ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

حيـواناس

حسين أبو السباع - مصر

 

القاهرة سنة 1917

حياة ككل الحيوات.. بسيطة.. في حي السيدة زينب.. وهو أحد الأحياء الذي ارتضى  البسطاء فيه مثل غيره بوعي أو بغير وعي البعد عن متن المجتمع وفضَّلوا هامشه، يستأثر هذا الحي بعبق تاريخي أصيل يتنفسه كل من مرَّ فقط  بإحدى طرقاته واشتم رائحة الرجولة و(الجدعنة) بين شبابه.

ولا تزال رحى الأيام تدور...

خرج للدنيا كثير من البشر عبر أرحام أمهاتهم إلى بوابة الحياة اليومية في هذا الحي..
يحيا بشر ويموت آخرون.. ولا تزال رحى الأيام تدور...
 لم تحفل به الأسرة كثيراً..!!  إذ إنه لم يكن الذكر الوحيد في الأسرة، ولا الأكبر، وإنما كان ترتيبه.. لا يهم الترتيب في كثرة العدد الذكوري والأنثوي داخل هذه الأسرة صغيرة الحال كبيرة العدد.. محمود ذكري الابن الأصغر.. له أخوان يكبران عنه ببضع سنوات (حسن وسيد) وثلاث بنات شقيقات..
الأب (ذكري).. لديه مقهى صغير بذات الحي يقول الناس إنه اشتراه من (فريد الساعاتي) الذي كان يعيش في حارة مجاورة للمحل و(الساعاتي) هي مهنته وصفته وليست اسماً له.. كان صديقاً لذكري..  وقد تعارفا بعد أن خلَّصه (ذكري) من قبضة لصوص قد أحاطوا به ليسرقوه.. ولمَّا نجاه (ذكري) طمعاً في سرقته وحده دون مشاركة الآخرين.. فاجأه (فريد الساعاتي) بإخراج ساعة بكاتينة يبرق لمعانها ويشق الظلام الدامس.. ليهبه إياها ويقول له: أنا اسمي (فريد الساعاتي) ليَّ محل في السيدة زينب وجنبيه حتة أرض كمان بتاعتي.. تعالى بكرة.. أنا حكافأك مكافأة كبيرة.. اسأل عليَّ ألف من يدلك.. أخذ (ذكري) الساعة وفرح بها بل انبهر بلمعانها.. وقرر في نفس الوقت أن يذهب إليه في صباح اليوم التالي.. عرض عليه (فريد الساعاتي) أن يعمل معه في محله (ساعاتي).. وافق (ذكري) على الفور.. وما كان من (فريد) إلا أن أغدق عليه مالاً وعطفاً لما حفظه له من جميل حين خلصه من قبضة اللصوص.. تغيرت هيئة (ذكري) فقد كان قبل أن يتعرف على (فريد الساعاتي) أشبه بقطاع الطرق.. من بنية ضخمة ونظرات حادة زائغة.. إلى هيئة منظمة نسبيا ونظيفة أحيانا..
 عملا سوياً سنوات..  ثم آلت ملكية هذا (المحل)  والأرض المجاورة للمحل إلى (ذكري) .. فجأة..!! واختفى الساعاتي.. قال (ذكري) وقتها إنه باعه المحل وسافر إلى بلاده في الشام خوفاً على عائلته هناك، حيث كانت الحرب العالمية الأولي سنة 1914 قد وضعت أوزارها.. ولم يظهر أي مُطالب للمحل وحوَّله  (ذكري) مقهى.. بعد ذلك مباشرة..
 واختفت تماماً هيئة ذكري القديمة ليصبح بين يوم وليلة (المعلم ذكري) الذي لا تختلف هيئته عن (المعلمين) الذين كانوا يجاورونه في الحي أو في أحياء أخرى.. حيث الجلباب الواسع من أسفل مجسماً لشكل الصدر من أعلى بادياً من الفتحة العلوية له (الصديري) وشعر كثيف يطل من نفس الفتحة والعمامة الكبيرة نسبياً فوق الرأس..
(لمعلم ذكري).. الأب الصارم، الذي يحكم بيد من حديد ليسيطر على مقاليد الأمور داخل البيت وخارجه..  يشك في كل من حوله ولا يثق بأحد مهما كانت درجة قرابته منه.. حتى أنه كان يسرق عدداً من الماركات التي يأخذها من يعمل بالمقهي.. ظناً منه أن كل العاملين معه لصوص..
المقهى في حارة منزوية في ذلك الميدان.. يخرج إليه الأب (المعلم ذكري) كل يوم دون انقطاع حتى في الأعياد.. (رزق يوم بيوم والأجر على الله)، (واصرف ما في الجيب يأتيك ما الغيب)، (الست لمَّا تطلب قرش أديها أتنين علشان أبو تلاتة واقف بره) عبارات تجدها تعبر فوق لسانه إلى آذان المستمعين في الحلقة اليومية التي يتحلق فيها بأصدقائه ومعارفه من زبائن المقهى إذ كان لها رواد كثيرون في كل الأوقات، ويتعاقب الليل والنهار ويتعاقب الرواد.. وتتعاقب فصول السنة ويدر المقهى مالا كثيرا في وقت قليل.
 لم يحبه الناس رغم فصاحته المستعارة.. لكنهم كانوا يطيعونه فقد كان يوهم الناس أنه الفقيه الوحيد الذي له حق الفتوى في هذا الحي بأسره.. ومن لم يعمل بفتواه فإنما عليه وزره.. وعليه أن يتحمل ما يقع عليه من عقوبة تصل إلى حد الضرب على مرأى ومسمع من الجميع.. ولا يستطيع أحد الاعتراض.. فقد كان (المعلم ذكري) له من الحاشية القديمة من فتوات الأحياء المجاورة من يقوي شوكته بما يهبهم من أموال.. ويتطاول ليردد بعضاً من آيات القرآن الكريم خطأً (لزوم الكلام والمواقف) وأحيانا يردد بعض الأقوال على أنها كلام الله.. والناس في الحلقة تستمع وتقول: يا سلام.. الله يفتح عليك..
حرص كذلك على أن يجعل الأبناء يسيرون نفس الخطى إيماناً منه بأن هذا هو الطريق لكسب الناس، فهم في النهاية (زبائن).. ولا ينظر إلى أي منهم حتى من يدَّعي أنه صديقه، ولكن ينظر إلى المال الذي ينفقه في مقهاه، وكان من وقت لآخر يذهب لاحتساء الخمر والبيرة، ولا تجده مساء كل خميس إلا في جلسات الحشيش، وأحيانا يستحلب (سن أفيون.. اصطباحة) .. هو لا يصوم رمضان ولا يخرج زكاة معلومة وإنما كان يدَّعي أنه يعمل خيراً كثيراً، والحسنة المخفية أفضل عند الله، هكذا كان يردد دائماً.. إذا صلَّى يصلي ركعتين في اليوم كله (شكر لله) كما كان يقول.. وذلك ليس نكراناً منه للصلوات الخمس وإنما لكي يدخل إلى نفسه وإلى الناس أنه يصلي.. لكنه آثر السلامة في كل ولد من أولاده..
(حسن) الابن الأكبر سار على نهج الأب في كل شيء..
 فكانت له حلقته الخاصة به.. وحديثه مع من يجلس معهم ويتحدث بنفس أسلوب وطريقة (المعلم ذكري).. فهو الابن الأكبر والوريث الشرعي (للمعلمة) لكن كان شيء ما خفي يقوده إلى الصلاة في المسجد الزينبي، ولم يكن أخوه الأصغر منه (سيد) أقل من الأب والأخ حرصا على أداء مثل هذه الطقوس.
الأب (المعلم ذكري) والأبناء (حسن وسيد) هم في معركة العمل محل (القائد) و(الميمنة) و(الميسرة) في المقهى الذي هو كل مورد رزق لهم في الكون.. إذ منه يأكلون ويشربون ويتنفسون ..وكل شيء.. كل شيء.. كل شيء..
من حين إلى آخر يهرب حسن دون علم (المعلم ذكري) لمقابلة إحسان الفتاة التي أحبها، إذ كانت تعمل خياطة في مشغل على بعد خطوات من المقهى وكان هو بنفسه (ابن المعلم) يذهب بالمشروبات الساخنة والباردة ليقدمها إلى رواد المشغل وكذلك العاملين فيه والعاملات المستقيمات، منهن والمائلات.. ذهب  قلبه دون أن يدري نحو (إحسان) الفتاة ذات الجسد الممشوق المنحول نسبيا من منطقة الوسط بتناسق ملامح وبياض وجه إنجليزيين يحمل كل ذلك (خفة الدم) المصرية.. يجمع هذا التكوين كله إيشارب داكن اللون ليظهر بياض الوجه في أضواء مصابيح الليل.. وفستان متناسق التفاصيل مع هذا الجسد الممشوق.. في كل مرة تنظر إليه وينظر إليها خلسة دون أن يلاحظهما أحد..
أيام طويلة وهو على هذه الحال.. لكن ما بينهما من حب كان ظاهراً في لقاءاتهما اليومية لدقائق معدودة عند الترام أمام شارع قدري الذي يرج الأرض رجاً بضجيجه محدثا جلبة في ذهابه وإيابه، وكم بتر هذا الترام أرجل وأيدي العشرات من مجاذيب السيدة زينب وصاروا عجائز، يطلبون المدد من أم العجائز السيدة زينب كما يعتقد البسطاء..
 وما يحدث اليوم يحدث كل يوم، فبينما هى تسير في هدوء إذا به يقترب منها.. تلاحظه.. تبتسم ابتسامتها الخفيفة.. يمسك منها حقيبتها التي تحملها.. تتركها له باستسلام.. يمشيان سويا.. يهمس لها قائلا: النهارده يوم سعدي وهنايا..
إحسان: إيه دا كله.. ما انت بتعرف تتكلم كويس..
حسن: أنا كل منايا من أول ما شفتك إني أتكلم وياكي..
إحسان: وعاوز إيه دلوقتي.. تتكلم بردو بعد كل المدة دي؟ إيه ما شبعتش كلام يا راجل!!!
حسن: أنا بحبك..
إحسان: ما أنا عارفة إنك بتحبني، وبعدين؟..
حسن: ولا بعدين ولا قبلين.. أنا عاوزك في الحلال يا ست البنات..
إحسان: خلاص ادخل البيت من بابه..
حسن: يعني إيه؟
إحسان: كلم أبويا واطلبني منه..
حسن: يعني إنت موافقة إن إحنا نتجوز؟
إحسان: طبعا..أمَّال أنا وياك دلوقتي وبأقابلك ليه.. علشان نفضل ندور في الشوارع طول عمرنا..لأ طبعا.. إنت راجل مجدع وكسيِّب.. وعرفت إزاي تاخد قلبي.. وماافتكرشي إن أبويا هيمانع..
حسن: من بكرة حكلم أبويا.. علشان يطلبك ليَّ..
إحسان: إمشي بقى.. خلاص أنا قربت من البيت.. لأحسن أبويا ولا حد من ولاد الحتة شافنا مش حيبقى كويس..
حسن: خلاص.. أنا ماشي.. سلام يا قمر
إحسان: مع السلامة..
***
رجع حسن لا تحمله قدماه وإنما تحمله فرحة غامرة من كلام إحسان معه، وقرر فورا أن يحادث أباه في قصة زواجه إحسان.. عاد إلى المقهى فوجد (المعلم ذكري) وبمجرد أن رآه المعلم قال له في حنق: كنت فين يا سيد أمك؟
تلعثم حسن من شدة غضب (المعلم ذكري) ولم ينطق بشيء.. لاحقه (المعلم ذكري) بقوله: يا فرحتي بيك يا خيبة الرجالة سايب أخوك الصغير في القهوة  لوحده، ورايح تتسرمح ورا البت إحسان.
يتفاجأ حسن من قول أبيه ويرد: مين اللي قالك؟.. ياأبا أنا عاوز أقولك...
المعلم: متقولش حاجة يا فالح وشوف أكل عيشنا ..
حسن: يا آبا...
المعلم: إنت لسه واقف ادامي..
قذفه بكوب الشاي الذي كان يشرب فيه.. وقع الكوب على الأرض دون أن يصاب حسن بمكروه حينما ابتعد خطوة للوراء تفاديا للكوب الساخن..
التفت حسن إلى عمله بغير اكتراث.. وبدأ  يعد العدة والطلبات ويحاسب العمال الذين يعملون في المقهى بينما كان عقله لا يزال يفكر.. ترى من قال لأبي أني كنت مع إحسان؟
أكيد سيد.. لأ لأ سيد كان شغال وأنا تركته وهو لا يعرف أي شيء..مش مهم إني يعرف إن بقابل إحسان ولا لأ المهم في البيت إني أكلمه في موضوع زواجي منها..
انتهى يوم العمل (في الفجر) ككل الأيام..
(المعلم ذكري) وحسن وسيد يمشيان خلفه بنحو خطوة ليس احتراماً بقدر ما هو خوف شديد منه.. فهو رب البيت.. والكلمة كلمته كسيف مصلت على رقبة الجميع.. وعلى المعترض الخروج من تحت سمائه..
دخل ثلاثتهم البيت ووتبادلا السلام مع المستيقظ من الأخوات البنات والأم التي تجلس كل يوم في انتظارهم.. تناول الجمع العشاء.. استعد الأب للنوم.. بادره حسن قائلا: أبويا.. أنا عاوزك في موضوع..
الأب: لو كان موضوع مشيك مع إحسان النهارده.. أنا مستعد أنساه.. بس ما يتكررش تاني..
حسن: خلاص مش حيتكرر مرة تانية.. علشان أنا عاوزك تكلم أبوها يجوزها لي..
الأب: إنت بتقول إيه؟
حسن في تلعثم: أنا.. أنا.. أنا عاوز أتجوز إحسان يا أبا..
الأب: يلتفت إليه ويوخذه في كتفه قائلا له بصوت جهوري: لهو انت ما بتسمعش الكلام اللي بيتقال عليها.. وعلى أبوها..
حسن: كلام إيه يا أبا؟
الأب: كلام.. الدنيا كلها بتقول إن مشيها  بطال..
حسن: اتقي الله يا أبا.. محدش شاف حاجة..
الأب: اللي شافك النهاردة معاها وجه قالي هو نفسه اللي شافها قبل كدة مشاية مع فتحي المكوجي ورايحين سوا نواحي مستشفى (حوض المرصود).. وماسابهمش إلا بعد ما شا فه بيبوسها في بير سلم بيتهم.. وبيقولوا إن أبوها عارف ومطنش.. فاهم مطنش..
حسن: كدب يا أبا.. إحسان أشرف بنت عرفتها في الدنيا..
الأب: هي كلمة واحدة، لو شفتها تاني ولا قابلتها (عليَّ الطلاق من أمك ما انت قاعد في البيت ولا في القهوة) إنت سامع يا سيد أبوك..؟
حسن: يا آبا...
الأب: خلاص بقي غور من وشي دلوقتي وإذا ما سمعتش الكلام اللي قلته يبقي ذنبك على جنبك يا حلو.. وسبني بقي علشان أنا عاوز أنام..
ذهب الجميع إلى النوم.. ولم يستطع أحد أن يتكلم في هذا الموضوع مرة أخرى لا مع الأب ولا مع حسن..
>>>
في صباح اليوم التالي، خرج حسن وسيد في الصباح لفتح المقهى على أن يلحق بهما الأب عصرا -ككل يوم- بعد أن يكون قد أخذ قسطاً وافراً من نوم عميق ليحافظ به على قوته البدنية، فهو قد ينسى أي شيء إلا شهوتي البطن والفرج، وفي الطريق  كان الأخوان يستعيدان ما وقع في ليلتيهما البارحة.. وسيد يحاول أن يثني أخاه عن عزمه من الزواج  بإحسان لأن حسن كان مصمما ًجداً، وقرر أن يتقصى حقيقة ما قاله أبوه كاملة.. ليعرف هل هل حقا كما قال(المعلم ذكري) أم أنها البنت الشريفة التي أحبها وقرر أن يضحي لأجلها بكل ما في الكون من حياة..
بينما كلمات الأب تتردد في كلتا أذنيه ( عليَّ الطلاق من أمك ما انت قاعد في البيت ولا في القهوة) كصفير لا ينقطع..
في المساء خرج خلسة من المقهى ولف ودار ميدان السيدة زينب بأكمله حتى لا يراه أحد مرة أخرى وهو ذاهب لرؤية إحسان وهي عائدة لمنزلها..
قرر أن يراقب خطواتها كاملة.. بعد أن استبدت به الحيرة والقلق.. راح يراقبها أسبوعاً كاملاً دون أن يلحظ عليها أي شيء.. تخرج من بيتها صباحاً إلى المشغل وتنكفئ على ماكينة الخياطة حتى المساء لتعود إلى بيتها مرة أخرى وتدور مع الماكينة كأنها تدور في فلك مجرة..
في اليوم الثامن وبعد أن تبددت ظنونه بحبيبة قلبه إحسان قرر أن يستوقفها ويتحدث إليها.. خرج خلفها حتى رأته  هي مرة أخرى، ابتسمت وقالت له: إنت فين؟.. إنت مش قلت إن أبوك حيكلم أبويا علشان نتجوز؟  بقالي أسبوع ما شفتكش..
يتلعثم حسن ويخرج من صمت لبرهة ويقول: أنا فعلاً كلمت أبويا لكن...
إحسان: إوعى تقول ما وافقش..؟
حسن: هو ده اللي حصل..
إحسان: ليه هو أنا فيَّ إيه؟
حسن: حد قاله إن إحنا بنتقابل مع بعض.. وحد بيجيب في سيرتك إنك كنت ماشية مع فتحي المكوجي ورايحين سوا نواحي مستشفى (حوض المرصود)..
إحسان: صحيح.. أنا كنت رايحة المستشفى علشان أقابل أخت فتحي المكوجي بتشتغل هناك حكيمة.. وقابلته هناك فعرض عليَّ إنه يوصلني، والوقت كان متأخر شوية فوافقت.. وهو ده اللي حصل والله العظيم.
حسن: يعني ما باسكيش في سلم بيتكم؟
إحسان: قطع لسان الوسخ ابن الكلب اللي يقول إنه شاف حد بيبوسني ولا بدي حتى ريق حلو لأي حد.. أنا عاوزاك يا حسن.. وإنت لو مصدق فيَّ أي حاجة من دي يبقى حياتنا ما تنفعش.. صدقني يا حسن..
حسن: أنا حصدقك يا إحسان..
قالها وهو يبلع ريقه، وملامحه تريد أن تصدق كلامها تصديقاً تاماً..
عاد إلى أبيه مرة أخرى وحدَّثه في موضوع زواجه من إحسان محاولاً أن يقنعه بهذا الزواج.. ولكن الأب دائماً يرفض ما يقول حسن.. مرة تلو أخرى حتى ضاق الأب بما يفعل الابن.
يأس الابن من موافقة أبيه على زواجه من إحسان.. فقرر أن يتزوجها رغماعن الجميع (واللي يحصل يحصل) ذهب إلى أبيها وطلب منه الزواج بابنته.. أخبره أن والده (المعلم ذكري) غير راضٍ على هذا الزواج.. نهره والد إحسان وقال له: أنا يا ابني ما عنديش بنات للجواز بالطريقة دي، أنا بنتي لا هي بايرة ولا فيها حاجة تتعيب.
جيب أبوك يا بني وأنا وبنتي تحت أمرك، غير كدة أنا ما عنديش بنات ليك للجواز..
سمعت إحسان ما قاله أبوها.. وارتفعت منزلة حسن في عينيها فهو المغامر بكل علاقته بأبيه لأجل أن ينالها.. وقف أمام (المعلم ذكري).. تحداه.. وتكررت لقاءاتهما.. مرة تلو أخرى حتى قرر الاثنان أن يختارا طريقهما ويتزوجا بعيدا عن أعين الرقباء من أهل الحي..
هربت إحسان وكذلك حسن.. اختفيا أسبوعاً.. كانا فيه قد تزوجا وأجَّر حسن غرفة، وكان سعيداً جداً.. وقال في نفسه: أكيد أبويا هيسامحني على إني خالفته.. لكن كل شيء يهون وأنا لما أصالحه أكيد هيوافق على طول..
علمت أم حسن بزواج ابنها الأكبر دون علمها ودون رغبة الأب (المعلم ذكري).. لم تهدئ من غضبة الأب الثائر.. ولم تقل إلا: الواد ده ما يدخلش بيتي بعد كدة.. أنا عندي بنات.. والبت اللي هرب معاها دي مش بعيد تلعب في دماغ بناتي وتخليهم يعملوا زيها.. أعوذ بالله.. أعوذ بالله.. دا لا يحصل ولا يكون..
عاد حسن إليه أبيه ودخل عليه المقهى.. وبمجرد أن رآه (المعلم ذكري) حتى فاجأه بعدة صفعات على وجهه قائلا له: يا كلب وطيِّت راسنا كلنا.. امشي اخرج برة وعليَّ الطلاق  من حريمي الاتنين لا انت ابني ولا اعرفك.. بيتي وقهوتي متحرمين عليك ولو مت كمان مش هحضرك جنازة ولا دفن.. غور .. ينعل أبو دي خلفة.. تجمع رواد المقهى حولهما محاولين إبعاد (المعلم ذكري) عن ابنه.. خوفاً على الابن من قبضة المعلم التي لا ترحم.. وتحسب الجمع من أنها لو طالت تلك القبضة فك حسن لأسقطت على الفور رباعيته..
خرج حسن وهو يشعر بالقهر والظلم من أبيه.. وقرر الاعتماد على نفسه والعمل لكسب قوته وقوت زوجته من عمل يده دون حاجة إلى هذا الأب المستبد الذي يريد أن يسير الكون حسب مشيئته هو.. هو فقط..
بحث كثيراً عن أي مقهى يعمل فيها، لكن أصحاب المقاهي كلهم كان قد انتشر الخبر بينهم كالنار في الهشيم  فخافوا من غضبة (المعلم ذكري) عليهم، فلم يقبلوا أن يقدموا له حتى العون بعمله لدى أي منهم..
إلا واحد من أصدقاء أبيه كان يعمل نجاراً.. طلب حسن منه عملاً.. فلم يجد الرجل أمامه سبيلا إلا أن يعمل صبياً في ورشة النجارة.. ويبدأ المشوار من بدايته..
سيد.. الأخ الصغير لحسن حل محل أخيه.. في المقهى.. بينما كان محمود الأخ الأصغر لا يزال صغيراً.. صغيراً جداً على الوقوف في بداية الطريق.. اعتمد الأب على سيد ذالك الصبي ذي الستة عشر عاما..
 
 
ولا تزال رحى الأيام تدور..
خمس سنوات كاملة وسيد يذهب خلسة ليرى أخاه من دون علم الأب وإلا غضب عليه هو الآخر وسيد قليل الحيلة غير حسن تماما.. لا يستطيع أن يسلك مسلك أخيه ويحذو حذوه.. فكان يؤثر ألا يغضب والده منه مهما حدث.. فكان اليد التي تداوي وتخفف و(حمار الشغل) الذي يحمل عن أبيه كل متاعب العمل ليلاً ونهاراً.. والأب لم يكتف بسيد وإنما ظل يحلم أن يرى (محمود) هو الآخر في طليعة سيد..
رمى (المعلم ذكري) الحمل بأكمله في المقهى على أكتاف الفتى الصغير.. يعمل طوال النهار والليل ويعطي لـ(المعلم ذكري) كل النقود.. فيمنحه (المعلم) فتات المحصول..
لم يكن سيد يغضب من هذا الوضع لأنه كان يحيا على أمل أن يزوجه أباه من أية فتاة من أصل طيب.. ويشتغل ويعيش في البيت الذي كان يتصوره البيت المعمور..
لم يدخر مليماً واحداً.. وكان (المعلم ذكري) يشجعه على عدم الإنفاق لكي يبقى عمره أسيراً للفتات التي يهبه إياها دون أن يفتح الفتي فاه.. فهو قانع بما يُلقى إليه ليلتقطه بفمه أو بيده.. ليس مهما كيف يلتقطه.. المهم أنه يلتقطه..
لكن..
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن
ولأن الأصل في الأشياء التغيير.. لم تهنأ للأب فرحته بابنه سيد إذ صاح عليه جيرانه عصر أحد الأيام قائلين له: إلحق يا معلم ذكري.. إلحق ابنك سيد..!!!!!!
فزع الرجل من سريره منتفضاً واتجه صوب الشباك حيث مصدر الصوت.. طلَّ منه فإذا بالناس يصرخون مرة أخرى: إلحق يا معلم ذكري ابنك النار كلته...
الأب: متفائجاً: إيه.. بتقولوا إيه؟
أحد الجيران: الباجور انفجر في الواد وهو واقف في النصبة ومحدش عارف  يلحقه.. النار ماسكة فيه..
انتفض (المعلم ذكري) جرياً بملابس النوم إلى المقهى ليقف على الحدث فإذا به لم يجد أحداً لا الزبائن ولا الابن ولا أي مخلوق.. التفت حوله وجد صبياً يقول له: عم ذكري ابنك ودُّوه مستشفي العباسي.. جري الرجل إلى هناك ووجد كل شيء كان قد انتهى في لحظات قليلة.. بادره الطبيب قائلاً له: البقية في حياتك يا معلم ذكري.. محدش له في نفسه حاجة وانت سيد العارفين..
كاد الرجل أن يسقط.. أسنده الطبيب.. تماسك الرجل.. أنهى إجراءات الدفن بسرعة.. وانتهى كل شيء.. سرت الأخبار إلى حسن كالنار في الهشيم بما حدث لأخيه.. ذهب مسرعا إلى الأب يقف إلى جواره ويأخذ عزاء أخيه.. طرده الأب.. وقال له: أنا حالف يمين طلاق يا كلب.. اخرج من بيتي.. يا ريت إن إنت اللي مت مش هو..
خرج حسن من البيت أمام جمهور المعزِّين، وهو يحمل أطناناً من الشقاء والحزن ليس فقط على أخيه وإنما أيضاً على ما آلت إليه العلاقة بينه وبين أبيه..
كان حسن خلال السنوات الفائتة قد أنجب أطفالاً أربعة من البنات والأولاد.. لكنهم كانوا كأغراب عن أهلهم وذويهم إذ لم يرهم أحد من إخوته ولا أبيه ولا أمه..
صار (المعلم ذكري) وحيداً في مقاهاه..
اعتاد الأب أن يخرج إلى المقهى صباحاً ويعود مساءً وحده وحيداً متثاقلاً.. وفي النهاية آثر أن يخرج محمود معه إلى العمل (محمود ذو السنوات العشرة) خرج من الكتَّاب وارتدى جلباباً صغيراً كان يجرجر أطرافه بصعوبة وكاد أن يقع أكثر من مرة بسبب ذلك الجلباب اللعين.. وذهب إلى المقهى.. وصار ينهج نهج أبيه وأخويه..
 
ولا تزال رحى الأيام تدور..
ويصير محمود ذكري عين أبيه وأمه فهو رجل العائلة بعد (حسن) الذي خرج من الجنة لأنه ارتكب الخطيئة وأكل تفاحة زواجه بإحسان..  و(سيد) الفتى الصغير الذي مات محترقا داخل المقهى لم يكن لم نصيب في الملك لا داخل البيت ولا داخل المقهى.. فقد كان (المعلم ذكري) يأبى أن يكون له شريك في الملك..
بينما الأم كانت دائما تنصر إخوته البنات عليه دون رادع من (المعلم ذكري) لأنه هو الآخر كان يريد ألا يعلو صوت في البيت غير صوته، وكان له أخوات من البنات، ثلاثة.. الكبرى متسلطة والوسطى بيضاء جميلة وشخصيتها تشبه شخصية الكبرى، أما الثالثة فكانت معدومة الشخصية لا تسير يميناً ولا يساراً ولا تشرِّق ولا تغرِّب إلا بإيعاز من الأخوات الكبار.. أما البيضاء الجميلة فكان كلما أغضبها تثور الأم وتجعل الأب يعنِّفه قائلاً له: دي (حمرا)..
 في هذا الوقت كانت الفتاة البيضاء الجميلة يقولون عليها (حمرا).. نسبة لإحمرار الوجنتين من جمال مزعوم..
محمود ذكري الذكر الوحيد الآن في البيت بعد أبيه.. ولكن كل من في البيت لا يحبون أن تصير السيادة الذكورية لمحمود خصوصاً أنه الأصغر.. عمل الجميع على طمس شخصيته.. لكنه رضي بالهروب من المواجهات التي دائما ما تنتهي بخروجه مهزوماً أمام البنات الاتي تنصرهن أمهن بسبب وبغير..
تولدت مشاعر غير سوية بينه وبين أخواته البنات.. مشاعر من بغض يرتفع أحياناً ويهبط أخرى..
ووقع ما لم يتخذ لأجله التدابير اللازمة.. كبر محمود وصار عليه أن يذهب إلى التجنيد لثلاث سنوات آتية..
كان خلالها الأب في حالة تدهور سريع إذ كان قد تقدم في العمر، ولم يجد الشخص الأمين الذي يأتمنه على المقهى ليساعده..
ذهب محمود إلى الجيش.. وكان عند عودته في أجازة يجد أباه وأمه ينتظرانه في برد الشتاء القارص وهو عائد من الجيش مساءً أو صباحاً ليس مهما التوقيت.. المهم أنهما كانا ينتظران مجيئه في كل لحظة.. وكان هو بمجرد أن يحضر يخلع سترته (الميري).. ويرتدي الجلباب في الحال ويعمل في المقهى دون تعب أو ملل.. فكان والده يمنحه جزاء ذلك عشرة قروش كاملة.. ولم تكن لدى محمود أية أعمال أخرى.. تأخذه من المقهى..
لكن كان حلقه يغص بالمرارة إذا كان متعباً ولم يقدر أن يفعل ما عليه كلما عاد من الجيش إذ كان أبوه لا يهبه العشرة قروش كعقاب مدعياً أنه لا يملك من المال شيئا..
أما البنات الثلاثة فكن يحظين بمكانة عالية جداً في البيت صارت أكبر من محمود بفضل ثلاث سنوات التجنيد.. وابتعاده عن المقهى والبيت.. حتى بعد أن عاد كان يفضل البقاء في المقهى طوال يومه على المكث في البيت ساعة واحدة.. والشجار معروف النتيجة بينه وبين أخواته البنات..
لم تعد نفس محمود الراضية تقبل أن يفعل به مثل هذه الأفاعيل.. إن له حقوقاً كثيرة ولايحصل عليها.. إنه  يزرع وغيره يأكل دون جزاء أو شكور..
كره محمود المقهى والبيت معاً.. كره أن يذكره الناس بأخيه حسن المطرود من رحمة أبيه.. وبسيد المحترق في مقاهاه.. إن أذناه قد تعبتا من سماع ما يؤلم.. كان شعورا خفيا يسوقه إلى أنه لو بقي في المقهى لآل إلى مصير مشؤوم مثل أخويه.. كان في معسكره يشبك أصابعه خلف رأسه وهو نائم في خيمته وينظر إلى أعلى ويفكر ماذا يفعل ليتخلص من هذا الحمل الجاثم على صدره..
كان كثيراً ما يستسلم للأيام.. وينسى أو يتناسى كل شيء ويتصرف بآلية مثالية.. من الجيش إلى المقهى إلى وكر كانت تسوقه قدماه نحوه وسط المقابر بالقرب من قبر السيدة نفيسة.. ليشرب هناك (الشيشة) ويغوص بأفكاره بعيداً عن كل الرقباء الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه.. فالكل في هذا الوكر في عالمه الخاص..
ثم أخيراً إلى البيت لينام فقط دون حتى أن يتحدث إلى أحد.. كانت غربته الداخلية أكبر بكثير من معسكر التجنيد الذي يسع آلاف المجندين..
 
 
ولا تزال رحى الأيام تدور..
وإذا بالسنوات الثلاثة قد انقضت وكان على محمود أن يعرف أنه عائد لا محالة إلى المقهى الذي ينتظره مهما غاب..
في الأيام الخوالي كان محمود قد استجمع كل ما به من قوة ليواجه (المعلم ذكري) بعد أن قرر أن يترك المقهى في غير رجعة، قال لأبيه: يا أبا أنا فكرت كويس وعاوز أتوظف علشان أقدر أتجوز واعمل أسرة وأعيش حياتي..
فزع الأب من قوله ورد غاضباً: تعيش حياتك وأنا وأمك وأخواتك نموت من الجوع..
محمود: حسن يا أبا ممكن نصالحه ويجيي...
الأب: حد الله بيني وبين الكلب اللي سابني وخرج عن طوعي وفضحني..
محمود: حسن يا أبا أخويا وابنك بردوا..
الأب: أنا ما ليش غيرك انت والمرحوم سيد..
يبكي الأب.. وتسيل من عينيه دموع تماسيح ثقيلة يجففها بطرف كم الجلباب الأيمن قائلا: أنا راجل كبرت ومحتاج ارتاح يا ابني..
أتقن (المعلم ذكري) دوره جيداً، فما كان من محمود إلا أن قال : حاضر يا أبا.. حاضر يا أبا
قالها باستسلام مزعوم.. وأتقن هذا الاستسلام حتى صدقه الأب.. وكان الاثنان يخفيان أشياء داخلهما ويبدي اللسان عكس ما يبطن القلب..
كان صعباً جداً على محمود أن يتذكر حادث أخيه في هذا المقهى قد احترق فيه أخوه الأكبر.. وطُرد منه أخوه الكبير حسن.. وإلى الآن لم يعد..
ذهب محمود إلى المقهى وأحضر كثيراً ممن يعمل بها تحت إشراف الأب.. (المعلم ذكري)، وكان هو يدَّعي أنه  يشتري أشياء للمقهى من السوق ويذهب ليبحث عن عمل يناسبه.. لم يعد يطيق أن ينحني أمام الزبائن ليقدم لهم مشروباتهم.. وضاقت عيناه بما يرى في عيون الآخرين من نظرة دونية.. وكأنه كما أن عمله يحتم عليه أن يخدم ويقدم لهم طلباتهم.. يجب أيضا أن يخدمهم في كل الأحوال.. فهو الأقل منهم... تغيرت طبيعة الناس عبر السنوات الماضية.
 نمت لديه هذه الفكرة نمواً ملحوظاً.. فراح يفتش كثيراً عن عمل غير المقهى.. أي عمل.. طال البحث وكاد أن ييأس لولا رحمة من الله نزلت عليه فوجد عملاً بوظيفة حكومية بثمانية جنيهات شهريا.. إذ كانت كل مؤهلاته هى حفظه لأجزاء من القرآن الكريم..
سعد بهذا العمل، بل حاول أن يطير فرحاً إلى أبيه ليخبره.. فكَّر ملياً.. خطرت برأسه فكرة أن يصلح ما بين حسن وأبيهما.. قال في نفسه: آن الأوان لتعود المياه إلى مجاريها.. اتجه إلى بيت حسن.. حجرة صغيرة مسقوفة بعروق من خشب فوق سطح إحدى العمارات، لا يوجد بها أثاث كثير، غير سرير ينام عليه الأب والأم والأولاد الأربعة وحصيرة مفروشة منتصف الحجرة بغير تنظيم وبعضاً من مساند مصنوعة من بقايا الملابس القديمة على الأرض ليجلس عليها من أراد جلوساً..  سأل عنه.. رأى أولاده.. عمكم يا ولاد.. عمكم محمود.. يا ألف خطوة عزيزة.. قالتها: إحسان زوجة حسن.. قبَّل الأولاد وأعطى كل واحد منهم قرش صاغ واحد قائلا: علشان تيجيبوا شكولاتة.. قالت له إحسان: والله كبرت يا محمود وبقيت راجل ملو هدومك..
 سأل إحسان قائلاً: أمَّال فين  حسن؟
قالت: في الورشة..
قال: طيب أنا رايح له هناك عشان عاوزه في موضوع مهم.
إحسان: خير يا محمود.. أخوك بقاله يومين تعبان ومتزعلهوش من أي حاجة علشان الزعل مش كويس عليه.. الحكيم قال كده..
محمود: حكيم.. هو حسن ماله..
إحسان: روح له واطمن عليه..
ينطلق محمود كالسهم إلى أخيه.. ليجده يعمل وتبدو عليه أمارات الإرهاق وتكونت هالة سواء حول عينيه تكاد تحجب حتي النور..
رفع حسن رأسه فرأى محمود.. انتفض فرحاً.. وفتح ذراعيه وانطلق نحو أخيه الأصغر.. ليتعانقا عناقاً طويلاً وكل منهما يربت على كتف الآخر.
لاحظ محمود إعياء حسن فقال: إيه يا أخويا، شكلك تعبان قوي..
حسن: الصحة من عند الله.. كله بأمره...
محمود: إنت عامل إيه في حياتك؟
حسن: والله زي ما انت شايف..
محمود: طيب إيه رأيك لو تصالح أبوك..
حسن: أنا بودِّي إني أصالحه.. لكن على يدك إني حاولت كتير.. وهو عارف إني محتاج له ولم يكلف خاطره ويسأل عني أو حتى عن أولادي.. ويوم وفاة المرحوم سيد..
محمود: الله يرحمه
حسن: مش فاكر عمل فيًّ إيه.. مش شتمني وطردني قدَّام الناس كلها.. على العموم إنت كنت وقتها صغير ويمكن ما تفتكرش.
محمود: لكن الظروف دلوقتي اتغيرت..
حسن: ليه.. إيه اللي حصل؟
محمود: أنا لقيت وظيفة وخلاص عاوز أسيب القهوة وإنت عارف إن أبوك لوحده مش هيقدر يعمل حاجة.. أبوك خلاص كبر يا حسن..
حسن: أنا ما عملتش حاجة تغضب ربنا، أنا اتجوزت على سنة الله ورسوله.. مش عارف هو ليه عمل كل ده.. والسنين دي كلها ما خلتهوش يفهم ويقدر..
محمود: خلاص انسى كل شيء وافتكر بس إنك هتروح بكرة لأبوك وتصالحه وأنا هعمل اللازم معاه.. ويا أخي كمان لما يعرف إنك سميت ابنك الكبير (ذكري) يمكن ده يغير من اللي في قلبه من ناحيتك.. عمر الدم ما يبقى ميَّه يا عم حسن..
حسن: خلاص اتفقنا.. يوم الجمعة اللي جاية إن شاء الله..
محمود: اتفقنا.. حستناك ما تتأخرش..
مشى محمود وهو يحدث نفسه.. إيه اللي حصل لحسن ده.. دا بقى شبح إنسان.. إزاي يكون فيه أب يرضى لابنه الحياة دي مدام قادر إنه يساعده.. حسن انطفى خالص.. بقى هو دا حسن اللي كانت البنات بتدوب في تراب رجليه.. الهم كل منه للدرجة دي.. الله يسامحك يا آبا.. الله يسامحك ويهديك..
... فرغ حسن من عمله وذهب إلى البيت بسرعة ليجد إحسان جالسة في انتظار الأخبار قائلة له: خير أخوك محمود كان عاوزك ليه؟..
حسن: وإنت عرفت منين إن محمود كان عندي النهارده؟
إحسان: كان هنا النهاردة، وسأل عليك حتى ما قعدش كتير وإدى كل عيل من العيال قرش والعيال فرحوا بيه ولكنه كان عاوزك انت فمشي على طول..
جالي النهادره وقال لي إن أبويا محتاج لي ولازم أصالحه..
إحسان: أبوك محتاجلك.. كان فين السنين دي كلها علشان يحتاجلك دلوقتي بعد ما ربنا فتح علينا وبدأنا نعرف نوفر قرش كل يوم، ويمكن ربنا يسهل ونسيب الأودة دي ونسكن في شقة..
حسن: المهم، دا بردو أبويا.. وهروح له يوم الجمعة الجاية إن شاء الله..
إحسان: يعني إنت شايف كده؟
حسن: مفيش غير كده.. على الأقل العيال يعرفوا لهم أهل.. عمام وعمات وجد وجدة.. عزوة يعني.. وأنا تعبت من شغل النجارة.. النجارة دي مش شغلتي..
إحسان: خلاص اللي فيه الخير يقدمه ربنا.. احضر لك العشا.. أنا عاملة لك فرخة بجوزة الطيب علشان ترم عضمك..
حسن: لا.. أنا حاسس إني واكل خروف..
إحسان: انت أكلت حاجة برة..
حسن: لا.. لكني شبعان.. وحاسس إني خلاص لمَّا أصالح أبويا هاستريح.. العيال كلوا؟
إحسان: كله من فضلة خيرك يا اخويا..
حسن: أنا حنام.. تصبحي على خير..
إحسان: حتنام على طول كده..
حسن: معلش النهارده أنا تعبان قوي..
إحسان: خلاص يا قلبي وإنت من أهله..
 
نام حسن وهو يحلم بيوم الجمعة، يوم أن يذهب إلى أبيه ويصالحه ويضمه الأب بين ذراعيه وينسى كل ما فات وينسى أنه خرج عن طوعه.. يحلم وامتد به الحلم بأن رأى الأب يعطي كل واحد من عياله جنيهاً ذهبياً..  وهو يقول للأولاد: بوسوا إيد جدكم يا ولاد.. ليلته كلها قضاها في حلم العودة إلى الأب (المعلم ذكري) والأم والبنات الثلاثة (سوسن،فاتن، فوزية) والحلم يمتد.. ويمتد وهو يستسلم له طواعية استسلام حشرة لخيوط عنكبوت بعد أن وخذها بالمخدر.. استعدادا لإلتهامها..
>>>
جاء يوم الجمعة وعقب الصلاة خرج (المعلم ذكري) من المسجد متجهاً صوب المقهى وهو يتمتم فإذا به يجد محمود وحسن يمسكان بعضهما البعض ويقفان في انتظاره..
ينحي وجهه جانباً.. يدوران حوله يقول محمود: يا أبويا إنت سيد الناس وسيدنا قبل كل الناس.. عفا الله عما سلف ونرجَّع الميه لمجاريها.. حسن يا أبويا جاي النهاردة علشان يستسمحك ويبوس إيدك.. ويقولك حقك عليَّ لو كنت لسه زعلان.. إنت عرفت يا (معلم ذكري) إنه سمَّى ابنه (ذكري).. على اسمك يا آبا.. شايف أد إيه حسن بيحبك.. يا أبويا حسن أخونا الكبير.. ما نقدرش نستغنى عنه أبداً..
حسن يرتمي على يد الأب يقبلها.. ويقول له سامحني يا أبويا.. سامح...
يسحب (المعلم ذكري) يده من يد حسن ويقول له بصوت عال جدا وسط المقهى وأمام الناس: امشي اخرج بره يابن الكلب، وإياك رجلك تعتب هنا مرة تانية.. أنا حالف يمين طلاق.. عاوزني أطلق أمك؟!..
محمود: مايصحش كدة يا أبويا تفرج علينا الناس..
(المعلم ذكري): طظ فيك وفيه وفي الناس بتوعك ارتحت.. امشي بقى غور من وشي..
محمود: يا أبويا كفايا فضايح ونلم الشمل بقى..
حسن: حقك عليَّ يا أبويا..
(المعلم ذكري): أنا قلت كلمة واحدة ومش هرجع في حلفان الطلاق.. أنا خلاص قلت اللي عندي..
يمسك محمود ذراع أخيه الأكبر حسن ويسحبه برفق خارج المقهى.. وكان حسن لا يزال متعباً.. وما فعله الأب زاد ما عليه من علة.. سحبه أخوه برفق وكأنه يسحب خرقةً من قماش بالية.. كان مستسلما..
خرج الاثنان بعيداً عن أعين الناس.. ذهب محمود مع أخيه إلى بيته، وكان حسن تبدو عليه أمارات الإرهاق واليأس.. وكان قد سرى سم العنكبوت في الحشرة بأكملها.. نظر حسن إلى محمود وقال له بصوت واهن.. أنا خلاص يا محمود أنا عملت اللي عليه وزيادة قدَّام نفسي وقدَّام ربنا.. ما فاضلش ليه حد غيرك.. وصيتك العيال.. لو حصل لي أي حاجة ولادي أمانة في رقبتك..
محمود: بلاش الكلام ده.. هو إيه اللي حصل يعني.. يا أخي مصارين البطن بتتخانق.. واللي حصل ده ممكن يحصل بين أي أب وابنه.. ما تشيلش في نفسك أكتر من كده...
حسن: بس أنا عاتب عليك يا أخويا.. لما أنت مش متأكد من أبوك.. ليه بتاخدني وتحطني في الموقف ده وسط كل الناس اللي كانت في القهوة..
محمود: سامحني يا أخويا.. مكانش قصدي غير الخير..
حسن: أنا تعبان قوي دلوقتي.. وعاوز أنام واستريح.. أنا حاسس إني لو نمت مش هقوم إلا يوم القيامة..
قالها مداعباً أخاه محمود.. وابتسم ابتسامة خفيفة..
تركه محمود وخرج من الحجرة وقد قابل في طريقه  إحسان زوجة أخيه وكانت عائدة ومعها أولادها.. قالت له: أمَّال فين حسن؟
قال لها: هو نايم جوه.. لو عوزتي أي حاجة إنت عارفة تجبيني منين..
تركها وأخذ يخطو خطوات وئيدة قلقة على أخيه.. نزل على درج السلم درجة درجة وهو متوجس شيئاً ما مجهولا في نفسه.. وقبل أن يصل إلى نهاية الدرج كان ذلك الشيىء المجهول قد وقع إذ سمع  صراخاً وعويلاً شديدين من حجرة أخيه.. نظر إلى أعلى.. انطلق يعدو فوق الدرج سريعاً جداً..
وصل إلى الحجرة كانت أنفاسه سريعة وكأن صوت دقات قلبه صارت مسموعة.. وجد أمامه إحسان تصرخ وتقول له: أخوك مات يا محمود.. أخوك مات.. سابني أنا وولادي.. ما لناش حد.. خلاص البيت اتخرب.. قول لأبوك يا محمود إن خلاص حسن بيته اتخرب وساب إحسان.. لكن بردو مش هيرجع له مرة تانية.. حسن سابنا خلاص يا ولاد.. أبوكم مات.. أبوكم مات..
تسمَّرت قدما محمود في الأرض .. لم يستطع أن يبكي..  تحجرت الدموع في عينيه.. استبد به يقين أن سبب موت حسن هو أبوه (المعلم ذكري)..
لم يستطع وقتها إلا أن يفهم أن أباه قد ظلم أخاه ظلماً بيناً، وأذاقه النار على ذنب هو من وجهة نظره وحده ذنب، لكن في الحقيقة أن حسن تزوج ممن أحب وليس لأي مخلوق أي سلطان على القلوب.. نعم إنها مشيئة الله في أن يحب حسن إحسان ويتزوجها ويكونا هذه الأسرة البائسة بعد رحيل حسن.. ثم يعود ليقول في نفسه: كيف تكون بائسة وأنا محمود أخوه على قيد الحياة.. محمود ذكري هو حسن ذكري.. أولاده أولادي وزوجته صارت أمانة في عنقي.. لا يزال صوت حسن يتردد في أذنه.. وصوت إحسان وهى تعوي كالذئب يخيفه من لقاء أبيه وأمه وإخواته البنات.. كيف سيقول لهم إن حسن قد مات.. كيف تقع عين محمود على عين أبيه وهو يرى دماء حسن تتساقط من بين أصابعه.. وكانت عينا (المعلم ذكري) هى تماما عينا ابنه حسن متطابقتان في الشكل ونفس التحدب.. والنظرة الحادة.. لكن حسن كانت عيناه أرفق..!!
دخل  محمود حجرة أخيه حسن وأخذ يقبِّل أولاده وبناته.. ويقول لهم وهو لم تعد له القدرة على أن يحبس تلك الدموع التي أخذت تتساقط على رؤوسهم: متخافوش يا ولاد.. متخافوش..
هدَّأ محمود من وقع الصدمة بعض الشيء عن إحسان وأبنائها وأزاح عن كاهلها كل هم حينما قال لها: أكيد أبويا مش حيسيبكم ولحديكم.. أنا رايح له دلوقتي.. وحجيبوه معايا.. أكيد مش حيسيبكم أكيد..
كان يقول كلمة أكيد وهو على غير قوة اليقين التي يتحدث بها..
ترك محمود حجرة أخيه وذهب مسرعاً باكياً متوجساً ريبة من أبيه.. يتوقع أن ينهار ويسرع لانتشال أولاد حسن من ذلك البلاء الذي وقع على رؤوسهم.. (اليتم) ليس بعد اليتم بلاء يصاب به الأبناء في مقدمة الطريق..
فحينما يسقط الدليل تضيع القافلة..!!
استجمع كل قواه الواهنة، وذهب إلى المقهى فوجد أباه.. قال محمود وهو يقف على باب المقهى: حسن مات يا آبا.. حسن مات.. وقع الأب على أحد كراسي المقهى.. أسنده محمود وقال له: لازم يا أبويا نجيب ولاده في البيت.. ونروح بسرعة علشان نعمل اللازم ونشوف لزوم الجنازة..
قاطعه المعلم ذكري قائلا- بعد أن استجمع أعصابه وأدرك هيبته بين الناس-: أنا مش هروح في أي حتة.. وأدخل يده في جيبه مخرجاً منه  كمية من نقود ورقية قائلا له: خذ العشرة جنيه دي واعمل اللازم..
محمود: وإنت يا أبويا.. مش عاوز تشوف حسن قبل ما.. قبل ما يدفنوه..
المعلم ذكري: أنا حالف يمين طلاق من أمك إني مش همشي في جنازته لو مات..
محمود هالته الصدمة ولم يجد من حروف اللغة ما يقوله إلا (حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا آبا.. أنا من النهاردة لا هعتب لك القهوة ولا البيت.. وانسى إن ليك ولاد خالص..
المعلم ذكري: إنت بتقول إيه يا واد..
محمود: أنا مش واد.. أنا خلاص اتفطمت وبقيت راجل.. المرحوم حسن كل مشكلته معاك إنه بردوا كان اتفطم وانت مش واخد بالك.. خلاص يا أبويا.. اعمل اللي إنت عاوزه.. وولاد حسن بردوا مش عاوز تشوفهم..
المعلم ذكري: قصدك ولاد إحسان..
محمود وقد فطن إلى ما يرمي إليه المعلم ذكري من نية خبيثة: استغفر الله.. استغفر الله.. يا أبويا كفاياك ظلم لحسن ولاولاده.. حرام عليك.. حرام عليك..
تركه محمود وانطلق عائداً إلى بيت أخيه المسجَّى على سريره، وقد صعدت روحه إلى بارئها وأولاده وزوجته متجمعون حوله باكين رحيل الأب.. وإحسان تجلس على الأرض واضعة قبضتها أسفل صدغها الأيمن ودموعها تغالبها.. وقد لبست السواد.. بل عمَّ السواد جميع أرجاء البيت الصغير الذي يحتوي حجرة حسن فوق سطحه.. وعلا صوت القرآن الكريم من الراديو الذي كانت إحدي جيران إحسان قد أعطتها إياه مجاملةً منها وعزاءً..
رجع محمود وقد اتفق مع المغسِّل والمقرئ والتربي وكل شيء كان يسير على خير وجه..
إلا أن غياب (المعلم ذكري) كان له أثر كبير بين جموع المشيعين الذي أخذوا يتساءلون عنه ويترحمون على حسن.. وكان لغط بين المعزين: مش معقول ميجيش يحضر جنازة ابنه.. دا ابنه يا ناس.. لا لا مش معقول.. مش معقول..
دُفن حسن.. وعادت الناس إلى بيوتها هادئة.. ليس معهم إلا العبرة والعظة من رهبة الموت والخوف من وقوعه على أنفسهم أو أحبائهم.. وأعطى محمود بعضاً من النقود القليلة لإحسان وخرج وهو لا يعرف وجهته.. ولا أين سيكون مبيته هذه الليلة ولا الليالي المقبلة..
ساقته قدماه إلى وكره القديم الذي يجلس فيه مع بعض من أصدقائه بالقرب من مدفن السيدة نفيسة وسط المقابر حيث هدوء الأموات الآمنين تحت الأرض.. وسكر السكارى الحائرين فوق الأرض في الجلسات السريعة والدائرة المستديرة وفي مركزها (جُوْزَة) أو (شيشة) لزوم (التحشيش).. هناك الأوكار كثيرة.. ذهب إلى وكره.. جلس في ركن منزوٍ.. جاء أحد القائمين على المكان له بـ(الشيشة) التي يشربها.. نفث دخاناً كثيفاً في الهواء وأخذ يفكر.. ماذا يفعل حيال هذه المصيبة التي ألمت بأخيه وزوجته وأولاده.. ويعلو الدخان عبر الضوء الخافت متبدداً عبثاً في الهواء.. وعبثاً أفكاره تأخذ مسارها مع ذلك الدخان.. دخل عليه (المعلم صديق) أحد أصدقاء (المعلم ذكري) وعلى نفس شاكلته وهيئته.. بالإضافة إلى أنه من أحد الرواد الأساسين لهذا الوكر.. عزَّاه في وفاة أخيه.. ثم تركه مع أنفاسه المشتعلة بنار (الشيشة) وانصرف تجره قدماه نحو الدائرة المستديرة لينال نصيبه الوافر من الدخان الأزرق..
لم يدر بنفسه ولا بأنفاسه التي استبدلت الهواء بدخان (الشيشة) أنَّ الفجر قد اقترب موعده.. وتمر السويعات.. ولم يفق إلا على ارتفاع صوت المؤذن.. (الله أكبر.. الله أكبر) تملأ سكون المكان جلالاً ورهبةً.. ترك (الشيشة) وذهب إلى مسجد (السيدة نفيسة) وصلا هناك..  كانت دموعه قد غالبته..  وغرق عقله في بحر من الدموع على أخيه وأولاد أخيه.. فانزوى كفأر إلى جوار المقام ثم نام حتى الصباح...
استيقظ محمود.. فتَّح عينيه على المنادي يقول: الصلاة يا نايم.. الضهر يانايمين.. ويذب الذين يغطون في نوم عميق بمذبة صغيرة يمسكها بيده.. قام محمود وتوضأ ليصلي الظهر.. وخرج ماشياً بخطوات وئيدة تجره قدماه نحو وكر الأمس.. جلس وتناول الشيشة قبل كل شيء.. والجو كان خانقاً تساقطت حبات من عرقه مختلطة بدموعه على أخيه.
بدأ يفكر ماذا يفعل مع أبيه الذي تركه.. ومع أولاد أخيه الذين تركهم أبوهم.. ومع وظيفته الجديدة.. وموطنه الجديد الذي لابد أن يبحث عنه بسرعة حتى لا يتعرض للنوم مرة أخرى مع مجاذيب السيدة زينب أو السيدة نفسية.. ولا للمذبة التي توقظه عنوة..
هداه تفكيره -أخيراً- إلى أن يذهب لوالد إحسان ويطلب منه أن يبقى مع ابنته وأولاد أخيه.. قفز صوته من داخله ينهره: إزاي تطلب الطلب ده منه.. دا راجل صعب قوي.. لأ دوَّر عن حل تاني لمشكلة ولاد أخوك..
يقول في نفسه: أتجوز إحسان.. وأربي ولاد أخويا.. وأعيش معاهم في نفس الأوضة لحد ما أخرج بيهم إلى النور وتعلمهم وتهديهم إلى الطريق السليم في الحياة.. يرد صوته من داخله قائلا: طريق سليم؟ كنت مشيت فيه إنت.. ثم إزاي أكون أنا جوز الأم لولاد أخويا.. وإزاي أحل محل أخويا الكبير في بيته وهو لسه ميت.. استنى شوية.. يصرخ صوته من داخله: اهدأ وفكر كويس في أي شيء تاني غير الجواز من إحسان.. هى أكبر منك أولا.. وثانيا لا يعقل أن يتم هذا الزواج في الظروف دي تحديداً..
الحل الوحيد أن إحسان تروح بنفسها وتطلب من أبوها إنه يقعد معاها في الأوضة أو تروح هي والأولاد لبيته ويقعدوا هناك وأنا أساعدهم.. رد صوته من داخله: هو دا عين العقل..
قام من توه تاركاً شيشته وراء ظهره مولياً وجهته نحو حجرة (حسن) فوق السطح ووجد معزيات كثيرات يعزين إحسان.. لم يجد الوقت مناسباً للكلام.. لكنه صمَّم على أن (يقطع عرق ويسيَّح دم) ولابد أن يصل إلى ما هداه إليه تفكيره اليوم في هذه المسألة حتى يستطيع أن يحل بقية الألغاز..
حادثها فيما فكر.. قالت له على الفور: أبويا يا محمود راجل جدع ما استناش لما أنا أكلمه.. أول ما عرف بالخبر.. بعت لي أمي النهاردة.. وقالت لي إنه حيجي بالليل علشان يقف ياخد العزا بدل أبوه.. وبعدين حياخدنا نعيش معاه في البيت..
محمود: وأنا كل أول شهر حيكون  لكم نصيب من مرتبي..
إحسان: مرتبك؟
محمود: أصل أنا اشتغلت في الحكومة وربنا كرمني وتاب على من البهدلة بتاعة القهوة..
إحسان: ربنا معاك..
محمود: الله يخليكِ..
إحسان: طيب اعمل فيَّا معروف وشوف لي شغل أنا كمان في أي حتة..
محمود: شغل؟!!!
إحسان: أيوه شغل.. هو الشغل عيب.. أنا عاوزة أربي عيالي وأحاجي عليهم..
محمود: لا إنسي الموضوع ده.. أنا حديكيم كل اللي تطلبوه..
إحسان: إحسان يعني..
محمود: معاذ الله، ولاد حسن ولادي.. وإنت إختي.. إنت فاهمة..
إحسان: طيب ورحمة حسن يا شيخ لا انت شايف لي أيتها شغلانة.. حتي لو أخدم في البيوت وأكسب قوتي وقوت عيالي من عرق جبيني..
محمود: ربنا يسهل الحال.. ربنا يسهل الحال.. أنا حسيبك دلوقتي وأجي بالليل علشان ليه كلمتين مع أبوكي..
إحسان: خير يا محمود؟
محمود: إن شاء الله خير..
ترك محمود إحسان وردد فيه نفسه أنها (ست بمليون راجل)، عزيزة النفس.. تستحق كل تقدير وأن حسن أخوه عرف يختار الست صحيح اللي تشيل اسمه..
... عاد محمود في المساء.. ليلتقي بوالد إحسان وجلسا سوياً وتحادثا في شأن الأولاد وقال له محمود: يا عم أبو إحسان أنا حديك كل شهر اتنين جنيه مساعدة مني في تربية الأولاد.. واللي ربنا هيقدرني عليه هعمله..
أبو إحسان: يابني أنا إذا كان عليَّه مش عاوز حاجة.. بس إحنا ممكن ناخد من أبوك النفقة اللي تعيش ولاد ابنه من المحكمة..
محمود: محكمة إيه يا عم أبو إحسان؟
والد إحسان: أنا بقول يعني.. بس أنا عامل حساب العشرة القديمة اللي أبوك حتي ما راعاش حرمة الميت ولا حتى جه طل على ابنه الله يرحمه.. ومكلفش خاطره وسأل عن ولاد ابنه.. إيه كله عند الديان.. الله يرحمه أخوك كان راجل ولا كل الرجالة.. بس أنا يا بني راجل كبير وعجِّزت خلاص ويا دوب اللي جاي على أد اللي رايح..
محمود: خلاص يا عم أبو إحسان تلاتة جنيه كل شهر.. وربنا يبارك في القليل..
والد إحسان: على خيرة الله يا بني.. وربنا يساعدنا كلنا علشان خاطر العيال اليتامى دول.. الله يرحمك يا حسن..
>>>
يبدأ محمود يفكر في عمله الجديد وكيف أنه لابد أن يبدأ من الصباح في العمل وعليه أن يدبر المكان الجديد الذي يأويه بعد أن فارق أباه (المعلم ذكري) وقرر ألا يدخل  بيته ولا قهوته..
يفكر أن إحسان وأولادها قالوا إنهم سيذهبون إلى بيت والد إحسان للإقامة هناك.. وساعتها ستكون الحجرة خالية.. ماذا يحدث لو بقي هو فيها ساكن محل أخيه..
اتفق مع صاحب العقار على ذلك وكذلك وافقت إحسان وأبوها على هذا الاقتراح خصوصاً وأن هذا الموقع الجديد لمحمود يجعله قريبا من بيت إحسان مع أبيها وكذلك الأولاد..
أقام محمود في الحجرة بعد عدة ليالٍ قضاها في الوكر حتى تنتقل إحسان إلى بيت أبيها.. وذهب إلى عمله الجديد..
ومرَّ الشهر الأول.. ولم يمر يوم إلا وكان يذهب فيه إلى أبناء أخيه ليطمئن عليهم ويحاول جاهداً أن يعوضهم عن مرارة الإحساس باليتم، وتقاضى الجنيهات الثمانية راتبه الأول من عمله، فما كان منه إلا أن ذهب أول ما ذهب إلى  إحسان والأبناء وأعطى والد إحسان الثلاثة جنيهات الأولى في المشوار الطويل الذي لا يعلم أحد إلا الله متى ينتهي...
وفتَّش في قلبه عن شيء كان يراوغه.. فوجد فضولاً لمعرفة أخبار أبيه وأحوال البيت.. بعد أن مرَّ أكثر من شهر على الوفاة وتركه البيت..
ذهب على الفور.. ومن بعيد بعيد جداً رمق المقهى بعين مترقبة خوفاً من أن يره أحد.. فوجد بابها موصداً.. اقترب.. اقترب برفق.. تلقاه جيران أبيه حول المقهى.. الكل عزَّاه في أخيه.. بعد أن رحبوا به ترحيباً عظيماً..
سأل بلهفة عن حال أبيه.. فقال له أحد الواقفين: سلامة الشوف يا سي محمود إنت مش شايف الشمع الأحمر اللي على القفل..
محمود: شمع أحمر؟
أحد الواقفين: أيوه شمع أحمر.. واحد ابن حرام دخل القهوة على أبوك وكان معاه حتة حشيش.. وغفِّل الكل وحط الحشيش في المعسل.. وفاحت الريحة.. وإحنا لسه بنسأل منين الريحة دي.. لاقينا الحكومة دخلت على أبوك وحرَّزت الشيشة وقبضت على أبوك وعلى الراجل اللي كان قاعد بيشرب الحشيش والحكومة شمَّعت القهوة لحد ما التحقيق يخلص..
محمود -في نفسه-: يمهل ولا يهمل..
دار بخلده ماذا يفعل؟ هل يذهب إلى أبيه في  قسم السيدة زينب؟ أم يذهب أولا إلى البيت ليرى أحواله وأحوال الأم والبنات..
لم يفكر طويلاً إذ ساقته قدماه نحو قسم البوليس.. وطلب أن يقابل أباه.. فلما علموا أن أباه هو (المعلم ذكري)  رفض الضابط هذا الطلب.. وقال له: بكرة هيروح النيابة وهناك تقدر تشوفه.. هنا تحقيق وبس.. امشي  شوف حالك بقي ومتعطلناش يا افندي..
خرج مطأطأ الرأس وعلى درج القسم التقى بأحد المخبرين الذين كان (المعلم ذكري) يجلس معهم في جلسات (الدائرة المستديرة) اقترب منه المخبر وهمس في أذنه.. هات جنيه يا محمود وأنا أدخَّل لأبوك الأكل والشرب والمزاج كمان..
محمود: أنت متأكد أنك هتعمل كده؟
قال له بثقة بالغة: علىَّ الطلاق يا محمود إن القسم دا كله في جيبي الصغير.. عيب يا أخي على الكام سنة خدمة في الحكومة.. وإن ما كانش البيه الظابط بنفسه هو اللي عمل المحضر أبوك ما كانش بات ولا ليلة في الحبس..
أعطاه محمود الجنيه بلا تردد وتركه وانصرف...
ذهب إلى البيت.. ولا يزال في جيبه الأربعة جنيهات المتبقية من راتبه.. دق على الباب.. فإذا بأمه تفتح  وتتفحصه ثم ترتمي بين ذراعيه وتقول له: هو إحنا كنا ناقصين إنك تسيبنا إنت كمان يا محمود.. دا انت اللي فاضل.. تبكي وتقول: عرفت اللي حصل لأبوك؟
محمود: عرفت يا أمَّا..
الأم: وإيه اللي هنعمله؟
محمود: حشوف له محامي كبير يكون معاه..
الأم: ومنين حنجيب أجرة المحامي الكبير؟
محمود: خليها على الله.. تفرج بإذنه..
الأم: عرفت إن حل الإشكال ده عند الواد اللي ماسكينه  لو قال إن أبوك مالهوش دعوة بأي حاجة وإنه هو اللي كان جايب الحشيش حيسيبوا أبوك..
محمود: مين اللي قال لك كده؟
الأم: كل الناس اللي جم واسوني وخدوا بخاطري..
محمود: اللي يعمله ربنا يكون بقى..
الأم: المهم إنت معاك فلوس ولا لأ.. أنا سمعت إنك اشتغلت في الحكومة وبقيت كسِّيب أحسن ألف مرة من شغل القهوة..
محمود: أنا عنيا ليكي يا أما..
الأم: وإخواتك البنات.. ما لهمش حد غيرك بعد ربنا.. وأبوك ربنا يفك ضيقته..
محمود: قولي يا رب..
الأم: يا رب يا ابني.. يارب
محمود: البنات ازيهم؟
الأم: ولا على بالهم أي حاجة.. مش عارفة جايبين القسوة دي كلها منين؟
محمود: ربنا يمهل ولا يهمل يا أما..
>>>
تحولت أوراق القضية إلى النيابة.. وذهب (المعلم ذكري) وبيده الحديد (الكلابشات) وسط المجرمين من لصوص وقتلة..
وحبسه وكيل النيابة (ثلاثين يوما) على ذمة القضية.. والقهوة لا تزال مغلقة بالشمع الأحمر.. والبيت لا يوجد به أية نقود.. فكان (المعلم ذكري) يعمل بالقول القائل (اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب).. محمود ينفق من الأربعة جنيهات طوال الشهر..  ينفق بالكاد.. نسى في غمرة الأحداث أن يسأل على أبناء أخيه حسن.. وتقلَّص المبلغ من ثلاثة جنيهات إلى اثنين.. لأن النيابة جددت الحبس على ذمة القضية.. وذاق خلالها (المعلم ذكري) مراراً ليس بعده مرار.. ولأول مرة يذوق طعم الظلم.. وهو مقيد بالأغلال بين يديه.. ويعامل على كونه مجرماً بل تاجر مخدرات..
 ضاعت هيبة (المعلم ذكري) بين عساكر القسم والنيابة وحتى بين المتهمين بعد أن صفعه الضابط على وجهه صفعة قوية ارتج لها بهو القسم وتركت آثارها على وجهه.. محددة بأصابع الضابط على خده المضروب.. لم يرفع بعدها نظره في أحد لأن هذه اللطمة خلَّفت له عاراً لايمكن مسحه أبداً، وإن كان من المتعارف عليه بين المجرمين بأن (ضرب الحاكم مش عيب).. هذا ما قاله له بعض مجاوريه في السجن..
>>>
احتال محمود بالبحث عن المخبر الذي أخذ منه الجنيه على أن يُدخل لأبيه الأكل والشرب والمزاج.. حتى عثر عليه يدخن الحيشيش في دائرة الوكر المستديرة.. تفاوض معه في شأن الشخص الذي هو أساس القضية..
 قال له محمود: شوف لك طريقة ويَّاه.. أنا عاوز أعرف هو ليه عمل كدة في أبويا.. المهم إنه يبرىء أبويا.. وأنا عنيا الاتنين ليك..
المخبر: أنا مش عاوز عنيك يا خفيف.. أنا عاوز ورقة بخمسة.. خمسة جنيه ماتنقصشي مليم.. وسيب الباقي على العبد لله.. وعليَّ الطلاق لمطلع لك البلا الأزرق على جتة الواد ابن الكلب ده..
محمود: أنا موافق بس حتاخدهم على شهرين..
المخبر: أنا موافق النص مقدم والباقي بعد ما يخرج أبوك من الحبس..
تركه المخبر وانصرف وهو يدبر ما سيفعله مع الرجل المأجور لأجله.. دخل عليه محبسه.. ونادي عليه بصوت غليظ ومخيف.. انتفض المتهم.. قال له المخبر: تعالى هنا يا واد..
اقترب الرجل منه وبمجرد أن اقترب منه حتي فاجأه بضربة قوية في بطنه وأخري في فكه.. ثم أمسك بياقة القميص المتسخة الذي كان يرتديه وقال له : إنت عارف لو ما قلتش الحقيقة واعترفت إن (المعلم ذكري) بريء وملهوش دعوة بأي حاجة حاموتك.. إنت فاهم.. حموتك..
وفي الصباح اعترف بأنه كان يدخن الحشيش دون علمه.. أمرت النيابة على الفور بإخلاء سبيل (المعلم ذكري)  ما يكن محبوساً على ذمة قضايا أخرى... وكذلك صرحت بفتح المقهى بعد ثبوت عدم إدانتها هى الأخرى..
>>>
اضطرت إحسان إلى العمل في البيوت.. خادمة.. غسَّالة.. أي عمل يدر عليها المال مهما كلفها ذلك من تعب أو مشقة وكان أبوها المسن يجلس يراعي الأولاد حيناً ويخرج هو للعمل البسيط حينا آخر..
>>>
عاد (المعلم ذكري) إلى بيته ولم يلقاه الناس لا بالفرح ولا بالتهاني إذ كان الجميع يردد همسا.. ربك كبير يمهل ولا يهمل..
شوف الدنيا.. في نفس الأسبوع اللي مات فيه ابنه وماحضرش الجنازة.. صحيح إن ربك لبالمرصاد..
 كانت أنوف الناس تشتم ندماً من (المعلم ذكري) إذ بدا عليه الوهن والإحساس بالانكسار من أيام قضاها خلف القضبان.. كانت مرارتها تغص في حلقه.. وتبدو واضحة على ملامحه الحزينة.. وعمامته المفكوكة على كتفه.. وجلبابه المتسخ من آثار السجن..
لا يزال محمود يفكر في عمله وفي حال المقهى بعد تقاعد أبيه وكيف ينفق على أبيه وأمه وإخواته البنات وأولاد حسن (اليتامى)..
كل الأحداث تقف أمامه حجر عثرة دون الوصول إلى ما يصبو إليه.. عمله في الحكومة والتخلص من (مرمتة القهوة)..
وحتى المقهى -أيضا- بعد أن ساءت سمعتها بسبب إغلاقها بالشمع الأحمر لا يستطيع أن يفتحها بسهولة ويستقطب الرواد من جديد، وزاد على السبب الحقيقي أسباب وأسباب من صنع خيال الناس الخصب في مثل هذه الحالات..
كان محمود محملاً بأفكار شتى تجاه أبناء أخيه وأبيه وأمه وإخواته البنات.. ونسى نفسه في غمار هذه الأحداث وهذه المسئوليات... ولكن في وسط هذا الخضم الهائل لم يعد لإحد سلطان عليه يثنيه عن عمله الحكومي.. والجنيهات الثمانية المضمونة كل أول شهر.. لكن الفرحة لم تكتمل والهلال أبداً لن يستحيل بدراً.. إذ كانت أخبار والده وسجنه لمدة شهر في قضية مخدرات قد وصلت إلى عمله.. وكان الزملاء يتغامزون ويهمسون فيما بينهم.. وأبلغت العيون المتجسسة الرؤساء الذين راق لهم أن يترك محمود الوظيفة ويلغى قرار عمله..
انهارت كل الأمنيات فجأة وتهدم المعبد فوق رأسه فتلاحقت المصائب وكأن الأسرة بأسرها تكفِّر عن ذنوب ارتكبتها وذنوب أخري لم ترتكبها.. فكل المصائب تحيط بمحمود.. و(المعلم ذكري) لا يزال طريح الفراش.. ولا يعلم أحد أنه قد ترك العمل بالفعل.. وعاد أدراجه.. وكأنه قد كتب على جميع (آل ذكري) أن يعيشوا في المقهى ويموتوا فيها أيضا أو بسببها..
كان سيد.. ثم حسن الذي فرَّ.. وترى من عليه الدور لكي يدفع ثمن شيء غامض لا يعرفه أحد.. (لكن على كل الأحوال لابد أن نكون راضين.. المهم الرضا بكل شيء) جملة كان يقولها رجل ممن يرتادون المقهى أمام محمود.. فكانت هذه الكلمات بلسما يطيب جراحه..
عاد محمود مجرجراً أذيال الهزيمة وراءه.. وهو لا يدري ماذا يفعل والمقهى مغلقة.. وراتبه قد انقطع.. و(المعلم ذكري) طريح الفراش.. والأم والإخوات البنات.. وأولاد حسن... شعر بدوار شديد.. قرر أن يحج إلى قبلته التي اعتاد أن يذهب إليها في مثل هذه الأحوال ليخلو إلى نفسه.. ذلك الوكر الكائن بالقرب من مسجد السيدة نفيسة.. سلك شارع السد سيراً على الأقدام حتى آخره ثم سار يساراً ثم يميناً فبدت مأذنة المسجد أمامه تطاول عنان السماء وكأنها تريد أن تقبِّلها.. وتشق سواد الليل بأنوارها.. سلك مسلكه نحو الوكر.. جلس على مقربة من بابه المتكسر.. جاءت (الشيشة) فوراً.. وزجاجة بيرة.. وقليل من الترمس.. نظر إلى ما حوله وقبل أن يفكر في أنه لا يملك مالاً لكل هذا.. هو يريد فقط (الشيشة) همَّ بالوقوف لينادي على صبي الوكر.. لكنه سمع صوتاً ينادي: محمود.. مية مسا يا راجل.. إنت فين؟
كان الصوت آتيا من ظلام ليس دامساً لكنه لا يستطيع من خلاله لا تمييز الصوت ولا رؤية ملامح المنادي صاحب (التماسي) والطلبات التي أوتيت له..
خرج من الظلام شبح إنسان يقترب منه.. يحاول أن يميز ملامح هذا الشبح حتى اقترب أكثر فإذا به ذلك (المعلم صديق) سلَّم عليه وحيَّاه قائلا: إزيك يا محمود؟
قال: عم صديق..
صديق: أيوه يا أخويا.. عمك صديق.. يعني كنت سألت..
محمود: أسأل..؟ هو مين فينا اللي يسأل على التاني..؟ إنت عرفت إيه اللي حصل لأبويا؟
صديق: سمعت طراطيش كلام من هنا ومن هناك.. لكن الحقيقة كل اللي فهمته إن ولاد الحرام كتير.. معلش يا ابني.. اقعد واحكي لي عايشين إزاي دلوقتي؟ وإزي أبوك (المعلم ذكري)؟
محمود يرفع زجاجة البيرة ويصب منها في الكوب الممتلئ حتى المنتصف ثلجاً ويحتسيها بشراهة ويقول وهو يبلع: أبويا خلاص يا عم صديق.. راقد في السرير ما بيقمش.. وأنا اترفت النهارده من الشغل اللي كنت باحلم بيه طول حياتي..
صديق: اسمع يا بني.. أنا عندي ليك حل لكل المشاكل اللي حواليك دي كلها.. اسمع أنا لي أصحاب من دول عربية كتير قوي.. ليِّه منهم اتنين جايين الأسبوع اللي جاي وعاوزين يتجوزوا من مصر.. ويخدوا مراتاتهم ويسافروا تاني بسرعة ومستعدين يدفعوا كل اللي انتم عاوزينه.. دي فرصة!!
محمود ينتفض واقفاً: إيه يا عم صديق نبيع بناتنا علشان ظروفنا صعبة..
صديق: بيع إيه لا سمح الله.. دا جواز على سنة الله ورسوله.. والناس على ضمانتي أنا.. وانت لو ما تعرفنيش إسأل عليَّه أبوك يقولك مين هو (المعلم صديق).. الجواز دا حيصلَّح حاجات  كتير قوي في حياتكم.. دول ناس أغنيا قوي..
محمود: أنا مش موافق..
صديق: فكَّر قبل ما تقول رأيك.. وكمان شُور على أبوك وشوف حيقلك إيه، وأنا بكرة زي دلوقتي حكون هنا  حستناك.. سلام بقى دلوقتي علشان معايا ضيوف.. ومتحاسبش.. الحساب خلاص اندفع..
محمود: يدوم  يا عم صديق.. قالها بنبرة شجن تحمل كل ما يفكر فيه في لحظته..
>>>
تتزوج البنتان من عرب نازحين للزواج ثم العودة مرة أخري تاركتين أبيهما وأمهما.. البنات اللي ماليين البيت على أمي وأبويا يسيبوهم ويسافروا.. ليه لأ..؟ دا جواز على سنة الله ورسوله.. ومفيش فيه أي عيب.. ثم إن حملهم حيخف من فوق كتافي.. لا يمكن إني أبيع إخواتي.. أنا حقول لأبويا وهو صاحب الكلمة والرأي في الموضوع ده.
عرض الأمر كله على أبيه المريض.. فتهللت أساريره غير مصدِّق بأن جميع أزماته قد وجد لها حلاً.. وبدت عليه ملامح من وجد(الفانوس السحري) وماعليه هو فقط إلا أن يلمسه برفق حتى يخرج له العفريت ليقول له شبيك لبيك عبدك ملك إديك.. وقال لمحمود: صديق يا ابني هو اللي قالك على ضمانتي..
محمود: أيوه يا آبا.. وقاللي إنه حيكون موجود بكرة في نفس المكان اللي قابلته فيه النهاردة..
(المعلم ذكري): خلاص يا ابني.. روح له في المعاد اللي انت متفق معاه عليه.. وقله إن أنا موافق.. ويحدد المعاد اللي الناس بتوعه دول حيكونوا في زيارتنا علشان نستعد..
تهللت أسارير (المعلم ذكري) وفرح بالمال الذي سيهبط عليه من السماء بالإضافة إلى زواج البنات..
اتفق محمود مع صديق على الموعد الذي سيأتي فيه الرجال العرب لطلب أيدي البنتين.. على شرط الحلاوة..
محمود: الحلاوة؟
صديق: أيوه يا ابني.. الناس دي بتتجوز بفلوسها.. وإنت عارف بقي الباقي..
وتزوج البنتان من العربيين قبل مرور عام واحد على وفاة حسن.. حتى حينما يلوح أحد عن كلام الناس تقول الأم: الميت بتاعنا والفرح بتاعنا ومحدش له علينا ملام..  وسافر العرسان تاركين مالاً وفيراً للأب والأم..
 أما محمو د فلم يكن له نصيب في حساباتيهما.. ونسيتا ما قدمت يداه لهما..
 
الفصل الثامن
 
تذكر محمود أبناء أخيه حسن.. وتذكر أىضا كيف أنه صار عديم الإحساس بأبناء أخيه (اليتامى).. استجمع قواه وماله واشتري الكثير من الحلوى والفاكهة والطعام وذهب إليهم في منزل جدهم لأمهم.. لم يجد إلا الأب المسن وحيداً بالبيت المتهالك مثله تماماً.. سأله عن إحسان والأولاد.. أخبره بأنهم جميعا خرجوا للعمل.. لم يتعجب محمود من كون أطفال أخيه يعملون وهم صغار.. فالكل نسيهم.. حتى هو أيضا (عمهم) الوحيد.. طأطأ رأسه وقال لجدهم: أنا جايب لهم الحاجات دي..
الجد: ربنا يقدرك يا بني..
محمود: أنا ماشي بقي وسلم عليهم وأي حاجة تعوزوها ابعت لي على طول..
الجد: كتَّر الله خيرك يا ابني..
تركه محمود وانصرف.. عازماً على إعادة فتح المقهى  وإدارتها بأسلوب جديد غير أسلوب الأب القديم فلقد تغيَّر الزمن وتغيرت الأحداث، وقال لنفسه: لقد أصبحنا الآن عام 1960 والدنيا كلها اتغيرت حتى الناس كمان ولازم نتغير إحنا كمان مع الزمن..
أخذ محمود من أبيه بعضاً من المال الذي تركه الرجال العرب الذين تزوجوا من إختيه.. وذهب واشترى ما يلزم المقهي.. وقام بطلائها.. الكراسي والفناجين و(الشيش) وكل شيء صار له بريق أخَّاذ بالعيون..
افتتح المقهى.. ودعا إلى الافتتاح كل الجيران والكبار والصغار ليشاركونه هذا الافتتاح.. وكان افتتاحاً رائعاً مليئاً بالأنوار والزينات والمقهى كان مزدحما بالزبائن والمهنئين..
ذهب إلى أبناء أخيه حسن ليكونوا معه في المقهى.. وقفت الأم وقفة شديدة وقالت له: لأ يا محمود.. ولادي مش حيشتغلوا في القهوة دي طول ما أنا عايشة.. يشتغلوا أي حاجة ولا يدخلوش القهوة دي برجليهم..
تعجب محمود من قولها وقال: ليه يا إحسان؟
إحسان: القهوة دي اللي انطرد منها أبوهم ومات بسببها.. ولادي مش عاوزين حاجة منها خلينا بعيد أحسن.. أما أنت فربنا يستر عليك..
ما معني كلام إحسان.. إنه يحمل أشياء غريبة أول مرة أسمعها.. وأحس بيها لازم هي عرفت حاجة بخصوص القهوة وأنا ما أعرفهاش.. لازم أدور وأفتش عن الحقيقة..
كانت جملة لأحد رواد المقهى يسمعها منه منذ سنوات وسنوات تهز كيانه (الإنسان أصله لص).. ولمَّا كان يعترض أحد.. يقول له ليه يا أخي مش سيدنا آدم سرق التفاحة من الشجرة.. وأكلها هو وستنا حوا.. دارون قال الإنسان أصله قرد وأنا بقول لأ.. الإنسان أصله لص.. في هذا اليوم لمَّا ذهب إلى المقهى.. وجد نفس الشخص يجلس بين أصحابه ويردد (الإنسان أصله لص) صدقوني.. يقولها وعيناه تلمع وكأن به مس من الجنون.. ولا أحد يقوي على أن يثنيه للكف عن ترديد هذه الجملة..
لا يعرف محمود لماذا اليوم بالذات جلس ليستمع إلى كلام ذلك الرجل.. وهو يكرر جملته التي يرددها منذ سنوات..
شعر إحساساً غريباً.. ذهب إلى أبيه وقرر أن يسأله ويعرف منه لماذا كل ما حدث له ولإخوته من قبل حسن وسيد.. دخل محمود على الرجل المريض حجرته وهو راقد في فراشه وقال له: يا أبا إنت مش شايف إن اللي حصلنا في السنين اللي فاتت دي كان حاجة غريبة.. إخواتي الاتنين يموتوا بالشكل ده.. وأنا اترفد من شغلي.. وإنت يا آبا يحصلك اللي حصل.. لا يا آبا إنت أكيد مخبي عليَّه حاجة..
(المعلم ذكري): حاجة إيه يا واد.. إنت جاي بتحاسبني  وسايب القهوة.. مالك يابني احرسه بنفسك ومتسيبهوش لغيرك يحرسهولك.. وطلَّع الأفكار دي من راسك.. شوف يا بني أكل عيشك أحسن لنا كلنا..
محمود: حاضر يا آبا..
ولا تزال رحى الأيام تدور..
ويمر الزمن وأبناء حسن وإحسان يكبرون ويعملون والأم تعمل.. لم يتعلم (ذكري) وإنما أدخل إخوته الباقون المدارس وهو قام بدور الأب الغائب فأنفق عليهم.. ولم يكونوا له منكرين ذلك ولم يتهاونوا في الحصول على شهاداتهم.
 كان الذكور منهم يذاكر على ضوء مصابيح الشوارع، وفي المسجد الزينبي على الأضواء هناك.. يحبون عمهم محمود لأنه الوحيد من أهل الأب (حسن) الذي يعطف عليهم ويقدم لهم يد العون ولم ينسهم في غمرة الظروف المؤلمة التي ألمت به.. وكانت إحسان تردد دائماً لأبيها: إلا محمود هو الوحيد اللي عامل حساب لعضم التربة.. وصاين العيش والملح.. الله ينور له طريقه..
لم يقرر الزمان بعد أن يصفو لأحد من (آل ذكري) إذ وقعت نكسة يونيو عام1967 وغصت المرارة بحلق ليس فقط ملايين المصريين وإنما غصَّت بحلوق العالم العربي بأسره إذ سُرقت الأرض.. وسالت دماء المصريين في رمال سيناء..
ذهب (ذكري) إلى الحرب وباقي إخوته هم الذين فقدوا مورد رزقهم.. تقدم محمود إليهم وقدَّم لهم كلَّ ما يحتاجون..
عامان مرَّا ولا أحد يعرف ما أحوال (ذكري) في الجيش.. هل استشهد.. هل جُرح.. ألف هل تصحن رأس الأم المسكينة إحسان.. ولا يزال أخوة ذكري يذاكرون ويجدون ويجتهدون ومنهم من يعمل نهاراً ويذاكر ليلاً.. والكل في انتظار أي أخبار عن الأخ الغائب (ذكرى).. ولا شيء يأتي رغم طول الانتظار..
 
ولا تزال رحى الأيام تدور..
العام 1969 وأخبار إختي محمود تأتي في أوقاتها المعتادة.. ولكن هذا العام بأكمله كانت الأخبار متقطعة وغير مطمئنة فى آن..  علمت الأم أنهما لم تنجبا من الزوجين العربيين طوال هذه السنوات.
 ولا تأتي إلا الأموال إلى (المعلم ذكري) من زوجى ابنتيه.. فقد كان الرجلان لا يستطيعان الإنجاب.. و(المعلم ذكري) يعلم ذلك من قبل الزواج إلا أنها آثر أن يخفي على الجميع عقم الرجلين لينال البركات..
 سنوات طويلة في انتظار الفرج..  والفرج لا يأتي لا بالعيال ولا بأي شيء آخر.. ذهبوا لأكبر أطباء المشرق.. ولكن مشيئة الله غلبت على مشيئة الخلق..
وأمام إصرار الزوجتين على الإنجاب وحث رجليهما على البحث والعلاج.. شعر كل من الرجلين بإنكسار شديد أمام زوجته.. فاجتمع الأخوان معاً.. وقررا طلاقهما معاً.. وإرسالهما إلى موطنهما والبحث عن أخريات يجددا بهما حلاوة الفراش..
كانت الأخبار الأخيرة لهما هى عودتهما من السفر محملتين بأموال كثيرة، أنفقتاها سوياً على ملذات غير ذات فائدة..
 لم يفكِّرا لحظة واحدة في إنفاق هذا المال على أبيهما المريض.. وإنما قالتا في نَفَسٍ واحد: أبونا يتعالج من القهوة اللي محمود مستولي عليها السنين دي كلها.. هو اللي يشيل أبوه.. هو الراجل..
وكعادة الأم من قديم نصرت بناتها على محمود.. ولم يكن هو متضرر من هذا بل العكس كان عند قدمي أبيه.. يلبي احتياجاته.. حتى هو الذي يدخل معه لقضاء حاجته.. وما شابه.. والأب يدعو له ليلا ونهارا: روح يا ابني الله يسهلك.. إلا أن شيئاً ما كان يقض على محمود  مضجعه ليلا.. ويتساءل مع نفسه: منين جت القسوة دي اللي في قلوب إخواتي البنات.. أبويا عمره ما منع عنهم أي حاجة.. لمَّا يقع ويحتاج لهم يعملوا كدة..
قرر محمود أن يتحدث إلى أبيه ويعرف لماذا يجنى (المعلم ذكري) هذه الثمرة الخبيثة من زرع عمره بأكمله..
كان (المعلم ذكري) يغالب المرض.. هرع إليه محمود وقال له: يا آبا إنت بين ادين رب كريم.. وحياة كل اللي بتحيهم يا آبا لتقولي فيه إيه.. ليه حصل كل ده لنا من زمان.. لو فيه سر في حياتك قلي عليه يا آبا.. ليه بناتك بتعمل كدة.. ليه يا آبا..
(المعلم ذكري) تغالبه دموع لا يستطيع دفعها.. تحدث محمود إلى جواره قائلا: يا آبا إنت مش محتاج إني أفكرك بسيد اللي مات محروق في القهوة، ولا بحسن اللي إنت طردته وكسرت نفسه قدام الناس كلها.. ولا حفكرك إنك ما حضرتش جنازته ولا فكرت في عياله يوم واحد.. ولا حفكرك بحبسك في قضية المخدرات ولاحتى إنك بعت بناتك لناس ما تعرفهمش.. ولا حفكرك إن بناتك دلوقتي مش عاوزين يصرفوا عليك مليم واحد.. مش حفكرك بأي حاجة من دي ولا هحاسبك.. بس عاوز أقولك حاجة واحدة بس.. إن ربنا اسمه العدل.. أكيد إنت يا آبا عملت حاجة في حياتك وبتكفر عنها.. ويا ريتك بتكفر عنها لوحدك، دا إحنا كلنا بنكفَّر عنها معاك.. يا آبا قل لي فضفض لي يمكن أقدر أخفف عنك حملك.. يا آبا أنا لأول مرة أشوف (المعلم ذكري) بيعيط ليه يا آبا؟.. ليه؟!!
خارت قوى (المعلم ذكري) ولم يجد بداً بعد أن وجد أن الدنيا قد صغر حجمها في عينيه ولم يعد لها قيمة وبعدما مات من مات وسافر من سافر وعاد من عاد.. قال (المعلم ذكري): أنا حقلك يا ابني.. علشان أخلص ذمتي أدامك يمكن ربنا يسامحني على اللي عملته..
محمود: قول يا آبا.. إيه اللي عملته؟
(المعلم ذكري) يلتقط أنفاسه بصعوبة ويتهيأ لأن يدفع جبلاً جاثماً فوق صدره.. وأخيراً يقول: إنت عارف يا محمود القهوة بتاعتنا دي قبل ما تبقي قهوة كانت إيه؟.. أنا عارف إنك ما توعاش على الفترة دي.. القهوة دي كانت محل واحد اسمه فريد الساعاتي شامي هوه.. كان فريد صاحب المحل ده بيشتغل فيه ويصلَّح ساعات، وكان صاحبي.. وكنت أنا قبل القهوة دي مش لاقي آكل.. صعبت علىه فشغلني معاه في المحل.. وكلنا عيش وملح سوا.. لكن الشيطان وسوس لي وقالي إن المحل ده لو بقى قهوة تبقى حاجة تانية.. خصوصاً إن أنا أفهم في الكار ده كويس قوي، عرضت الموضوع على فريد.. فزعق وقالي انسى الموضوع ده وإلا تسيبني في حالي وتسيب المحل.. فكَّرت أنا بيني وبين نفسي أسيب المحل إزاي.. وأروح فين.. فريد ما دام قال كده يبقي ناوي لي على نية سودة، وما يبقاش له أمان بعد كدة.. لازم أتغدي بيه قبل ما هو يتعشَّي بيه..
وزي كل يوم كنا نمشي فيه مع بعض.. كنت بوصله لحد المدبح.. كان ساكن هناك.. ونعدي على الترب اللي هناك.. كانت السكة دي مقطوعة وما فيهاش صريخ ابن يومين.. كان قلبه خفيف شوية.. بيخاف يعدي من الطريق ده لوحده.. علشان كده كنت بروح معاه.. وأرجع أنا من هناك على البيت على طول.. وكل يوم كان حلمي بالقهوة بيكبر في دماغي لحد ما جه الوقت اللي نويت فيه إني أخلص من فريد علشان آخد المحل لوحدي.. واعمل القهوة اللي نفسي اعملها، وفي يوم كنا ماشيين نواحي الترب وضربته على راسه لحد ما مات.. فتحت تربة من الترب المهجورة ورميته فيها بعدما خدت من جيبه كل حاجة تدل على شخصيته.. وما رحتش المكان ده لحد النهاردة من يومها.. واستوليت على المحل.. وعملت القهوة.. وكان اللي كان.. وكل الناس اللي يعرفوه فاهمين لحد النهاردة إنه رجع بلده في الشام.. لكن الحقيقة إنِّي.. إنِّي قتلته..
محمود: مش معقول اللي باسمعه ده يا آبا.. إنت ممكن تعمل أي حاجة، لكن تقتل.. لا مش غريبة.. القلب اللي اتملى قسوة ناحية ولاده يقدر يعمل أي حاجة في الدنيا..
(المعلم ذكري): يا ابني أنا خلاص.. بيني وبين الموت خطوة واحدة.. وصارحتك بكل حاجة علشان تفهم أصل الفلوس اللي منها القهوة دي إيه.. حبيت تكمِّل.. كمِّل.. حبيت تمشي امشي.. الرأي رأيك إنت لوحدك..
محمود: رأى إيه.. وإنت خليت ليه رأي.. أكيد حامشي.. بس امشي إزاي.. وتعبي وشقاي فيها.. كل ده يروح هدر.. لأ مش حمشي دي مشكلتك إنت.. ثم أنا إذا مشيت.. حمشي أروح فين؟ وحسيب القهوة لمين؟ فريد بتقول مات.. وما تعرفلوش أهل.. يبقى أسيب القهوة دي لمين؟
(المعلم ذكري): اعمل اللي يريحك يا ابني.. أنا مش حقولك أكتر من كدة.. لكن أوعى من المال الحرام..
محمود: بتقول كده دلوقتي.. بعد كل اللي حصلنا ده.. إنت فاكر يا آبا.. مش محتاج أفكرك باللي راحوا..
(المعلم ذكري): اللي راح راح.. بص لبكرة علشان خاطر نفسك وأمك وإخواتك..
محمود: أبص لنفسي.. يمكن دي الحاجة الوحيدة اللي مش هقدر اعملها.. إني أبص لنفسي.. لإني مكسوف منك ومن نفسي ومن كل حاجة حوالية..
(المعلم ذكري): أمك وإخواتك لسه محتاجين لك.. وماتنساش ولاد أخوك كمان حسن..
محمود: ياه .. حسن.. إنت لسه فاكر حد اسمه حسن
(المعلم ذكري): يا ابني أنا بردوا بني آدم..
محمود: لأ.. إنت لا يمكن تكون بني آدم.. الحيوانات ما بيعملوش في بعضيهم كده.. دي القطة بتعدي بولادها من فوق سبع بيوت وإنت.. إنت يا آبا ما عديتش بحد خطوة واحدة..
(المعلم ذكري): الله يسامحك..
محمود: الله.. حاجة حلوة قوي.. دلوقتي بس افتكرت ربنا.. افتكرت إن فيه رب قادر على كل ظالم.. عرفت دلوقتي بس تنطق اسم ربنا.. لمَّا وقعت وحاسيت إن مقابلتك معاه قربت افتكرته.. يآه على الإنسان ده..
(المعلم ذكري): أنا تبت إلى الله خلاص.. وربنا بيقبل التوبة.. يارب يقبلها مني.. ادعي لي يا محمود..
ينظر محمود إليه نظرة حائرة ثم يتركه وينطلق خارجاً متوجهاً نحو وكره القديم الذي اعتادت قدماه أن تسوق  سوقاً إليه بوعي أو بغير وعي.. جلس ونفث دخان (الشيشة) من كلتا رئتيه.. وظل يتعاطى الدخان حتى الساعات الأولى في الصباح..
>>>
مع أول خيط من نور الصبح يذهب إلى إحسان وأولاد أخيه قبل خروجهم للعمل مبكرين.. ليصرَّ هذه المرة على أن  يأتي أحد أولاد حسن للعمل في المقهى ظناً منه أن هذا هو جزء من التكفير عن ذنوب (المعلم ذكري).. وكالعادة ترفض إحسان هذا الطلب، ويوافقها أولادها مرة أخرى على الرفض.. مرات ومرات  يكرر محمود المحاولة وبنفس المرات  يكون الرفض.. فقد كان الخوف من المصير الذي لاقاه كل من سيد وحسن وحتى (المعلم ذكري) نفسه لم يسلم من هذا الجزاء..!!
 
 
ولا تزال رحى الأيام تدور..
 
ويأتي عام 1973 وتعبر القوات المسلحة المصرية قناة السويس وتهزم العدوان الصهيونى وتسحق أسطورته القديمة بأنه الجيش الذي لا يقهر وتعود الأرض المغتصبة إلى أصحابها..  يهتز الناس جميعا بأسرهم لهذا الحدث الجلل إذ عادت الكرامة مع عودة الأرض.. وقد عاد (ذكري) ابن حسن وإحسان أيضا من ميدان الجهاد منتصراً.. رافعاً رأسه مع رفع العلم على الأرض التي عادت من قبضة الغاصب المحتل.. يحاول محمود أن يعرف أي أخبار عن فريد الساعاتي الذي قتله أبوه ليرد إليه محله وبعض المكاسب التي آلت إلى (المعلم ذكري) وأسرته أو أي أخبار عن أبناء له في بلاد الشام.. لكن عبثاً ضاع الجهد.. لم يستطع العثور على أي شيء.. رغم طول البحث.. ونيته الصادقة في أن يعود الحق إلى أصحابه.. وينجي (المعلم ذكري) من هذا الحمل الجاثم على صدره المثقل بالأمراض.. لكنه في النهاية لم يستطيع..
عمل محمود في المقهى وبدت له فكرة أن يستشير شيخاً من الذين يرتادون المسجد الزينبي فقال له الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم...) كانت فكرة قريبة إلى نفسه إذ عمل على إخراج الصدقات من المقهى.. لمحاولة غسل باقي المال من الحرام الذي علق به..
وما أن بدأ محمود في إخراج الصدقات وتوزيعها على الفقراء والمساكين حتى رضيت نفسه وهدأت..
 لكن خضم الحياة لا يرحم من لا يجيد العوم.. فقد كانت المفاجأة.. أن مع عودة (ذكري) نهاية (المعلم ذكري).. فقد مات منهزماً بأوزار جلبت عليه المرض والوهن حتى صار شبحاً في سريره لا تميز ملامحه.. ثم غادر الحياة التي  كان يلهث وراءها دون أن يحصل على شيء أكثر من (الكفن) الذي جاء إليه (صدقة) من المسجد.. وجاء المغسلون والمشيعون ليقوموا بأدوارهم المعتادة..
وحمل (المعلم ذكري) في نعشه الخشبي إلى حيث المقر الأخير له (القبر) وعاد الناس وحدهم دونه ليمارسوا حياتهم اليومية.. وكأن شيئاً لم يكن...
تزوجت أخوتا محمود من رجلين مصريين طمعا في الذرية، حتى رزقتا بأولاد وبنات وعاشتا وكانت الأخت الصغرى قد تزوجت هى الأخرى من قديم وأنجبت من الذرية الكثير وعاش البنات في كنف الأم التي لم تمل من الدفاع عن بناتها ظالمات أو مظلومات..
وبعد جلسات طويلة بين محمود وذكري وافق ذكري على المجيئ إلى المقهى ليتولى شئونها مع عمه محمود..
ولمَّا هدأت نفس محمود وبدأ يتناسى ما اقترفت يد (المعلم ذكري) من آثام كان يدعو له بالرحمة والمغفرة من رب الرحمة والمغفرة رب العالمين، تزوج وأنجب أولاداً وبناتاً علَّمهم في المدارس والجامعات.. وتولى رعاية أمه العجوز إلى أن ماتت هى الأخرى ولحقت بـ(المعلم ذكري) الذي لم تنطو صفحته بعد، فقد كان (ذكري) ابن حسن قد ناداه الناس بعد فترة من العمل في المقهى بـ(المعلم ذكري)...
... ولا تزال رحى الأيام تدور..
 
تمت
حسين أبو السباع
aboelseba2@yahoo.com

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا