ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

منافي الوطن

لمياء الآلوسي - العراق

 

تحية حب وتقدير

إلى التجمع المسرحي الثقافي  العراقي ...

اللائذ  بصفائح دار الحرية للطباعة في باب المعظم وما تبقى منه ,

إلى الغادقين على المستحيل من نعيمهم ,

إلى المحتمين بجلود الفقراء .. الباحثين  عن منافيهم في وطنهم 

الباحثين عن وطنهم في منافيهم ...

وعذراً إذا تجاوزت

 

                                   *           *           *

 

منذ سنوات عجاف مجنونة شحيحة ، بقيت خطواته تسابق خطواتها صيفاً وشتاءاً ، وهي لا تملك إلا أن تغذَّ السير خلفه  , لازال الطريق طويلا ً...

لكنها هذه المرة هاجرت إلى المستحيل ، رغم الإحساس بالعجز ، والخوف الذي يكتنفها توقفت .. هي التي تراجعت  , التفتَ إليها , حاول أن يسدَّ أمامها كل منافذ الإقلاع

لكنها كانت بعيدة عنه جداً هذه المرة فقط  ... والى الأبد

                 *           *            *            *

كنا كمن يبحث عن خلاصٍ لنا في هذه الدنيا , مبللتَين مهووستَين  بالقفز والصراخ , تتقاذفنا الأوهام وآمال مؤجلة  في لحظة زمن لم تكن لنا  ، لكن العالم كله كان  لنا .

-         قذفت بروحي عالياً ، لم تكبلها رغبات الجسد .

-         هكذا بلا مقدمات ...

-         أريد أن أعود كما كنت  ...

-         بل كما أنت ، منعتقة من كل رهاب السنين .

أصوات المارة ،  وأبواق السيارات ، جعلتني أعذر شرودها , وعيناها الغائمتان في عالم أخر لا أعرفه جعلتاها لا تعي ما أقول ، ربما ، أو هكذا أحسست مما دفعني إلى التوقف عن البوح .

أمام ما تبقى من المبنى الذي نهشه الضيم ، ومزقه الخراب توقفت ، دفعتني للحاق بها ،  دخلنا , أثارتني الجلبة القادمة من الداخل  ، وأصوات الآخرين المزروعين في كل مكان ، كانت الغرف المطلة على الباحة المكشوفة ، منزوعة الأبواب والشبابيك ،  رُتقت فوهاتها المشرعة بقطع الكارتون وبعضِ  الملابس القديمة

أمّا الفناء المكشوف فتناثرت فيه بضعُ سيارات ، مركونة في الزوايا  المزحومة بأكوام النفايات والفضلات ،  وحنفية صغيرة وقف صبية بملابس مهلهلة عندها ، مالئين منها أوعيةً قديمة  ، ومحاولين نقلها إلى داخل المبنى ، وهم يتقافزون حول بعضهم في فرح طفولي تغمرهم به زخات المطر وقد غدت الأرض بُرَكاً من المياه الموحلة  ، تحولهم إلى  قطط  صغيرة ضاجة بالحياة .

توغلنا إلى الداخل , وجدنا البعض يجلس في ظلال الطارمات   .

-         لنخرجْ أفضل لنا ( قلت هامسة )

- أمامنا وقت طويل دعينا نغمد رغباتنا المشرعة , ونمنح هذا الوهج المخبأ عالماً للانطلاق و نقتل في داخلنا هذا الخوف من القادم ...  طاوعيني

تعجبتْ لعبارات الترحيب والمحبة التي كانوا يستقبلونها بها ، وكأنها تعرف الجميع منذ أمد بعيد ...

- إنك تترددين على هذا المكان كثيراً  ، أليس كذلك ؟  هم يمنحونك حبهم كما يبدو ,

  يا الله ... من أين يخرج هذا العدد من الأطفال ، بسحنهم الشاحبة ، وأسمالهم البالية ؟ ونساء مثقلات بأشياء كثيرة , مزحومات بأعمال يبدو أنها لا تنتهي  .

في الطابق العلوي لهذا البناء والذي غدا هيكلاً من الحديد ارتفعت على إحدى النوافذ الكبيرة لافتة , مكتوبٌ عليها بالخط العريض ( التجمع الثقافي المسرحي العراقي ) ، وثمة رؤوس تلوح لي من بعيد ،  لرجال وامرأة يعكس شعرها الأشقر انبهارات الضوء القادم من بعيد تنادي وبصوت عالٍ

-         إشتري لنا علبتَيْ سكائر من أي نوع . . أو دنهل .. دنهل علبتَي دنهل بسرعة رحمة على أبوك

كانت تنادي على  رجل  قفز من خلال كوة ضيقة في أحد الجدران .. بعد أن حيّانا بابتسامة صغيرة .

 دفعنا المطر والبرد إلى داخل المبنى ، تقودني خطواتها المتسارعة والأصوات الزاعقة والضحكات المجلجلة  بالفرحة  ، كان أمامنا سلَّمٌ ملتوٍ ، عالٍ ينتهي بنا إلى الطابق العلوي الذي كان أكثر دماراً من الطابق الأول ، يفضي إلى رواق عارٍ وعلى جانبيه غرفٌ أكثر عرياً وتفحماً .

  أحسست أنها تتحرك في المكان بألفة مما أثار ريبتي ، منذ أول خطوة في هذا المبنى وأنا اشعر بالتواطؤ .

عندما دخلنا القاعة ، كان  رجال ونساء ، وأطفال يفترشون الأرض وفي إحدى الزوايا ثمة وعاء كبير يحتوي على جمر متقد , يبث حرارة ورائحة عذبة في المكان وقد تحلق حوله الأطفال ، يتشابه لونهم جميعاً ،  جلسوا على حاشية كبيرة من الإسفنج  بدت نظيفة جداً ،  اشرأبت أعناقهم إلى الأصوات الهادرة التي يصدرها الرجال والمرأة الشقراء في الرقعة الخالية أمام النافذة الوحيدة ، وضارب الطبلة  الجالس معهم يحاول في كل لحظة تدفئة طبلته  فينتشلها منه الصغار  ، ثم يعيدونها إليه في لحظة نشوة فريدة، وهناك بعض الأرائك القديمة، جلس عليها شباب بزي جامعي , نهضوا لمقدمنا إلاّ أنها أومأت لهم فعادوا إلى مجلسهم وثمة هالة من الجمال تغزوا نظراتهم المتعلقة بحركة الممثلين .

في اللحظة التي وصلنا بها أصبحت صاحبتي سيدة المكان بعد أن عانقت خطواتها خطواتهم ، تقودهم  كما تريد ، تصرخ فتصرخ الطبلة معها ، تتلوى وتنحني بدون أن تنطق بكلمة واحدة ، ثم بدأت بالغناء !

غناءٍ أعادني إلى أيام انداحت في زاوية قاتمة من الروح  

أعجبني صوتها ، وجسدها المنساب مع صوت الرجل المرافق لها ، في طور عراقي  حزين أثارني  ودفّق فيَّ  كلَّ الشجن المخزون .

أغرقتْ رأسها بين ساقيها ، فانحسر الفستان القطيفة عن ساقين عراقيتين  ،  وغدا صوت الرجل رخيماً هامساً عندها ضج الجميع بالتصفيق

شيء لم أكن أعرفه  ..  وما عدت أعرفه ولا السرَّ في ذلك الالق الممتد بين عينيها والعيونِ  الصارخة بالحزن  والفرح  ، المشدودة إليها وإلى وحركة يديها المتسقتين مع جسدها الذي عافته النظارة منذ زمن ولازال متمسكاً بها ...  

عندما رفعت إلي وجهاً مبتسماً غارقاً بالدموع ، كنت أنا الأخرى أترك دموعي تغرق وجهي .

تفصد جبينها المهموم بالعرق الراشح على وجهها ، الذي أشاحت به عني وهي تتهادى بخطواتها نحوي :

 

-         كنت رائعة  (  شددت على يديها  ) ، ذكرتني بتلك الليالي ونحن نرقص خلسة بعد أن نغلق الأبواب .. نخشى أن يرانا  احد .. بالله عليك .. كيف ترقصين أمام هذا الحشد من الشباب ؟؟.

نظرت إلي وفي عينيها ذلك السحاب المغبر والألم المندلق إلى الخارج وكأنه جنين يأبى الخروج .  

- إنها قصيدة حب لرجل أحبه ، لا يحبني ،  لا أعرفه ، لم أكلمه لكنني أحبه , دفعتْها إلي

-         اليوم فقط بدأنا التمرين عليها ،  لكنها تملكتني ولا أتمكن من الفكاك منها

تلفت حولي , انصرف الجميع من أجل التحضير للمشهد التالي .. ربما

-         منذ متى وأنت تمارسين التمثيل هنا   ؟

بقي سؤالي معلقاً .

-         لمَ لا نعود  كما كنا في الثانوية .. تكتبين المسرحية ونمثلها معا .. الم تبدأي حياتك من جديد ؟

دعينا إذاً نعود  معاً

إقتربتُ منها : نصف مسرحية بائسة .. كل ما كتبت ..  وكنا الاثنتين فاشلتين في أدائها .

تجاهلتني : انهضي وسنرى كيف يكون الفشل .

في تلك اللحظات دخلت  شابة صغيرة زائغة النظرات ، شعثاء حافية القدمين رغم القر الذي يلف المكان  .. اتجهتْ إلى الموقد الحديدي في زاوية الغرفة ولم تتكلم ثم وبحركة مباغتة تركت موضعها وتوجهت إلينا نحن الاثنتين , توقفت أمامي فراعني ذلك العالم المبهم المخبوء في تقاسيم وجهها وذلك الهمس المجنون في عينيها ... كانت ترتدي معطفاً عسكرياً طويلاً ، يكسو قامتها النحيلة .. حتى تهرأت حافاته  ..  وجرت على قدميها  وساقيها ، خطوط سوداء من تراب الأرض ..  وكأنها لا ترى أحداً حولها غيري.

قالت : أنتِ جديدة  ...

ما أذهلني   .. هذا  الصمت الذي ران على الجميع .. بل أن البعض نهض منصرفاً على عجل .  

في تلك اللحظات والكل يحاول لملمة أشيائهِ  ، وذاته المشردة مشدوداً لما سيحدث ربما في اللحظات القادمة

-         ما لذي يحدث ؟! قلت مشدوهة

وقفت أمامي  صامتة ..  ثم عبت الهواء بشدة ووضعت إصبعيها على شفتيها .. تريد سيجارة

كم تمنيت لو أمنحها أي شيء آخر لكنها أصرت على حركتها ، دفعتها صاحبتي بعيداً   ، التصقت بي ، أصبحت أمامي تماماً ، عندها وبحركة مجنونة ، فتحت المعطف، فامتلكني الغم إذ شع جسدها الفتي فهي لم تكن إلاّ مراهقة ينبض جسدها بالإنبهار المتدفق فيها  ، جمالاً يباهي بها الدنيا .. كان المعطف العسكري يستر عريها ولا شيءَ آخر غيره .. أغمضت عيني خجلاً أمام ذلك الجمال الأخاذ وعطفا عليها ، فلقد كانت الكدمات تغطي تلك المناطق الحساسة من جسدها الرائع .

مددت يدي إلى معطفها فأحطتها به ، لكنها أرادت أن تخلعه عنها ، فامتدت عشرات السجائر الموقدة  إليها  .

في الخلف ، أحكم الشباب غلق النافذة الوحيدة بصفائح الحديد الكبيرة ، وبقي الضوء الخافت المتراقص لبقايا الجمرات المتقدة ورحل الجميع بهدوء .

اشتعل حريق الرصاص في كل مكان في الخارج , تعالت الصيحات من الأسفل  

وتوقف كل شيء وسكن الهلع المسرح الصغير .  

 ركضنا إلى الخارج  نبحث لنا عن طريق للنجاة

-        لا يوجد باب نوصده بوجهها فكلما حلت علينا , تبدأ القذائف ولا نعرف سرها  ، قادمة هي من المجهول , تتدثر بمعطفها العسكري ،  تدخل  ، فينتهي كل شيء .. لا مسرحَ  ..لا حياةَ ...إلاّ القذائف والنار ... حتى القصائد تموت فينا قبل أن تولد .

-         لم أكن أعرف أنك أرسطية بهذا الشكل !! إنها مثل الجميع مجنيٌّ عليها .

التفتُّ إليها .. كانت تغمغم وراءنا ،  بكلمات مبهمة ، لم تصلنا إذ اشتعلت السماء حولنا .. عدونا أو زحفنا  لم نعد نعرف .. لكنها بقيت في الأعلى  مع وحشتها وجنونها الغريب .. والجمرات الخابيات   

واصلنا  طريقنا  .. وثمة حزن شفيف يملؤنا معا ... وفي الأسفل توقف ضجيج الأطفال ... اختفت الوجوه وما عدنا نرى إلاّ الدخانَ ينفث سمومه في كل مكان

لكنها تعرف طريقها جيداً فنفذنا خلال دروب ملتوية ، إلى الأمان المتسربل بالخوف..

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا