ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

نعمان إسماعيل عبد القادر - المغربالعفريت الأزرق

نعمان إسماعيل عبد القادر - المغرب

 

      عند اختفاء الدولارات -الستة آلاف- من جيب المعطف المعلّق في خزانة الملابس، كان أفراد الأسرة جميعهم خارج البيت. كانوا يشاركون الأستاذ "مجدي الحزماوي" في فرحه بزفاف ابنه البكر "رشاد".. ولكن الشيء المثير للعجب والدهشة أن البيت لم تظهر فيه ثمة علامات اختراق ولم يُترك فيه أثر اقتحام. كان في حالة عادية مائة بالمائة، إذ لم يتغير فيه شيء على الإطلاق ولم يتحرك غَرَضٌ من مكانه أبدًا.. فكل شيء بقي موجودًا في مكانه كما هو.. والباب الداخلي وباب البيت الخارجي مقفلان.. والنوافذ موصدة كما كانت.. أسئلة وتساؤلات عديدة حيّرت أهل البيت ولم يستطع أحد الإجابة عنها. ووجمت أسرة الأستاذ "مروان" وجومًا طويلا مختلطًا بالحزن والغضب. 

      وما العمل إذن؟؟ استدعاء الشرطة؟ لا.. لا.. لأن الشرطة لا تولي اهتمامًا كبيرًا بمثل هذه الأمور.. البحث عن الجناة خارج البيت في هذا العصر كالبحث عن سمكةٍ في بحرٍ واسعٍ ممتليء بأعداد هائلة من الأسماك المتشابهة.. لا يمكن إيجادهم بيسر.. لقد ذابوا كما يذوب الملح مع مياه النهر الجارف. واقترحت عليه زوجته "كاملة" بأن يجرب فيعرض القضية على الفتاحة "زريفة المرجانية" النابلسية التي يُعرف عنها أنها فتحت لكثير من الناس واستطاعت حلّ مشاكلهم بسهولة. وتستطيع كشف الحقيقة في أسرع وقت. 

      على بُعد مترين فقط منها، جلس الأستاذ "مروان" على حصيرةٍ باليةٍ سقط بعض من قش أطرافها المنفرطة، وناولها ورقتين نقديتين من فئة الخمسين دينار ثم وضعتها في عجلةٍ في كيس صغيرٍ أخرجته من صدر ثوبها، وأخذت تردد كلمات وجمل غامضةً تبين له من سياقها ومن خلال إيماءاتها، أنها تتحدث مع شخص ثالثٍ يتواجد في الغرفة دون أن يراه كانت قد استحضرته بطلاسم حفظتها عن ظهر قلب.. ولا بد أن يكون هذا جني أو عفريت. وكان ظلام الغرفة قد شقّته خيوطٌ رفيعةٌ تسللت من شقوق النافذة ومن بين مصراعي الباب المغلقين، حتى ليكاد المرء لا يرى في الوجود إلا شبحين، هما ذكر وأنثى، جالسين في "خلوة" وسط تلك الغرفة. فيما المكان عكَّر صفو هدوئه صوت زقزقات العصافير.. ومع كل هذا لم يكن "الشيطانٌ ثالثهما"، ولم يوسوس لهما وساويسه التي تهيج الغرائز التي زرعت ونبتت في الذات البشرية.. بل ولم يخطر على باله شيءٌ من هذا القبيل، لأن المرأة عجوز باردة انطفأت حرارتها منذ سنين طويلة ثم، لا تبحث العجائز في مثل هذا السن إلا عن مالٍ ورزقٍ للعيال. وبرودة المكان أخذت تنخر في عظامه بحيث ما أن لبسه الشعور بالرهبة الحقيقية في هذا اليوم حتى ألهمه التفكير في نفسه باليوم الآخِر. لم يكن الحرّ ليسمح للهواء الراكد في الغرفة بالتحرك في هذه الدقيقة بالذات.. وهو لا يشعر حتى بذرّة هواء تلامس جسمه.. إذن وما الذي جعل الستائر تُنفض كأن أحدًا يخبطها بعصا غليظة ليجلو عنها الغبار؟ ثم لماذا تتحرك الأوراق من على الطاولة ثم تتمزق فجأة ثم يرتطم ثم يُسمع لحظتئذٍ صوت ارتطام صحون بالأرض وخرخشة صرة مفاتيح مع أن الغرفة خالية من الصحون والمفاتيح؟

 كانت عيناه تلمعان وتتحركان نحو مصادر انبعاث الأصوات المفاجئة.. ولولا تلك الجرأة التي اكتسبها من أبيه والدالة وحدها على إرادته للحياة لوجدته فعلها في سرواله أوقد شمّر وولى هاربًا من غير أن يفكر في رجعة إلى مكان تسكنه الجن والشياطين.. ثم تحدَّدَ صوت العجوز الشمطاء وارتفع مع رجفة في أطرافها ثم صرخت قائلة بصوت آدميٍ رجولي غليظ:

  • قل لي مين اللي أخذ المصاري؟......... مين؟ .......... واحد من قريب من الحارة؟............ شو اسمه؟ .........."ياسر"؟؟.............. أنت شفته لما طال المصاري؟........ في أي وقت؟ ..........قبل أسبوع؟............ بتقدر توصفهْ؟...

أخذت الريبة تلعب في صدره.. وشعور غريب اعتراه حين نزل من سيارته واتجه ببصره إلى فناء بيت جاره "ياسر" فوجده يسقي شجرات بيته.. ولولا تجلده لاندفع نحوه "يغطغطه" بسكين حاد في صدره شفاءً لغليله.. ولو جدَّ في تهوره وركب رأسه، لما كنت تجده يصعد نصف درجات داره ثم يتوقف برهةً ويقول في نفسه:

  • أيمكن أن يكون "ياسر" لصًا من لصوص البيوت ونحن لا ندري.. لا.. لا.. لا أصدق هذا الكلام.. صحيح أنه لا يصلي إلا أيام الجمع فقط، ولكن أعرف أنه إنسان شريف ومستقيم وراشد .. ثم إنه ليس محتاجًا إلى مال.. ولكن كيف أشارت الفتاحة إليه ووصفته وصفًا دقيقًا دون أن تعرفه.. والله هذا شيء محيّر!!!

      لسان الزوجة لم ينقطع عن كشف ما كشفته "زريفة المرجانية" وعن تصديقها لكلالمها.. والخبر إذا شاع لا بد أن ينتهي في نهاية المطاف إلى "المتهم". وما أجوع النساء لمثل هذه الأخبار!

      وقبل أن يفتح "مروان" عينيه في ذات صباح إذا به يسمع رنين الجرس "يصنُّ" في أذنيه بتواصل.. نظر فوجد "ياسرًا" يرافقه الشيخ "شداد" حاملا في يده اليمنى مصحفًا وهو يحوقل ويدعو للجميع بالخير.. ولما فُتح لهما الباب رفض "ياسر" التفضل وأصرّ بغضبٍ شديدٍ على أن يقسم بالله ويمناه تلامس المصحف الشريف أنْ لا علاقة له في قضية سرقة الدولارات من البيت.. أما الشيخ "شداد" فقد نصحه أن يتقي الله وأن لا يتهم أحدًا زورًا وبهتانًا، من غير دليل ولا برهان، وأن لا يزور عرافًا أو مشعوذًا لأن الزيارة تعتبر شركًا بالله.. وإذا كانت لم تظهر آثار للجريمة فهذا دليل على أن الجاني جنيٌّ مسخّرٌ.. وبما أن الجني لا يستطيع أن ينفذ إلى صفحات القرآن الطاهرة فبإمكانه أن يخبيء أمواله داخل المصحف كما يفعل هو.. 

      بعد شهرين كاد الرجل أن ينسى الحادثة الأليمة.. إلا أن الصدمة التي أثرها بقي يهيمن على بقعة صغيرة في الذاكرة علمته أن يأخذ بنصيحة الآخرين وأن يلجأ إلى القرآن الكريم.. ألف دولار استلمها وقرأ عليها أمام زوجته آية الكرسي والمعوذتين وعطرها ببخور اشترته زوجته من سوق القدس ثم وضعها في صفحات سورة "يس" ، ثم وضع المصحف في خزانة الملابس.. وكان كلما مرَّ يوم أو يومان يمضي إلى المصحف فيفتحه ليتأكد من وجود المال في مكانه..

      اضطرب الرجل بانفعال مفاجيء، ذات ليلةٍ، حين سمع وقع أقدام في البيت، حبس نفسه فوجد أن باب الغرفة يُفتح شيئًا فشيئًا.. كان قد بدأ يدرك أن البيت مسكون بأشباح وعفاريت، خصوصًا بعد أن شعر قبلها أن هناك شخص ما يسير وراءه ويقلده في كل خطواته حتى إذا اقترب منه أخذ يدغدغه بخفة شديدة. وإذا ما توقف، توقف مثله.. وحينما بسمل وقرأ القرآن شعر بابتعاده عن المكان في سرعة عجيبة.. ولما رأى زوجته وأبناءه يغطون في نومهم بسلام، قرأ المعوذتين وآية الكرسي وقليلا من القرآن الكريم ، ثم أحسَّ أن البيت قد تُحُصِّن وقد خلا من الجن والشياطين التي تخيلها تفرُّ من المنطقة في فزع شديد.

      امتص الرجل غضبه الذي كاد يعصره حين تفقد المصحف بعد عودة العائلة من رحلة استجمام إلى طبريا عصر يوم السبت، فوجد أن "الألف دولار" قد اختفت منه. واحمرت وجنتي زوجته التي ارتجفت فتولتها ثورة غريبة ونزلت من بيتها في عجلة ثم تبعها زوجها وأولادها الثلاثة وأخذت تنظر بعينين هائمتين نحو فناء المنزل متأملةً أن ترى أثرًا ما يكون قد تركه الجاني خلفه. ولما لم تجد شيئًا اتخذت لنفسها مجلسًا تحت شجرة التوت وأسندت خدها الأيمن على كفها وانخرطت تغط في تفكير مسترسلٍ سارحةً بنفسها سرحانًا طويلا من غير أن تأبه لكلام زوجها الذي ألصق التهمة مرة أخرى للعفاريت.. ولم تصحُ من تفكيرها إلا بعد أن جلس ابنها الصغير "فادي" في حضنها ، إذ رفعت رأسها واعتدلت في جلستها ثم غمغمت في صوتٍ حادٍ:

  • أنا ما بصدق هذي الخرافات .. لا في هناك جن ولا شياطين.. إللي سرق بيتنا هو إنسان .. بني آدم مثلنا.. ولازم نعرف مين اللي عمل هذا العمل..

  • لكن كيف دخل الدار وعرف وين المصاري موجودة؟

  • لازم نفحص الدار ونفتشها.. والحرامي بترك خلفهْ أثر

      ولو بسيط.

      الجميع تسللوا إلى البيت وفتشوه جيدًا.. ودهشتهم كانت عظيمةً حين لميعثروا على شيء . فاستدعى محققًا خاصًا من تل أبيب تعرف عليه منذ مدة، وكان قد طلب منه قبل هذا أن يحقق في الأمر إلا أنهما اختلفا على الثمن.. ولكن الصدمة في هذه المرة دفعته إلى الاتصال به من دون مساومة ..

      تفقد "يوسي" البيت وتفحصه جيدًا وأوصى بأن يبقى كل شيء على حاله.. وقال إن الأمل ما زال قائمًا للقبض على صاحب الجريمة.. طال الزمان أم قصر.. وبناءً على ذلك لا بد من إخفاء كاميرات صغيرة في البيت يتم التحكم بها بواسطة مكبس خاص يثبت في صندوق الكهرباء.. والسعر هو ألف دولار.. مش مهم.. لأن الأهم أن تزول الغمامة.. وأن يُقبض على العفريت.. 

      وإذ ذاك شاع خبر في مقهى "الاستقلال" أن بيت الأستاذ "مروان" أصبح مأوىً للجن والشياطين. ولأنه تزوج من إحدى الجنيات الغانيات وأنجب منها طفلا، فقد دبت الغيرة في نفوس جنيات أخريات، وشرعن في مطاردته حتى يقبل بالزواج منهن أيضًا. ولما رفض طلبهن لجأن إلى معاقبته، عن طريق سرقة أمواله وترويع أهل بيته.. وفي غضون أيام نُسجت قصص كثيرة ألبستها ألسن الناس حلل بديعة حاكتها من خيوط خيالها .. فهرع الشيوخ إلى بيته لتعزيته وقراءة آيات الرقية.. الآيات الطاردة للجان.. 

      وفي ذات عودةٍ من زيارةِ الأهل مساء الجمعة، وبعد أن دخل الرجل بيته كعادته، ورأى آثار أقدام مطبوعة ببقع من وحل الشارع على مصطبة البيت.. إذ لفه هاجس الخوف من "الجنيات" التي تحدث عنها البعض، وتراءى له أن العفاريت تحاصر بيته من جهاته الأربعة تحمل كل واحدة بيدها اليمنى سيفًا وفي الأخرى مشعلا ناريًا تريد أن تشعل به البيت لتحوله إلى رماد.. ولم يستطع أن ينتزعه عن نفسه ويلقي به في فضاء البلدة إلا بعد أن أدرك أن البيت اقتحم وكشف الشريط عن امرأة تلبس ثوبًا أزرق اقتربت من عتبة الباب الخارجي وفتحته بهدوءٍ ثم دخلت البيت وفتحت الباب الثاني وفي نفسها ثقة وطمأنينة أن أحدًا لا يراها ولا يعلم أحد بوجودها. واعترفت "فهيمة" بعد التحقيق معها أن زوجها نسخ مفاتيح هذا البيت قبل عشرة أعوام بعد أن أودعتها جارتها عندها وطلبت منها الاهتمام بالطفل ريثما تعود من زيارتها للطبيب.. ثم اعترفت أنها دخلت البيت بتشجيعٍ من زوجها مراتٍ كثيرة وفتشته دون أن تعثر فيه على شيء. 

                                          (كفر قاسم)

naamankq@yahoo.com

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا