ بابنك إلى هنا [إنجلترا] سنة 1949 ليرى هذا البلد. كيف كان وقتئذ؟
ج. كان ابني في الثانية والنصف من عمره، ولا أعتقد أنه يتذكر شيئاً مما رآه آنئذ.
أما أنا فوجدت بلداً دمرته الحرب. لم يكن كاليوم، سعيداً وملوناً على هذا النحو.
كان مظلماً، يعج بالبنايات المثقوبة بالرصاص والأماكن التي سقطت بها القنابل؛ كما
كانت هناك عمارات دمرت بالكامل. كان المنظر يبعث الألم في النفوس. كانت الحياة
قاسية جداً جداً، حيث كان الطعام المتوفر قليلا والبرد قارساً. لقد تغيرت الأوضاع
بشكل كبير.
س. نحو الأفضل؟
ج. من طبيعة الحال.
س. والآن كيف ترين إنجلترا؟
ج. لا أتذكر أنها كانت في يوم ما مثلما هي عليه اليوم. الناس تملك أموالا كثيرة…
تقصد ساحة ليستر فتجدها مملوءة بالناس. الساعة منتصف الليل أو قريباً من الفجر ولكن
لا يزال هناك شباب يبحثون عن المتعة. هذا جديد في هذا البلد. لا أعتقد أنه سيدوم
طويلا، ولكن لننتظر قادم الأيام. أقر بأن هناك جيوباً من الفقر، ولكن الناس تعميماً
لها أموال وشروط الراحة وليست متخوفة، كما كان الشأن في السابق. كان الناس متخوفين
من فقدان منصب عملهم، من أن يصابوا بمرض، إلخ. هذا النوع من المجتمع الواثق من نفسه
الذي نعيش فيه الآن ربما هو لم يشهد التاريخ مثله. متى شهد مثله يا ترى؟
س. لقد جعل التاريخ من إنجلترا بلداً أفضل. ولكن البلدان اللذين ولدتِ وعشتِ فيهما
(فارس وروديسيا، المعروفتان اليوم بإيران وزمبابوي) يعيشان أوضاعاً صعبة، بل كارثية
أحياناً. وهو حال أفغانستان، الذي خصصتِ له مجهوداً كبيراً.
ج. علاقتي مع زمبابوي خاصة جداً. هناك كبرت وكونت نفسي؛ أعرف الكثير عن هذا البلد.
الأمر يختلف عن أفغانستان. أظن أن الإتحاد السوفياتي أخطأ بغزوه لأفغانستان. أما
إيران فأعتقد أنها كارثة، وبالنسبة للشرق الأدنى، أتمنى أن يكون الفزع قد عم
الجميع، لأنه الوضع هناك يثير الفزع. ولكن لا يمكن بأي حال الحديث عن كل هذه الأمور
دفعة واحدة. إنها حالات مختلفة فيما بينها.
س. لنتوقف عند زمبابوي. كيف سارت الأمور هناك منذ تحرر البلاد [من الاستعمار]؟
ج. الأمور سارت على نحو سيء للغاية، كما تعلمون. في هذه الآونة، الناس يموتون
جوعاً، هذا في بلد كان يوفر القوت للمنطقة بأكملها، حيث كانت بها محاصيل من جميع
الأنواع. واليوم لدي صديقة تهاتفني وتقول: “لقد أمضينا أسبوعاً بدون ماء، أربعة
أيام بدون كهرباء، هناك نقص في المواد الغذائية بالدكاكين، الخبز منعدم، البطاطيس
غير موجودة”. هؤلاء الناس يعانون من الجوع. دعني أقص عليك حكاية قد تبين لك ما
يجري. الناس يهربون إلى جنوب أفريقيا، وعند وصولهم إلى الحدود تقبض عليهم شرطة التي
تكون بانتظارهم. ولكن عند ترحيلهم يقولون: “نرجوكم، أعطونا شيئاً من الخبز قبل أن
تعيدونا إلى زمبابوي”. إنه تفصيل مرعب، أليس كذلك؟ وهناك حكاية أخرى غير هذه: جنود
موغابي [رئيس زمبابوي] هم أيضاً يلوذون بالفرار لأنهم لا يتسلمون رواتبهم. الآلاف
من هؤلاء الجنود ينزلون إلى جنوب أفريقيا، والمأساة أنهم يجدون في انتظارهم مجنِدين
يأخذونهم للمشاركة في حروبهم الخاصة. وقد ينتهي بهم الأمر فجأة في أفغانستان أو
العراق أو أي مكان آخر. يا لها من مأساة هذه التي حلت بأهالي زمبابوي المساكين!
س. ما تروينه يذكرنا بالهجرة الأفريقية إلى أوروبا والطريقة التي يتم ترحيلهم من
هنا.
ج. إنها مأساة زماننا، بالتأكيد، غير أن الناس يهربون من أفريقيا بسبب فقر شامل،
بسبب حياة جد قاسية؛ بينما مأساة زمبابوي أزمة تسببَ فيها رجل واحد.
س. رُوبيرطْ مُوغابي.
ج. أجل. إنه إنسان سيء للغاية. إنه سفاح. المهم، لديّ الكثير في هذا الباب ولكن ما
أريد قوله الآن هو الآتي: إن الناس الذين يغادرون زمبابوي يبحثون عن الخبز، لا عمل
لهم. آفاقهم المستقبلية منعدمة.
س. هل توقعتِ أن يكون روبيرط موغابي بهذا الشكل؟
ج. لا، لم أكن أتوقع ذلك. عندما وصل إلى السلطة، في البداية، قال عنه الناس إنه رجل
ذكي، ولديه مستشارين جيدين. ولكن سرعان ما حدثت مجزرة، وهو يتولى السلطة. والتحق
فيما بعد بأسوإ دكاتوريي العالم، مثل دكتاتور برمانيا، لأنه يحب الدكتاتوريين حباً
جماً.
س. إنها لعنة نزلت على أفريقيا. هل ترين، بصفتك مبدعة علامات، استعارة ما في هذه
النكبة المتواصلة؟
ج. هناك الكثير من البلدان المختلفة في أفريقيا. لا يمكننا أن نأخذ القارة كما لو
كانت وحَدة موحدة. ولكن يصح القول إن ما تعيشه أفريقيا يثير الألم في النفس.
س. لنعد إلى إيران، مسقط رأسك.
ج. لا، أرجوك! إني أكره إيران، أكره الحكومة الإيرانية؛ إنها حكومة خبيثة وقاسية.
تذكر ما حدث للرئيس [الإيراني خلال محاضرته بجامعة كولامبيا يوم 24/09/2007] في
نيويورك؛ لقد نعتوه بالخبيث والقاسي في جامعة كولامبيا. شيء رائع! كان من المفروض
أن ينعتوه بأسوأ من ذلك. لا أحد ينتقده، بسبب النفط. ومن أجل النفط تلطف حكومتنا
البريطانية الفاتنة تعامُلها مع رئيس إيران.
س. مثلما يفعل بوتين.
ج. تماماً، لأنه يريد الاحتفاظ بالنفط. وأنت تنتظر من الحكومات أن يتحلين بالأخلاق.
الحكومات لسن أخلاقية، لا توجد حكومة واحدة تتحلى بالأخلاق. جميعهن حكومات مُخجلات!
س. هل ستذهب الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب ضد إيران بسبب موضوع الطاقة
الذرية؟
ج. لست متنبئة. لو كنت في إيران لفكرت: لماذا لا نستعمل الطاقة الذرية لأغراض
سلمية؟ أنا لا أصدق ولو للحظة واحدة بأن تلك الأغراض ستكون سلمية، ولكن لا أستطيع
أن أقدم الأدلة على ذلك. نحن في مأزق لعين. الشرق الأدنى نعلم جميعاً بأنه كارثة،
إلا أنني لا أعرف مَن سيخلِصنا منها.
س. وأفغانستان، لقد زرت البلد ونددت بما يجري هناك. هل ترين في ذلك نتيجة من نتائج
أحداث 11 شتنبر؟
ج. أراه من نتائج الغزو الروسي لأفغانستان. أحداث 11 شتنبر لا يمكنها أن تكون بنفس
الأهمية. ما عاينته في أفغانستان كان من مخلفات الغزو السوفياتي، الذي كان كارثياً.
تمكنت من رؤية النساء والجنود والتحدث إليهم. أغلب الصحافيين لم يروا النساء قط.
لهذا بوسعي أن أقول إن الغزو السوفياتي لأفغانستان كان من أفظع الجرائم في عصرنا.
لقد انهزمت بريطانيا العظمى على يد الأفغان ثلاث مرات في القرن التاسع عشر. هذا ليس
من الواجب أن يعرفه الناس في إسبانيا، أما نحن فعلينا أن نعرفه ونتذكره. ترى ماذا
نفعل هناك؟ لقد هزمونا ثلاث مرات. إنها حماقة. نحن حمقى. نعود إلى أفغانستان… إنها
مزحة مقلقة حقاً.
س. لقد كنتِ مع النساء…
ج. ظروف النساء هناك مرعبة. المحاربون كانوا منهكين، لا يملكون أحذية ويقاتلون في
الثلوج. كانت حرباً رهيبة، رهيبة. والروس؟ صراحة، ليسوا أخياراً. لا أدري كيف كانوا
خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن في أفغانستان كانوا يبعثون الرهبة في النفوس.
كان الضباط يعاملون الجنود بطريقة قاسية، حتى صاروا يشربون زيوت الكوابح بدل
الكحول، ويبيعون أسلحتهم الخاصة ليشتروا المخدرات. لا أدري كيف هم الجنود الروس
الآن؛ أمّا في أفغانستان فكانوا في غاية القسوة.
س. أحداث 11 شتنبر و11 مارس بمدريد وعمليات لندن ومعاناتنا مع منظمة إيطا الباسكية.
لقد كتبت كثيراً عن الإرهاب.
ج. وكان عندنا هنا “الجيش الجمهوري الإرلندي”. هل تعرف ما ينساه الناس؟ بأن “الجيش
الجمهوري الإرلندي” استعمل القنابل ضد حكومتنا، وبأنه قتل أشخاصاً كثيرين أثناء
إقامة مؤتمر لحزب المحافظين [برايطون، 1984]، الذي حضرته الوزيرة الأولى مارغريت
ثاتشر. الناس ينسون. أحداث 11 شتنبر كانت رهيبة، ولكن إذا راجعنا تاريخ “الجيش
الجمهوري الإرلندي”، سيبدو ما حدث للأمريكيين أقل فظاعة. ربما اعتقد الأمريكيون
بأنني حمقاء. حقاً، مات أشخاص كثيرون وسقطت بنايتان شهيرتان، ولكن لم يكن الأمر
فظيعاً وخارقاً للعادة بالشكل الذي يعتقدون. الأمريكيون إمّا سذج بالفعل وإمّا
يتظاهرون بالسذاجة.
س. لدينا حساسية كبيرة في إسبانيا إزاء حرب الإرهاب الجديدة. في خضم الردّ
الأمريكي، كانت هناك صورة مشهورة جمعت جورج بوش وخوصي ماريا أثنار وطوني بلير…
ج. لقد كرهتُ بلير منذ البداية. الكثير منا كان يكره طوني بلير. أظن بأنه كان كارثة
حلت ببريطانيا وعانينا من وجوده سنين عديدة. قلت منذ فوزه الانتخابي إن هذا مهرج
صغير سيخلق لنا مشاكل جمة، وهذا ما فعله. أما بوش فكارثة دولية؛ العالم بأكمله سئم
من هذا الرجل. فهو أحد الأمرين: إما أبله وإما ذكي للغاية. وفي كل الأحوال، ينتمي
إلى طبقة اجتماعية تستفيد كثيراً من الحروب. كثيراً ما ننسى بأن الحروب تنفع
أشخاصاً كثيرين. بالمناسبة، أنهيت للتو كتاباً حول الحرب. لم يكن قصدي كتابة عمل ضد
الحروب ولكنه كذلك بالفعل. يدهشني أننا ننسى تأثير الحروب الهائل. إنها دائما هناك،
حاضرة كالذاكرة…وأنتم في إسبانيا لا شك تعرفون هذا. حربكم الأهلية [1936-1939] كانت
رهيبة جداً. وفي الحرب العالمية الأولى قررت أوروبا إطلاق الرصاص على نفسها. تلك هي
حروبنا. نحن أكثر وحشية وعنفاً من غيرنا. يروقنا أن ننسى هذا الأمر، ولكن النسيان
غير ممكن. قرأت في الآونة الأخيرة روايات حديثة لمؤلفين إسبان حول الحرب الأهلية
الإسبانية. هذه الحرب كانت في غاية الأهمية بالنسبة لأبناء جبلي. شيء ممزق جداً،
صعب جداً، يستحيل علينا فهم حكوماتنا… ربما نسيتم هذا، ولكن الواقع أن بريطانيا
وفرنسا تعاملتا بشكل مؤسف، حيث سمحتا لهتلر وموسوليني بمساعدة فرانكو لأن إسبانيا
كانت لها حكومة يسارية. شخصياً كنت بمعية ناس يبكون غيظاً وخجلا على حكوماتنا.
س. انطلقت في إسبانيا المساعي لاستصدار قانون يقضي بجبر الضرر المعنوي الذي خلفته
تلك الحرب.
ج. أنا على علم بذلك. لدي أصدقاء كثر بين الإسبان. كان في إسبانيا يمين متطرف وضع
له الملك حداً تحت تصفيقات الجميع. كان شيئاً رائعاً. وقد تعرفت إلى الأمير وإلى
والدته، الفخورة جداً بابنها، خلال تسلمي للجائزة التي تحمل إسمه في مدينة أوﭬييضو.
.
س. وكيف يخرج المرء من الحرب؟
ج. كنت متزوجة بلاجئ ألماني وعايشت الحرب من خلاله. الألمان المعارضون لهتلر كانوا
في وضع رهيب يقتضي التصفيق لتدمير ألمانيا. من الناحية العاطفية، كان ذلك قاسياً
جداً على نفوسهم. بهذه الطريقة المتناقضة عرفت الحرب. لم يكن الناس يكفون عن الحديث
حول الحرب. كانوا إما عائدين للتو من الجبهة أو تعرضوا للقصف، الذي دام حتى نهاية
الخمسينيات [من القرن العشرين]. الحرب، ولا شيء غير الحرب، محادثة لا نهاية لها.
الحرب والذاكرة لا ينتهيان أبداً.
س. هلا تحكين لنا شيئاً عن كتابك حول الحرب؟
ج. حول والديّ والحرب. لقد عانى والديّ الكثير بسبب الحرب العالمية الأولى؛ خرجا
منها بخسائر فادحة. لهذا منحتهما الحياة، كما لو أن الحرب العالمية لم تقع. حياة
كريمة وعادية وقليلة الإثارة. هذا هو النصف الأول من الكتاب. أما النصف الثاني
فيروي ما حدث بالفعل، ولا بد من القول إن بعض أجزائه مأساوية حقاً، فظيعة. لماذا
مأساوية وفظيعة؟ لأنهما كانا شخصان طبيعيان، عاديان جداً فدمرتهما الحرب. كنت أشعر
بهذا حتى وأنا صبية. تألمت كثيراً خلال الكتابة ولكنني شعرت بالسعادة وأنا أمنح
لوالديّ حياة سلام. تمنى أبي دائماً أن يصير مزارعاً إنجليزياً، فجعلت منه مزارعاً
إنجليزياً. أما أمي فقد أسندت إليها أعمالا هامة كثيرة لأنها كانت امرأة نشيطة
للغاية.
س. كيف كان شعورك الداخلي وأنت تكتبين عن الحرب؟
ج. أنا غاضبة. لدي ما لدي من سنين وما زلت غاضبة. لا يزول عني الغضب، لا يزول، إنه
هناك دوماً.
س. ألا يزيح الأدب غضبك؟
ج. غضبي لم يذهب عني. لا أدري لماذا. أستشيط غيظاً، مثلما كان يفعل أبي، بسبب ما
يجري. الحرب العالمية الثانية كان لا بد من خوضها، ولكن الحرب العالمية الأولى لم
يكن هناك ما يبررها.
س. كنتِ في صغرك تأكلين البرتقال وأنت تقرئين. وتحلمين؟
ج. ما زلت أحلم ولكن لم أعد آكل البرتقال. سني المتقدم لا يسمح لي بأكل البرتقال.
هذا ما يعنيه التقدم في السن: لا آكل هذا، ولا آكل ذاك… غير أني لا زلت أقرأ
كثيراً، وأحلم.
س. هل تتذكرين الأحلام؟
ج. طبعاً. ومن المنطقي أن أستعملها ككاتبة.
س. هناك احتفاءات كثيرة بك الآن. ما الذي يرضيك أكثر من الأشياء الحاصلة، في هذه
الأسابيع؟
ج. لديّ وضع في حياتي لا أتحدث عنه. لدي إبن معاق عليّ أن أعتني به. بمعنى أن حياتي
ليست تماماً ما كنت أتمناه. ولا يمكنني التحدث بهذا الشأن. لم تعد حياتي أنا؛ أنا
لا أعيش حياتي.
س. ماذا ستفعلين يوم عيد ميلادك؟
ج. لا شيء. سأهتم به عندما أبلغ التسعين من عمري. يا إلهي، ها هو الهاتف يرنّ من
جديد!
—— *(المقابلة نشرت بصحيفة “إلباييس” الإسبانية بتاريخ 21/10/2007) ——