
صـورة
عبد
الجواد خفاجى - مصر
خطواته البطيئة
تؤكد أنه لا يزال على قيد الحياة.. حركته الحثيثة تستهلك كل قواه الشائخة، إلى أن
تنتهي تماماً عند الصورة، ثمة أغنية ملعونة يلقيها الصبية على مسامعه، وبعض الحصيات
إلى قفاه.. كل يوم قبيل الغروب يواجه نفس المصير وسط أعاصير الشارع ومطباته، ومع
ذلك فالرجل صامت.
تنتهي خطواته كالعادة عند الصورة التى تتوسط " أفيش" عريضاً فوق واجهة المسرح؛
فترتفع رأسه المنتكسة بشدة لتلتقط عيناه الصورة متسللة عبر رموشه المسدلة؛ فتنطبع
فى ذاكرته من جديد.
كانت حالمة.. هادئة.. لا تثير غرائزه.. يتوقف عند بابها كل ليلة لبضع دقائق، ثم يضع
المفتاح فى ثقب باب غرفته وهو يتمنى ألا يضعه.. يتمنى أن يظل بقية عمره بين اليقظة
والحلم، مسافراً فى عينيها نحو عالمها الأنثوي الحالم، وثمة ذكريات أخرى كثيرة.
ألم يأن الأوان لأن يقابلها؟.. مرة واحدة تكفيه.. نظرة واحدة تكفيه لأن يعشق ما
تبقى من عمره، وربما تنتهى النظرة بالتفاتة منها، وربما تسأله: كيف أنت؟.. أن
تسأله: كيف أنتَ؟ ذلك منتهى ما يبتغيه، وربما يشعره بأن الدنيا لا تزال على ما كانت
بخير.
خيوط كثيرة كانت تشده للماضى
وتتوقف به عند الباب والعينين العسليتين، وهو يتأهب للعزف على الرصيف المقابل
للصورة... كالعادة بدأت ألحانه تملأ الشارع، وسط جمهرة المارة ورواد المسرح، ومن ثم
كانت الأيادي الرحيمة تلقى بعض "الفَكَّة" فوق المنديل الأبيض الذى يفرشه أمامه...
غالبًا ما ينهى عزفه بنظرة مجهدة إلى الصورة.. يحدقها مليًّا، ثم يستأنف العزف من
جديد.
الجوهرة المكنونة تعرت، وانزاح الستار!.. لم تكن قد تعرت بعد؛ يوم أن رآها مجرد
عينين عسليتين، يتمنى أن يسبح فيهما؛ لذلك كانت ألحان الشوق والسفر واحتضان الموج
بين الشاطئين لا تأتي حزينة، والماء الذى لم يرتوِهِ كان لا يزال خيط بصره الذى
يلقيه كل مساء إلى عينيها خلف شُرَّاعة الباب؛ فتنطلق الألحان إلى آفاق لا تحد،
وتبقى المسافة بينهما أمتارًا قليلة...
مرة واحدة آثر أن يشجيها.. أن
يُسْمِعها صوته رسالة من قلب لا يهدأ إلى عينين باتساع أمانيه؛ فأحطَّ بجسده بجوار
الباب، وداعب الأوتار.. انفتحت الشراعة، وبدت العينان العسليتان، ولم يتوقف العزف،
وانفرج الباب بانفراج شفتيه عن أغنية السفر.. ابتسامة واحدة أسكتته وألقت به داخل
حجرتها:
- زدني
- أقول للنسيم هفهف
- أنت مجامل
- أنتِ أغنية لم يلحنها البشر
ضحكات ممزوجة بالألم، وأشعلت الموقد
- الحياة سجن كئيب!
- سجن اختياري إذن؟
- أخشى أن أفتح الباب
- لذلك لا تفتحين سوى الشُّرًّاعة؟
- أخشى الذئاب
- وها أنتِ أمام ذئب!
- رجل يحاضن العود ليس من الذئاب
- إذن من هنا؟
- لتكن حالاً
- مثلك تمامًا
ـ آه... أنا بقايا.. نسيتُ الموقد، سأصنع الشاى.
لقد تعرت الصورة تمامًا.. انزاحت الستائر.. رأى ما لم يكن يحلم به.. كفَّ عن
الحلم.. ها هي تجنى ثمر عريها.. الناس لا يدفعون لمستور حتى يتعرى!.
وانكفأ الرجل على العود وسط زحام
البشر، فى نفس الوقت الذى كانت يد رحيمة جدًا تلقى برزمة من أوراق النقد فوق
المنديل الأبيض.. انكفأ قبل أن يتحقق من صاحبة اليد الحانية!
- يا له من عجوز
- مسكين... مات!
وانسلت يد مجهولة بين أرجل البشر، واحتوت المنديل الأبيض بما يحويه.
... فى الصباح، كانت الجثة عارية تمامًا.