ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

نعمان إسماعيل عبد القادر - المغربحفلة زواج

نعمان إسماعيل عبد القادر - المغرب

 

جلس المدعوون في الأماكن التي خصصت لهم، في غرفة الضيوف.. أما عددهم فلم يكن ليتجاوز العشرة أنفار، لولا أن حضرت صاحبات العروس اللاتي دُعين إلى الحفلة منذ أسبوعين، سيَّما: فاتن، ونرجس، ومريم. وفيما جئن إليها ممكيجاتٍ يحملن هدية مشتركة.. ويلبسن ملابس السهر السوداء.. تبادلن مع بعض الحاضرات القبلات الحارة وصافحن الحاضرين في خجل مصحوب باحمرار والوجوه وارتباك في الحركات.. جيء بالمشروب البارد أولا ثم بالكعك والفاكهة والحلوى.. وشرع المغني يضرب على أوتار عوده ويغني غناءً جميلا.عذوبة صوته أطربت القلوب.. الكفوف صفقت بجناحيها مع موجات العزف الساخنة في صعودٍ ونزول. لم تكن الألحان العذبة من الألحان التي اعتاد الناس عليها في أعراسهم اليوم، بل كانت من النوع القديم التي أُشتهر بها عمالقة الغناء العربي قد أفاءت على البيت.

      وجلس العروسان في صدارة الجمع المحتفل، يتبادلان أطراف الحديث، وُضعت أمامهما طاولة مشرشفةٌ عليها مزهرية مملوءة بوردٍ طبيعيٍّ.. طُلِبَ منهما أنْ يرقصا في وسط الدائرة، فلم تسعفهم الذرائع التي تذرعوا بها.. فلبيا الطلب مكرهين على ذلك. رقصاتهما لم تكن منتظمة. أردافهما تمايلت يمنةً ويسرةً.. وحركّا سيقانهما في جميع الاتجاهات دون أي تنسيق. إذ ليس للعريس مع تقدم سنه خبرة في قوانين الرقص.. ولا معرفة في فنون الغناء.. لكن الطرب- المسترسلة أنغامه وينساب انسيابًا مسرفًا- قد نشط في الأجساد البشرية وسرى مفعوله في أطرافها.

      حين انتصف الليل على الدنيا ومن فيها ..ليل منتصف نيسان.. تُوُقِّفَ العزف، وقدّمت الأفواه قُبلات التهاني والتبريكات للعروسين الطازجين وتُبودِلت اللفتات من العيون القرمزية، ورُسمتْ على وجهيهما انفعالات متلوِّنة. وكانت الأم آخر المودِّعين لهما إذ خرجتْ وهي تدعو لهما وتتمنى من الله أن يوفقهما في حياتهما وأن يرزقهما الأولاد، وفي نفسها إحساس بالراحة والتخلص من الحِمل

الثقيل الذي كانت تحمله، ومن الهمِّ الذي أصابها والذي يصيب كل أم حين توشك ابنتها أن تتقلد قلادة العنوسة والبوار، ثم يغشاها هاجس الخوف من كلام "الستات" ذوات الحسب والنسب.. وصاحبات "الحظ السعيد" طبعًَا.. واللائي تمقتهن مقتًا شديدًا.. وفي داخلها اعتزازٌ بالنسيب الجديد الذي امتلأت جيوبه بالدراهم والدولارات، وهي تطمح أن يصيبها شيء من سعادته..

      وُدِّعَ العروسان وخرجت وهي تردد كلامًا كثيرًا، وتمتمت بكلام لو دقق السامع فيه لعرف أنه دعاء للعروسين لتحصينهما بحرزٍ ربانيٍ، من عيون الحاسدين والحاسدات.. وفي يدها وعاءٌ حديديٌّ ينبعث منه في هواء كل زاويةٍ من زوايا البيت، دخان بخور.. فالزواج بالبخور هو الزواج الذي تكتمل صورته.. وتطرد به الشياطين فيصبح زواجًا مباركًا.. وليس زواجًا صوريًا.. وتصورت ابنتها ترتمي في حضن عريسها المتأنق في ملابسه ويضمها بين ذراعيه في غبطةٍ وابتهاج ثم يطبع على جبينها قبلات كثيرة. وهي، تشعر بالسعادة الكبرى.. تصوُّرًا أي تصور.. تشعر بابتهاج ابنتها كأنه ابتهاجها هي نفسها.. تشعر به نشوة عميقة عارمة اللهفات.. إن حسن الظن بنسيبها الجديد.. وثقتها به.. هما اللذان جعلاها تحسُّ بهذا الإحساس..

      كانت ثمة امرأة -تذكرت صورتها حين غادرت الحفلة وحين ركبت سيارة ابنها الذي كان في انتظارها- قد "غلّفت" عليها فرحتها.. جارتها "عليا الفارسية".. وتذكرت كلماتها الجارحة:

- " ياللي بنتك بايرة"

فقد عايرتها ذات مرة في ابنتها حين تخاصمتا بعد أن قامت الثانية بإحراق القش على عتبة بيتها، فانبعث منه دخانٌ كثيفٌ، اختنقت الحارة منه.. إذ بعد أن ناصبت كل واحدة العداء لجارتها نصبت مدافعها الهجائية الرشاشة، فتراشقتا بوابل من الجمل النابية، والألفاظ القاسية التي نسجت من ألياف خاصة وكتبت في معاجمهن بمداد سحريٍّ لم يهتدِ إليها أحد من قبل، فأطلقت عليها "الفارسية" قنبلة "إنشطارية" من النوع الثقيل حين قالت لها:

- " طز فيكِ يا اللي بنتك بايرة.. ما فيش حدا بتطلّع عليكِ ولا عليها".. انسحبت "هالة" يومها من المعركة متقهقرة إلى بيتها..

انسحابًا مفاجئًا.. عادت وهي تشعر أن أطرافها قد تخشّبت وأوداجها أخذت تشخب دمًا.. رجعت وهي تحسُّ بأنها تسربلت بسربال الهزيمة النكراء.. وانزوت في غرفتها تندب حظها البائس..

      وصارت كلما حلّت بها مصيبةٌ ولو صغيرةٌ تشفَّت بها "الفارسية" أيما تشفٍّ.. وأظهرت لها غبطتها برفع الصوت المنبعث من مسجِّلها عاليًا ليجلجل في أذني "الهالة"، مماحكة بها.. ولم تحسب حسابًا لنهنهات زوجها وأولادها.. واتخذت لنفسها رصيدًا هائلا من المماحكات والحيل؛ لتستعين بها وقت الحاجة. كانت تنهض مبكرةً وترمي القمامة قرب منـزلها وتفرُّ هاربةً قبل أن يراها أحد. وفي حالات كثيرة متقاربة كانت تحتجز امرأة عابرة من ذلك الشارع، وتفرض عليها أجندة حوارها، فتبادرها بالسؤال عن حالها وحال زوجها وأولادها.. ثم تنبري في نشر الأخبار والحديث عن انتصاراتها على الجارة " النتنة". وعن فخرها بأولادها وبناتها، فترفع صوتها شيئًا فشيئًا ليصبح راعدًا مدويًّا، وهي تقول في طيّاتِ نفسها: -" الحكي إلك يا كنة واسمعي انتِ يا جارة".

وتلك تنفخ وتقول لذاتها: " أَمَا آنَ لهذه المرأة أن تكف عن هذا

الحديث فتتركني وشأني". بيد أن "هالة" كانت تعزي نفسها وتعبِّر لأولادها عن كلمات الشجب الاستنكار الشديدين قائلة:

-"دعوها وشأنها!! هذي امرأة مجنونة.. عقلها لا يريحها.. مريضة نفسيًا.. الظاهر أنها نسيت أن تتناول دواءها اليومي.. هي بحاجة إلى طبيب نفساني.. بحاجة إلى سايكولوج.. أعصابها تعبانة.. بحاجة إلى مستشفى المجانين.. دعوها تعوي مثل الكلاب الضالة..

الجارتان كانتا تنتميان لعائلتين مختلفتين اختلافًا سياسيًا قديمًا. وتعود جذوره إلى زمن بعيد.. إذ تتنافسان في كل مرة على منصب رئاسة البلدية.. وتتداولان الحكم لا بإرادتهما، بل بإرادة بعض العائلات الصغيرة التي ترجح الكفة في اللحظات الأخيرة حين تميل مع المرشح المناسب.. فإذا ما بقي لموعد الانتخابات حولٌ واحد.. استعدت الجارتان للمواجهات العسكرية.. بدايتها حرب باردة.. ثم تتحول شيئًا فشيئًا إلى حرب ساخنة طاحنة.. بدايتها تعليق اللافتات وصور المرشحين.. ثم تنتقل إلى الاستماع إلى خطبهم والأغاني التي سُجلتْ من أجلهم وتنتهي بالجدال الحاد والاشتباك  بالأيدي..وحدث ذات مرةٍ، أن أخذت "الفارسية" أولادها وغادرت الحارة في زيارة خاطفةٍ لصديقتها "خولة"، التي تسكن في حيّ الكينا. ولما عادت وفتحت باب بيتها، إذ وجدت مادة غريبةً ممزوجةً بالعجين، بلونٍ أصفر مائل إلى اللون البني، مسكوبةً على العتبة بشكل متعرّج. في تلك الساعة جُنَّ جنونها واندلقت نحو بيت "الهالة" "تكشب" وتلعن، وتهدد وتتوعد؛ متهمةً إياها بوضع السحر في بيتها؛ لتدمر به عائلتها.. 

      على كل حالٍ، عادت إلى بيتها وكانت مترعةٌ بمشاعر الفرحة المختلطة بالإحساس الزائد بالإرهاق.. ألقت نظرة على بيت "الفارسية" فوجدته يقف صامتًا مظلم الجدران.. ووجدت نافذته مفتوحة ينبعث منها نورٌ خافت.. فلاح من جانبها الأيمن شبحٌ يحاول أن يخفي ظله بصفيق الحائط الداخلي. سرعان ما عرفتْ أن الطيف، إن هو إلا جسد "الفارسية"، التي استيقظت على هدير السيارة، وأسرعت إلى النافذة مكشوفة الرأس، في ثياب النوم، وأخذت تتلصص في صمتٍ وتسترق السمع في خفية وهي تظن أن أحدًا لا يراها.. ثم قالت لزوجها: صاحبتها "فتحية" حكت لي عن كل شيء. زواج سرّي!! زواج بَلْفقة!! من غريب ما بدّو حدا من أهله يعرف. واسـتأجرت له بيت، وراح يزورها مرتين في الأسبوع.. بتضحك على الناس وبتقول بنتها اتزوجت. ومن ابن ناس. ياللا! الزواج مش عيب..

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا