ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

أحمد عبد المعطي حجازي - مصر

هل مات الشعر؟
أحمد عبدالمعطي حجازي - مصر

 

في البدايه‏,‏ نستطيع ان نسلم بوجود عقبات تحول دون وصول الشعر الي الجمهور‏,‏ او تحول دون وصول الجمهور الي الشعر والادله متوافره ملموسه‏.‏
الاصدارات الشعريه تتراجع من حيث العدد ومن حيث الكميه الموزعه‏,‏ ودور النشر الكبيره والصغيره لا تتحمس لنشر المجموعات الجديده‏,‏ والحيز المخصص للشعر في الصحف والمجلات وبرامج الاذاعه والتليفزيون ضئيل مهمل‏,‏ والمتابعات النقديه لا تدل علي اهتمام النقاد بالشعر‏,‏ ولا تدل علي وجود جمهور ينتظر هذه المتابعات‏.‏
وبقدر مايشكو الشعراء والنقاد من انصراف الجمهور عن الشعر‏,‏ يشكو الجمهور من تجاهل الشعراء والنقاد له وتعاليهم عليه‏,‏ والانتاج الشعري المعاصر يشير الي شيء من البرود في علاقه الشعراء بالجمهور‏,‏ ان لم يشر الي قطيعه‏,‏ فقد طغي الاهتمام بالشعر كشكل علي الاهتمام بالشعر كتعبير عن تجربه حيه‏,‏ واصبح اللعب دافعا للكتابه الشعريه اقوي بكثير من الدوافع الانسانيه ومن الحاجه الي التجاوب والمشاركه‏.‏
لم نعد نجد في معظم القصائد التي نقراها هذه الايام فرحا حقيقيا‏,‏ او الما حقيقيا‏,‏ او حتي فنا قويا نستطيع ان ننفعل به انفعالا تلقائيا صادقا‏,‏ واقصي ما نصل اليه تركيبات لغويه بمقاييس معممه ذات طابع محايد‏.‏
وليس نادرا في هذه الايام ان يخطئ الشعراء في النحو‏,‏ والوزن‏,‏ والتركيب‏,‏ وحتي في نطق الاصوات‏,‏ وان يتعللوا اذا ووجهوا بمقتضيات الحداثه وضروره تدمير اللغه القديمه‏!‏
ومن المدهش ان هذا الشعر الذي يراه الكثيرون سخيفا لا قيمه له‏,‏ هو وحده المسموح له بان ينشر‏,‏ برغم وجود شعر جيد‏,‏ اذ ان الشكوي من الشعر المنشور دليل علي وجود حاجه يلبيها شعر اخر‏.‏
معني هذا ان النموذج السائد في الشعر اصبح نقيضا للاحتياج الانساني‏,‏ واخشي ما اخشاه ان يكون الامر بخلاف ما تصورت‏,‏ وان يثبت ان الشعر السائد تعبير امين عن الذوق العصري‏,‏ في هذه الحاله تكون المشكله اكبر واعقد‏,‏ لان العطب حينئذ يكون في الروح ذاتها‏,‏ وليس في صور التعبير عنها‏.‏
انني اخشي بالفعل ان نكون قد فقدنا علاقتنا باللغه‏,‏ او تكون اللغه قد فقدت وظيفتها بالنسبه لنا‏.‏ لا اتحدث عن اللغه الفصحي بالذات‏,‏ ولا عن اي شكل من اشكال اللغه او ايه لهجه معينه من لهجاتها‏,‏ وانما اتحدث عن اللغه اطلاقا‏,‏ اي عن الكلمه من حيث هي وعي ومنطق وتسميه وتشخيص‏,‏ فالكلمه او اللغه بهذا المعني خالقه للذات‏,‏ لانها خالقه للوعي‏,‏ فنحن نعرف باللغه انفسنا‏,‏ ونعرف بها العالم‏,‏ لاننا نسمي بها الكائنات والاشياء التي تظل ضائعه مجهوله بعيده عن وعينا بها حتي نسميها‏,‏ فان سميت خرجت من المجهول الي المعلوم‏,‏ اي من العدم الي الكينونه‏.‏
علاقه الانسان باللغه هي مقياس علاقته بالعالم‏,‏ فاذا امتلكها فهي الدليل الساطع علي اقباله علي الحياه‏,‏ وفرحه بها وفرحه بنفسه‏,‏ واتصاله بسواه‏,‏ وقبوله للتحدي وهو ان يحيا مدركا انه سيموت‏,‏ واندفاعه مع ذلك لفرض وجوده‏,‏ والتحكم في الشروط الطبيعيه والاجتماعيه المحيطه به‏,‏ وتسخيرها لخدمته‏,‏ واتخاذها سلما يرقي به وينتقل من عالم الضروره الي عالم الحريه‏.‏
اللغه هي الحضاره لان اللغه هي الفرق النوعي بين الانسان والوحش‏,‏ فاذا فقد الانسان علاقته باللغه عاد وحشا كما كان‏,‏ او فقد انسانيته دون ان يكون قادرا علي استعاده مكانه في الغابه‏,‏ فليس امامه عندئذ الا الانقراض‏.‏
حين نتحدث عن لغه حيه فنحن نتحدث عن امه حيه‏,‏ والعكس صحيح‏,‏ فاللغه الميته تعني امه بائده وبوسعنا اذن ان نقيس حظنا من الحياه بحظ لغتنا منها‏.‏
ويوسفني ان اقول ان علاقتنا باللغه صارت واهيه‏,‏ وان حظ لغتنا من الحياه ضئيل‏.‏
اتركوا الفصحي فامرها لا يحتاج الي بيان‏,‏ وموتها لا يحتاج الي دليل‏,‏ وانظروا الي العاميه‏,‏ قارنوا بين عاميه القاهره اليوم وعاميه القاهره قبل نصف قرن‏.‏ او قارنوا بين عاميه بيرم ورامي وصلاح جاهين وحسين السيد‏,‏ وعاميه من لا اسميهم من كتاب اغاني هذه الايام الذين يسمونها شعراء‏.‏
وامس‏,‏ كان الاستاذ عماد اديب يناقش انحطاط لغه الاغاني في برنامج تليفزيوني‏,‏ فطلبني علي الهاتف‏,‏ واسمعني بالقوه‏,‏ اغنيه لا اجد حاجه لاذكركم بها‏,‏ فهي ليست استثناء في لغه الاغاني التي نسمعها هذه الايام‏,‏ وقال لي انها‏,‏ اي الاغنيه التي سمعتها بالقوه حققت نجاحا يفوق النجاح الذي حققته اخوات لها من الصنف نفسه‏,‏ وانها تبيع الان ملايين النسخ من الشريط الذي سجلت عليه‏,‏ وسالني عما عسي ان يكون هناك من اسباب تفسر هذا الانحطاط الرائج‏.‏ ولم يسالني بالطبع عن الالحان التي لا استطيع الحديث عنها‏,‏ مع انها منحطه هي الاخري‏,‏ وانما انحصر السوال في الكلمات لماذا تدهورت لغه الاغاني حتي وصلت الي هذا المستوي؟
والجواب ببساطه هو ان الناس فقدوا صلتهم بالحياه الحقه بوصفها مغامره رائعه مسئوله‏,‏ وانسحبوا الي خارج الحياه بعيدا عن تساولات العقل ورقابه الضمير‏.‏
نحن لم نعد نعرف في حياتنا العامه او الخاصه هذا المرح الحي‏,‏ او هذه النشوه الانيقه‏,‏ او تلك الطلاقه الاسره‏,‏ اوذلك الفضول الخلاق‏,‏ او ذلك التعلق الحميم بالمثل الاعلي‏,‏ تلك القيم التي نجدها تتنفس في فكر طه حسين‏,‏ ونقد العقاد‏,‏ وشعر شوقي وعلي محمود طه‏,‏ والحان سيد درويش وعبدالوهاب‏,‏ والقصبجي‏,‏ وزكريا احمد‏..‏ فكيف تصح علاقه الناس باللغه اذا كانت علاقتهم مريضه بالحياه؟ ومادامت علاقتنا باللغه قد فسدت فعلاقتنا بالشعر فاسده كذلك‏,‏ فليس الشعر الا اللغه في ارقي صورها واجملها‏,‏ حين تصبح اللغه سليقه نفس حيه ناطقه كانما هي اوتار مشدوده طيعه في يدي عازف عبقري‏.‏
بل ان اللغه بدات شعرا‏,‏ لان الناس كانوا يفكرون بالصوره قبل ان ينتقلوا من الصوره الي الفكره المجرده‏.‏ وهذا ماذهب اليه ابن جني حين قال ان اكثر مافي اللغه من باب المجاز‏,‏ فالمجاز هو ماده الشعر‏.‏
نستطيع اذن ان نسلم بان هناك عقبات خطيره تحول بين الناس وبين الشعر ليس فقط بينهم وبين تذوق الشعر او قراءته‏,‏ بل ايضا بينهم وبين كتابته‏.‏
والقضيه ليست مثاره في العالم العربي وحده‏,‏ بل هي مثاره في العالم كله‏,‏ ومن هنا كان اعلان منظمه اليونسكو عن الحادي والعشرين من شهر مارس من كل عام يوما للشعر في جميع انحاء العالم‏,‏ وهو ما لا يمكن اعتباره دليلا علي الرواج والازدهار‏,‏ فالحقيقه ان منظمه اليونسكو تريد ان تضمن للشعر يوما واحدا يتذكره فيه العالم‏,‏ بعد ان انسحب من العام كله‏.‏
لكني مع ذلك لا اقول ان الشعر مات‏,‏ كما قد يفهم البعض‏,‏ لان الشعر في نظري كالماده الاولي التي تتشكل منها الحياه في صورها المختلفه‏,‏ وكما ان الماده لا تفني وانما تتحول‏,‏ فالشعر كذلك لا يفني‏,‏ ولكنه يتحول‏.‏
والشعر رغم تراجعه الخطير موجود كما نري في الامسيات والمهرجانات التي يشارك فيها شعراء حقيقيون‏,‏ وتنظم تنظيما جيدا‏,‏ فيختار لها الوقت المناسب‏,‏ والمكان الملائم‏,‏ ويسبقها اعلان ذكي جذاب ينقل خبرها الي الجمهور المهتم بالشعر المعجب بنجوم الامسيه او المهرجان‏.‏
ولقد رايت هذا الجمهور في بلاد مختلفه‏,‏ في المشرق والمغرب العربيين‏,‏ في عواصم افريقيا‏,‏ واسيا‏,‏ واوروبا‏,‏ وامريكا اللاتينيه‏.‏
ولقد قرات شعري علي مئات من المستمعين‏,‏ واحيانا علي الاف وربما احتشد جمهور اكبر بكثير ليسمع شاعرا كالجواهري او كنزار قباني‏.‏
وهذا دليل علي ان جمهور الشعر موجود‏,‏ لكنه كامن يظهر اذا توافرت الشروط‏.‏ واذا كان الجمهور المستمع موجودا فلا شك في ان الجمهور القارئ موجود كذلك بنسب لا استطيع تحديدها‏.‏
يصح ان يكون القراء اكثر احيانا‏,‏ لان الشعر يذهب اليهم في منازلهم‏,‏ ويضع نفسه رهن اشارتهم‏,‏ ولان شهره بعض الشعراء تكفل لهم جمهورا واسعا من القراء‏.‏
لكن الامر لا يسير دائما علي هذه الوتيره لان المستمعين يجدون في احيان اخري من المباهج والمتع مالا يجده القراء‏,‏ كالمشاركه الجماعيه‏,‏ والاتصال المباشر بالشاعر‏,‏ وتذوق طريقته الفريده في القاء شعره‏,‏ اذ ينتظر من الشاعر الذي يقدم شعره بصوته ان يجيد الالقاء‏.‏
واذن فالجمهور القارئ موجود كالجمهور المستمع‏,‏ اذا توافرت الشروط‏.‏
الا ان الشعر كثير متعدد‏,‏ مع انه في الجوهر واحد‏,‏ هناك بالنسبه لنا الشعر الفصيح وشعر العاميه‏.‏ وشعر العصور الماضيه وشعر العصر الحديث‏,‏ والشعر التقليدي والشعر الحر والشعر المنثور او قصيده النثر‏,‏ كما تدعي الان ومن الموكد ان حظوظ هذه الاشكال والانواع من الازدهار والانحسار متفاوته‏,‏ ولا يمكن ان يصح علي القصائد التي غنتها ام كلثوم وعبدالوهاب لشوقي‏,‏ وحافظ ورامي وعلي محمود طه‏,‏ ومحمود حسن اسماعيل‏,‏ وبشاره الخوري وكامل الشناوي‏,‏ ونزار قباني ما يصح علي الشعر المقروء ولا شك ان جمهور صلاح عبدالصبور يختلف عن جمهور صلاح جاهين‏.‏
ثم ان الشعر ليس محصورا في القصيده‏,‏ فهناك الشعر المسرحي علي سبيل المثال‏..‏ وهو ليس محصورا في الاشكال الشعريه‏,‏ وانما يتجاوزها الي الاشكال النثريه كالقصه والروايه‏,‏ بل انه من حيث الجوهر‏,‏ اي من حيث هو صور ورموز وايقاعات يتجاوز اللغه الي الالوان والانغام‏,‏ اي الي الفنون التشكيليه والموسيقي‏.‏
اريد ان اقول ان انحسار القصيده ليس دليلا علي موت الشعر‏,‏ فالشعر كما ذكرت لا يفني وانما يتحول الي صور ادبيه وفنيه اخري فمن الخطا الشديد اذن ان نعتبر انحساره نهايه طبيعيه لفن استنفد اغراضه‏.‏
يعتقد بعض النقاد ان الشعر هو فن الحياه الساذجه البسيطه كما تكون في القري والبوادي‏,‏ والحواضر القديمه‏,‏ ومدن العصور الوسطي الي اوائل هذا العصر الحديث الذي جاء ومعه فن اخر تطور عن الملحمه‏,‏ وهو فن الروايه النثريه الذي حل محل الشعر‏,‏ لان المدينه حلت في العصور الحديثه محل القريه‏,‏ والصناعه حلت محل الزراعه والرعي‏.‏
يريد هولاء ان يجعلوا ازدهار النثر نتيجه سعيده لموت الشعر‏.‏ مات الملك‏!‏ يحيا الملك‏!‏
لكننا لا نري ان تراجع الشعر يقابله ازدهار لاي ثقافه حقيقيه او فن رفيع‏,‏ بل نحن نري ان تراجع الشعر مصحوب بتراجع اللغه عامه‏,‏ وبرواج تلك الثقافه التجاريه او الجماهيريه المتمثله في الاغاني التي نسمعها بالقوه‏,‏ وفي افلام الاثاره الرخيصه‏,‏ والتسجيلات السريعه التافهه‏,‏ وسوي ذلك مما لا يمكن اعتباره ثقافه‏,‏ وانما هو شيءيشبه الثقافه‏,‏ او يوهم بوجودها وذلك ما تعبر عنه العباره الانجليريه
‏PSEUDO-'CULTURE‏
او العباره الاخري
‏SUB-CULTURE‏
ومعناها الثقافه المبتذله او المنحطه‏.‏
كيف نفسر اذن تراجع الشعر؟ وكيف يزدهر الشعر من جديد؟

نقلاً عن جريدة الأهرام

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا