تضاريس شهوة
الانحناء
مجموعة قراءات وانطباعات نقدية لمجموعة
(مظلات تنحني لقاماتنا) للشاعر بهنام عطاالله
إعداد وتقديم
شوقي يوسف بهنام
جامعة الموصل
الطبعة الأولى
2005
الإهداء
إلى الكلمة الصادقة الواعدة
شوقي
مقدمة
تضاريس شهوة الانحناء
شوقي يوسف بهنام
جامعة الموصل / المكتبة المركزية
حاولت ، مثلما حاول بعض من زملائي ، عبر هذه الصفحات ، أن نقدم قراءات نقدية
وانطباعية ، نشرت في عدد من الصحف المحلية ، باستثناء قراءتي والتي انطلقت أساساً
من تصورات علم النفس لمجموعة الشاعر بهنام عطاالله والمعنونة (مظلات تنحني
لقاماتنا) والصادرة عام 2002 ، حيث تمتاز هذه الدراسات والانطباعات
والقراءات بأنها تتناول المجموعة من زوايا النقد الأدبي لها ، من حيث الأبعاد
الجمالية والاسلوبية والخصائص الفنية الأخرى ، إلا أنها مع هذا التركيز على هذه
الجوانب ، فأنها وقفت عند هذا الجانب أو ذاك من جوانب حياة الشاعر الذاتانية أو
الجوانية ، إلا أن هذا الوقوف لا يمكن عده نفسانياً بحصر المعنى ، ومع ذلك فقد جاءت
هذه القرارات لتغطي مساحة لها بعض الاعتبار لهذا الجانب ، على الرغم من أن أصحابها
ليسوا باحثين في علم النفس ، بل هم أدباء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى .
وللشاعر ، كما يتجلى ذلك عبر مجاميعه الشعرية ، ومن ضمنها المجموعة موضوع هذا
الكتاب ، ما يمكن أن يسمى بهاجس المكــان والهوس به في آنٍ واحد (1) .
فهو من خلال تلك المجاميع ، يتمحور حول جملة " الأمكنة " ، لا مجال هنا للدخول في
تفاصيلها ، ليكون المكان سواءً بأبعاده الفيزياوية أو الرمزية دلالة الجسد
(2) ، كنقطة انطلاق للشاعر في التعبير عن مكنوناته وعن تجاربه الحياتية على حد سواء
، وعلى هذا الصعيد ، يمكن القول على سبيل المثال الافتراضي ، انه لا يمكن الفصل بين
الشعر والذات ، لان الشعر وليد تلك الذات خصوصاً إذا كان هذا النتاج الشعري قد
تناهى إلى ذهن المتلقي بضمير (الأنا) . وعلى هذا الأساس ، وبهذا المعنى فالنتاج
الشعري ما هو إلا تخريجاً انفعالياً ، على هيئة لغة متداولة مدركة من قبل الآخر ،
من تخريجات الأنا .ولا شك فان هذا الافتراض لا يمكن تطبيقه على ذلك النتاج إلا إذا
ما كان ينطلق من ذلك الضمير ، أعني ضمير (الأنا) .
هذا الاستطراد ، جعلنا من حيث لا ندري ، نبتعد عن الهدف الأساسي لهذه السطور ،
وأعني بها المقدمة ، فميزة أخرى مهمة انطلق منها الزملاء ، وأنا واحد منهم ايضاً في
قراءاتنا هذه ..ألا وهي الموضوعية والحياد . فالشاعر بهنام عطاالله ، أصبح عبر هذه
القراءات ، ذلك الآخر المعرى .. المنكشف .. المسلط عليه الأضواء ، أضواء تلك
القراءات .. ولا أعني الشاعر كذات .. باستثناء دراستي عنه والموسومة (3)
..ولكن ما أعنيه هو الطابع الطابع العام لنتاجه الشعري كما هو متمثل في هذه
المجموعة .. وبديهي فنحن لن نتوقع الاطلاقية بمعناها المعروف في تلك القراءات ،
لذلك فهي نسبية النظرة ، تتحمل قراءات عديدة وتأويلات عديدة ومختلفة ، تبعاً
لأيدلوجية القارئ ، وتبعاً لمرجعياته المعرفية وآلياته القرائية . فالقراءات التي
قدمناها هنا ، لم تكن إذنْ إلا مجرد محاولات قابلة للتغيير والتعديل والإضافة تبعاً
لكمٍ من القراء ، وتبعاً للأيدلوجيات والمرجعيات والآليات التي يعتمدها ويتبناها
ويستخدمها القارئ لهذه المجموعة أو لغيرها من أشكال الإبداع الأدبي بشكل عام .. لان
القراءة علاوة على أنها نشاط معرفي معروف المعالم غايتها الكبرى استنطاق النص أو
الدلالة أو الخطاب ، فأنها بمجملها لا تخرج من مؤامرة
الإسقاط ! إذا صح مثل هذا التعبير ، أعني إسقاط لرغبات وتصورات الملتقى لهذا النص
أو ذاك .. تلك المؤامرة التي لن يتمكن القارئ الخلاص من أوزارها …
آمل .. ونأمل أنا وزملائي إننا قد وفقنا بعض التوفيق - وبدون شك ليس كله - في
التعرف على دلالات ومعاني قصائد هذه المجموعة ، وتحديد غاياتها وابعادها ، بما يتفق
وحجم هذه الصفحات .
الهوامش
(1) راجع
باشلار ، غاستون ، جماليات المكان ، ترجمة غالب هلسا ، يغداد ، 1987 .
(2) عالجنا هذه
المسألة في دراستنا - قيد الإنجاز - والمعنونة (هاجس المكان المشتت) قراءة نفسية
لمجموعة
(إشارات لتفكيك قلق الأمكنة) للشاعر بهنام عطاالله .
(3) جريدة (بلا اتجاه)
، العدد (6) ، الأربعاء 8 تشرين الأول 2003 .
شعرية الحقيقة
بين نشيد الفوضى وإيقاع الفجيعة
د.عبد الستار عبداالله
كلية التربية / جامعة الموصل
شرط القراءة الدالة أن لا نعلن إخفاقنا أمام كتابة ترتدي حجاباً ، فكما يقول ابن
عربي "كل كتاب حجاب " وليس لنا إلا أن نقتطع من هذا الوجود شفافيات تسهم فعلياً في
الكشف عن مرايا تكور جراحها بين نرجسية البث والتباس القصد ..!
واعتقد ان الشرط –ايضاً
–في
شعرية الشعر هو اللحظات التي تجعل من (النص) نبضاً مبهماً يداهم رتابة الإيقاع ،
ليقدم حضوراً مفارقاً ، قد يدهش الواقعة ويهشمها ، لكنه يستدعي المتلاشي وراء
فضاءات اللغة ، تلك التي تفرض غالباً سلطة (نوياتها الصلبة) على أفق قرائي يؤمن
بالملتبس على حساب يقينيات هشة لا تحتمل وجودها إلا لحظة قراءة مفردة منفردة ولا
ينكر ان شرط الجمالي لايتمظهر إلا من خلال وعي قرائي يبتعد عن خطية الرسم ليتشكل
وينكتب في فضاءات التموج ..
ونصوص بهنام عطا الله (مظلات تنحني لقاماتنا ) ،ليس أفقاً للمتعة وانما هي مرايا
تداهم جرحها لتنكتب خطاباً انسانياً يخفق في طقوس الألم مستثمراً الأشياء بوصفها
شرط الحضور أمام احتمالات الغياب ..؟
ويبدو ذلك واضحاً بنظرة سريعة الى صفحة المحتويات لنجد مفردات كثيرة تشير إلى
الغائب
مثل ( الخرافة ، ظلال المعاني ، بنية الفراغ ، محطات تبحث عن معنى….)
.
واللافت في المرسلة الشعرية هو التوتر الذي ينطلق من لعبة التسمية ليحول إظهار
خفايا اللعبة ، في زمن جعل شفافية الشعر بوابة للقهر اكثر منها مفتاحاً للتحول نحو
النبوءة والسلام والحقيقة . فمن الصعب على الشاعر أن يغير بقوة ( اللغة ) ومن الصعب
عليه أن يجعل من (حروفه وحبره ) جسداً يضيء ظلمات المعنى في فوضى لا ترحم ، ففي
قصيدة (وتشم عطر فجائعي ) نلاحظ ثنائية في التسمية تدخل بين العام والخاص (الحياة
/العصر ، الغبار /اللسان ) ولا يخفى ما للغبار من قدرة على زيادة العتمة
وانعدام وضوح الرؤية فضلاً عن قدرته على إثارة حساسية الجسد واقفال منافذه
الضرورية للحياة ..
(ما نحصل عليه في حياتنا
"
هو
الغبار
والغبار فقط !!
فتعالوا ،
نجر هذا العصر من لسانه المبتذل
ونمشي عراة
لقول الحقيقة ( “
يحاول( الأنا) هنا أن يظهر قدرته على الإبصار في عالم مقفل من كل الجهات والزوايا ،
لكنه يعلم جيداً ،ان (اللسان) آلة الكلام القادرة على توصيل ما في اذهاننا
الى الاخر ليست اكثر من هشاشة (وابتذال ) تعمل على تزييف العالم من حولنا ، ولذلك
لابد من ان نخلع عنا كل الاسمال لنظهر امام الآخر على حقيقتنا : متوجعين ، متلبسين
بالبوح الجميل،لكنه /لكننا ، لن نحصل على اكثر من (مواعيد يابسة ، وبلاغات كاذبة )
.
هكذا ببساطة شديدة لاتنتج (الحياة) ولا (العصر) الا نبوءات تترددفي فضاءات مبعثرة
ومنذ ازمنة بعيدة غير انه سيعمل على ان لايستسلم لها وسيبقى كلمة (لا) التي ستركع
تحت قدميه (نعم) لحلم يخلع صدأه..؟
لاشك في أن الذاكرة ورشة تقيم في حرائقنا ، وتفتح في لحظات انفصامنا واتصالنا
نوافذ مقموعة لحلم / أحلام مكتومة ومؤجلة (فجائع، هزائم ، جروح ، بنادق
…)
مساطب للنار لا تثرثر من اجل دفء قلوبنا ولكن لتجعل من سعاداتنا رماداً يتشكل على
منصات (المتاحف ) الباردة..
(معك مازال الدرب لجوجاً.. أيتها المتاحف .. فثمة
سخرية تشطف مكائدنا وتلقي بها على الأرائك(…
وآه من حلم رهيف تضيعه (سخرية ) عمياء فيترك اثراً ابدياً يلازمنا في كل مكان حتى
في أسرتنا ؛ مكان خصوصيتنا ،فتلوث صفاء لحظاتنا السعيدة وتملأنا بالرتابة والرثاثة
والهلع المحاصر بالمتاهات القريبة أو القصية .
ولعل الخلاص لا يأتي إلا من أمكنة العبادة و العلاقات الروحية تلك التي تعزل
الإنسان عن محيطه الملوث لتعيد تشكيله من جديد سمواً وانطلاقاً الى عالم البرزخ:
(مغاليق النشوة
تشهق في" مقر تايا "
أو
"دير السيدة "
يمتد مثل غيمة حطت على أنفاس "الشيخ متى" )
هذه جغرافيا الروح تحول أشياء الذاكرة إلى مسارب للنشوة ؛ لأن العالم كله لا يساوي
لحظة فرح تسطرها ذاكرة الطفولة ..
ولا شك في ان الشاعر طفل يختفي في رجل ، فهو يريد امتلاك العالم بوساطة الحلم إلا
ان براثنه المهشمة تدفعه غالباً الى الاتكاء على صخرة (النشيج) ؟؟ فالعالم ليس
عشاءً ربانياً ؛
انه ارث لتجريب الألم واحتضان الهاوية ، والسعيد هو ذاك الذي يستطيع ان يكون
(نداً..؟) ويحتضن الأضداد ثم يخرج منها معمّداً بماء التمرد وجنون العبور ..؟
(إيقاعات الفجيعة / تماثيل المتاحف/
مزامير النوايا المتقاطعة
….
إنها حيوات مسورة بنبض الرعشة
تشهد القيامة بكثافة الصمت
تزكم جهاتي / تعفر سلالاتي
ترتب يافطتاتي / بلاطاتي الرطبة
وإجازاتي الدورية ..
تتدلى ذاكرتي من فجوة ستائرها
مسدلة تئن …
تهذي في هياكلها المرتعشة ..
من
رائحة الدم /راجمات الفصول
هي….
مهابط للذة ومكابدات الركام..؟)
أليست الأمكنة هنا مزاغل للتذكر مصابة بلعنة التشظي ، هي معادل للذات الشاعرة بكل
ما فيها من تراكمات واحتمالات واختلافات ؛ والذات الشاعرة هي الحاملة للعلاقات بكل
ارهاصاتها مخمورة بنشوتها ومنتشية بخمرتها
…
إن
(بهنام عطاالله) في نصوصه ( مظلات تنحني لقاماتنا) ولادة بهية تحاول برفضها وتمردها
ان (تمحو الخطايا ) أو تستكشفها لتختار بين ذات خلاصية وأخرى نكوصية
ولا أجانب الحق إذا قلت إنّ الشاعر يتحرر من سطوة العذاب بلغة رائعة تجعل منه
أنموذجاً لكتابة مفتونة بالمتخيل…
قراءة في
مظلات تنحني لقاماتنا
ساطع محمود الجميلي
انه لشيء مؤكد عندما ينتبه جمع من المتلقين لعبارة ما في قصيدة أثارت انتباههم ،
وهذا يعني أن شيئاً ما قد تضمنته القصيدة او الجملة واحدث ذلك ، بالتأكيد إنها
الصورة الشعرية وفنيتها وما صاحبها من وقع وجمال تعبيري دخلت في تشكله عناصر الصورة
كالمفارقة وغيرها .
(مظلات تنحني لقاماتنا) مجموعة شعرية صادرة عام 2002 للشاعر بهنام عطاالله ، عندما
بدأت قراءتها وقفت عند الصفحة الثالثة وقد استوقفتني عبارة الشاعر ( من أجلكِ أيتها
المظلات ينهمر مطري) ، فقد كشفت من خلالها الحس المتجذر في ذات الشاعر والتوجس
الحياتي وأشياء أخرى تحيا في نفسه ، فالمظلات والمطر إيقاع متعاقب يشير إلى استحضار
لوجود دائم .
وفي قصيدة (وتشم عطر فجائعي) ص5 إعلان واضح عن وحدة المعنى التي تعكس مدى استثمار
السرد للغة الشعرية مما يحفز المتلقي على رد الفعل : ( ما نحصل عليه في حياتنا
هو
الغبار والغبار فقط
فتعالوا (" نجر هذا العصر من لسانه المبتذل
ونمشي عراة
لقول الحقيقة ")
المفارقة عنصر مهم في البناء الشعري ، يرى فيه الشاعر فناً أنيقا يضاف إلي جمالية
الصورة ، كما في ص6 من القصيدة ذاتها :
(
عند الجسر القديم
وقف الشاعر يبكي من فرط بلادته !
سئل .. لماذا تذرف هذه الكلمات
بلا جدوى ؟ قال: كي يخلع هذا الجسر صدأه).
أما قصيدة (متاحف متاحف … أيتها الفجائع) ص12. فهي قصيدة طويلة متعددة الجوانب ،
بدت لنا نظام من الإشارات لتأكيد الوجود الإنساني ، استخدم الشاعر فيها الجانب
المكاني بفاعلية ، مما يعكس اهتمام الشاعر بعمق الإمكانات الدينية ، مستبعداً تنويع
الطبيعة ، أخذاً الصورة الشعرية على وجه التبسيط :
(
انه حلمي الأعرج
يمشي ..
على عكازة الهزائم ،
وشرفات الغياب / مغاليق النشوة
تشهق في " مقرتايا "..)
قصيدة (مزامير النوايا المتقاطعة) ص21 هيمن الفعل المضارع على استهلالية النص (
يتوكأ - تسعل - تنهض ) وهذا يعطي للحاضر أولوية ، ويدع الحدث جانباً على قارعة
الانتظار ، ويحول البناء الداخلي إلى استرسال تقليدي ، رغم ان الصورة الفنية لم تغب
عن التشكيل الفني الشعري :
(
يتوكأ على خرائط نحيفة
تسعل بقاياه
تنهض الهزيمة بسيقان الأخطاء )
الصورة الشعرية مبسطة وعلى قدر كبير من الكثافة في كل القصائد . وقد تجلى واضحاً في
قصيدة ( بيان غير رسمي لموت معلن ) ص16 ، شهدت إعلان للصور ذات الاستخدام الدلالي
الحيوي للغة المجاز ، وكاشفاً عن تخوم الهم الإنساني ، وقد شهدت القصيدة ايضاً قدرة
عالية على الحركة المرتبطة بالواقع الموضوعي الذي تجاوز صورة الواقع بكثافة :
(
عندما أردتَ أن تكتبَ مقدمة لحربٍ
عفواً .. لموتٍ معلن ٍ
وقرأتَ الإعلانَ على أعمدة ِ الصحف ..
أو
في مداخل شركات دفن الموتى :
"
اقصد شركتنا عندما تريد' أنْ
ترقدَ في قبركَ مرتاحاً
أو
" نشيع جثمانك تشيعاً محتشماً "
أو
" لدينا كافة أنواع النعوش وتزيينها
ونرتل على جثتكَ أية انشودة تهواها ،
فهنيئاً لك إن متَ عندنا "
هنا انتفضت البيانات' من ثقل الخسائر
وهرب الموت إلى الأرض الحرام
لأنه لم يستطع أن يخدش حياء اللغة
فدخل في سجل الحياة
مثقلاً بالسلاسل) .
(1) جريدة القادسية
، صفحة ثقافة ، العدد (7546) الأربعاء 25 أيلول 2002 .
قراءة في نصوص : (مظلات تنحني لقاماتنا)
عندما تكون المظلات
استسقاءً لمطرٍ لا يأتي
معن عبد القادر آل زكريا
القصيدة فعل ثقافي جاد ، يصدر عن وعي حقيقي ، لذلك فهي الناتج الأصلح لكي تتداخل
مع وعي المتلقي وتعمقه . ويفترض في الشاعر أن يكون واعياً خطورة المهمة الشعرية
كونها أدوات تعبيرية عن حالة ومحتوى شعري تضطر المتلقي إلى استنفار كل قواه في
تحليل ما أثاره الشاعر .
فالشاعر إنما يقود تجربة تضيف إلى كل المتحقق الملموس عناصر جمالية تغذي نسغ
القصيدة صعوداً وتجعلها مناطق تطلعات لاستكشاف مساحات مجهولة .
يقول الكاتب ماجد السامرائي في مقالة عن ذكرى جبرا إبراهيم جبرا: ( إن تفكير
الإنسان ذاته يمكن أن يتخذ مسارين اثنين ، أما أن يفكر الإنسان في مجريات حياته
فيتمثل مدارها ، وأما أن يجعل من هذه الحياة ومن نفسه موضوعاً للمعرفة ، أي أما أن
يطرح الموضوع من وجهة نظر الحياة أو من وجهة نظر المعرفة ) (1).
ونحن نقرأ في نصوص ( مظلات تنحني لقاماتنا ) فمن حقنا أن نطرح على كاتبها بهنام
عطاالله سؤالاً ، إلا أن طبيعة السؤال قد تكون من طينة نخشى أن تزعج المنقود ، أو
تولد إحساساً لدى من هم يقفون في صف التأويل العكسي ، تؤدي بالسؤال إلى إعاقة تحريك
المهمة بدلاً من تسهيلها .
هل لدى الشاعر عطاالله موقفاً جدلياً أزاء الحياة ؟ هل يقف الشاعر صامداً في
مواجهة مخاضات الفعل ورزم الأحلام على مدى تجربته الزمانية في الكتابة حسب ؟! هل
يتوجب على الشاعر أن يعتلي الشعر ويثبت أقدامه تحت قاعدة الفنار ويستقصي جهات
اللغات الأربع ،لكي يبني فكراً لاحقاً للقصيدة ، ينسجها فوق موقف حياتي لا يعرف غير
الرسوخ ؟!
يقول الناقد طراد الكبيسي في مقاله (القراء والتلقي) (2) : صنف من الكتاب لا
يضع القارئ في ذهنه حين يكتب ، لذا فهو لا يضع اشتراطات ذهنه لحساب القارئ ، ولكن
ما يكتبه - دون شك - يؤول إلى قارئ . ويضيف الناقد الكبيسي قائلاً في مكان
آخر من المقال نفسه (هناك من الشعراء من يقصد الإغماض وإغلاق أبواب الكلام
دونها . ولذا عد القرطاجني ، الدلالة على المعاني في ثلاثة أضرب : دلالة إيضاح ،
ودلالة إيهام ، ودلالة إيضاح وإيهام).
وإذا أخذنا بنموذج العالم " جاكوبسون " عن الاتصال اللغوي (3) ، فعلينا أن نقبل
القصيدة وهي تتجه إلى ذاتها (شكلها ، خيالها ، معناها الأدبي) قبل أن تتجه إلى
الشاعر أو القارئ أو العالم !! ولكن ، لان منظور مخطط " جاكوبسون " بكامله قد صار
قديماً ولحقه التطور التقني ، فقد غدا بإمكاننا أن نقول (ويحق لنا القول): إن
القصيدة اليوم ، لا تحقق وجودها الواقعي حتى تقرأ ، ووقت أن تقرأ (فقط) يكون
المستلم / المتلقي/ القارئ هو الداخل الحقيقي إلى ( جوانية ) النص على نحوٍ فاعلٍ
في رسم بناءٍ متكاملٍ للمعنى .
وينتفض أمامنا سؤال آخر نعلقه على حيطان بهنام عطاالله نقول فيه : هل واجب علينا أن
نحتكم إلى قارئ يحكم بحرية فهمه للقصيدة متخطياً الفهم الأدنى نحو الفهم الأعلى
وصولاً إلى المدرك ؟! هل من حقنا أن نطلب قارئاً يستهدي بتوجيهات النص - مطابقاً
لافتراضات مصلحة الشاعر - منساقاً وراء إرادة فهم مؤقتة وناقصة ، مثلها مثل لذة
مقطوعة ( بفعل عامل خارجي) فجرت لدى (الفاعل) الألم والإحباط (في الفعل) والرداءة
في ( النتيجة) أثمرت إزعاجاً وغيضاً شديدين لدى (كل الأطراف) لا يذهب أثرهما الباهت
سوى ( فعلٍ) جديد وناجح ..!!
لكننا نتخيل رأياً ثالثاً يقول : قد يتمكن الشاعر الحداثوي من إقناع قارئ رابضٍ عند
اسفل سلم التلقي يرجوه عبر القصيدة أن يستبطن العناصر الغائبة في النص الشعري
مقنعاً إياه بالتفاوض معها عبر سلسلة من فكٍ وتركيبٍ ، مشجعاً استعداده لقبول تعايش
سلمي وأياها ، متخيلاً انه قد وفر الفرصة للقارئ في صياغة ما لايصاغ أو هكذا يرجو
الامور أن تصير..!!
يقول أحد الشعراء في حديث عن بدايته وعن شعريته لمجلة الطليعة الأدبية : ( منذ
ملحمة كلكامش وحتى يومنا هذا ، وهؤلاء الشعراء الكبار هم الذين يجعلون من نصوصهم
الشعرية حياة موازية لحياة الواقع ، وإلا تحولوا إلي وصافين … والفرق شاسع بين
الشاعر والوصاف). وأضاف الشاعر ، ذاكراَ بعض آراء وضعتها المجلة في أعلى مقدمة
المقابلة منها( أرى قصائدي قبـل أن اكتبهـا ) و ( القصيدة الحقيقية رؤيــا تطـارد
الشاعر أو يطاردها ) (4) .
وفي مقاربة دانية من تجربة نصوص بهنام عطاالله في (مظلات تنحني لقاماتنا) ، أؤكد
ثانية كما كنت قد كتبت عن تجربته السابقة ( إشارات لتفكيك قلق الأمكنة في مجلة
الأقلام ) (5) ، إن للشاعر عالمين ، عالم لا مبالي وعالم الناس العاديين . ففي
عالمه اللامبالي يقول الشاعر : ( تتوجس رهبتي / الغارات المتلذذة بجسدي المقتول /
فوق موائد القطيعة ..) ص26 . وفي عالم الناس العاديين يقول :( بحث بين ركام قصائده
/عن نبض آخر/عن رقم سقط / من روزنامة العمر/ فتدفق من بين أنامله / وهج الأوردة /
وطوفان الذكرى ) ص32 .
وفي ظننا ان الذي يدخل عالم الشعر ، يكون كمن يبحر عباب المحيط بروعة الحلم المتخيل
، وهذا ما وجدناه لدى الشاعر عطاالله ، وهو محمل بالرغبة الجامحة في محاولة المعرفة
الشعرية ، عن طريق قهر الذات ، ممثلة اصدق تمثيل لحالة الحلم القسري في أجواء لها
فسحة محدودة الحركة .لذا فان الصوت الذي أراده الشاعر أن يكون عالياً من خلال
قصائده ونصوصه ، عن طريق الادعاء : إن الشعر قادر على خلق عالم افضل واصدق من عالم
الواقع ، ليست اكثر من فكرة طوباوية ، يطمح أن يكون لها يوماً مدينة فضلى :
(
صوت يتحجر في ذاكرة القمح / يقضم تفاحة الأرصفة المسبية / تؤرقه دمعة قفلت ستائرها
وشاخت ، امتدت مع نوايا قاماتنا / قاماتنا تقتاد من حنطة الرب المباركة ، وبياضات
الملائكة … بصمات تختم على الأرض بريد القيامة ) ص 12
ومن معرفتي الشخصية بالشاعر، أستطيع أن أقول انه لو تسنى له الاطلاع على روحه
المستقبلية ، بشكل موجات فوق الصوتية لأغراض عمليـة جراحيــة ، لكان عليه أن يؤجل
(ولو مؤقتاً) كتابات التخيل القصدي شعراً ، ويستعيض عنها بوصفٍ نثري للواقع ،
ولصار قاصاً جيداً يقتنص الموقف في مساحات بيئته الريفية ، فالشعر يكون أضيق
رومانسية وهو محبوس في بيئة بسيطة وحياةٍ رتيبة ، في حين ان القصة القصيرة يمكن أن
تنمو وصفاً وتبزغ تألقاً وحدثاً من خلال مشهد غليون عجوز قره قوشي ..!!
يحاول الشاعر بهنام عطاالله في جل قصائده ، أن يصدر أحكاماً على مستوى الكون /
العالم / الظاهر /الكلي ، منطلقاً من قاعدة الخفاء كجزءٍ من متطلبات الوعي الباطني
، ليحولها إلى دلالات رمزية قاصداً وصف المشبهات: (الأخطاء ، الخطايا ، الأديرة ،
مغاليق النشوة ، مراثي أيام الطوفان ، متاحف الشمع والفجائع ) ص12-13.(الكون قصائد
متناثرة ) ص16 ، و( تفاحاتنا تبحث عن حواء ) ص26.
ويكابد الشاعر في سبيل أن يخلق له بيئة ( رومانسية ) مرة و ( فواجعيةِ مراثي )
مرات ، متقمصاً دور قارئة الفنجان وقراءة المستقبل . إلا أن ذلك يستحيل على الشاعر
في وضعه الحالي كمتطلبات عمل حقيقية ، لا يمكن أن تنفصل عن الواقع ولا تمنح من قبل
أية سلطة فوقية .
يقول القاص يعرب السالم :( من الأجدر بالذين يدعون الكتابة وهم دون ذلك ، بل يدورون
حول ذؤابة الحقيقة ولا يملكون مفاتيح مغاليقها ، أن يصيروا خياطين أو نجارين ،
وعندها يكون إنتاجهم انفع للمجتمع) (6)
قد
يكون ذلك الوصف فيه شيء كثير من الحقيقة ينطبق في مجمله على شريحة ممن يدعون القدرة
على الكتابة . واني إذ أورده في هذا السياق فأنا لا اعني الشاعر المنقود أبداً ،
لان الشاعر عطاالله في نظري يربض في وادٍ غير وادي المدعين ، الذين عناهم
يعرب السالم ، إنما اقصد ، ان إصرار الشاعر على خياره الفني هو الذي قاده لخوض
التجربة إياها مهما كانت درجة كثافتها ولزوجتها ..! وان اختياره الانتقائي لتفاصيل
المضموم / المتخيل /الباطن ، جعله ينجح في أن يكتب الأشياء كما ترادفت على لسانه ،
حتى لو تزاحمت مع وعيه الفكري أو تقاطع يوماً مع أقلام النقاد ، وهو يستنفر القوى
الاستفهامية بوعي المجابهة ويوظف سؤال الكينونة الأزلي والجواب الكوني المطلق ،
مدعياً الحفاظ في الجانب الشكلي (من نصوصه) على الإيقاع الدلالي للمرموز الذي يتفق
حسب رأي الشاعر) والبيئة الاجتماعية والفكرية والدينية له :
(
الطبيعة فائقة التكوين / وهاماتنا أناشيد مهيبة / تدق مسامير الخديعة بأضلعنا ) ص25
، و(لان عناصري هائجة / في انغماس الغموض../ اقتناص الخمول / رزم الغبار.. فهي
دائماً / تثقل فاكهتي بخطيئة / الزوال) ص26 :
(
ولأنها وسادتنا و" وحشتنا الآهلة " / فهي دائماً مليئة بالأحلام المؤثثة / في مشاجب
الضنون ) ص38 . ( انه حلمي الأعرج / يمشي .. /على عكازة الهزائم / وشرفات الغياب /
مغاليق النشوة / تشهق في " مقرتايا " و " دير السيدة " / يمتد مثل غيمةٍ حطت على
أنفاس " الشيخ متي " / أو قلاية " ابن العبري " ) ص13 .
في
العموم يريد الشاعر بهنام عطاالله أن يضع لحياته مجاهيل ومغاليق ، كيما يناضل من
اجل قضية يدافع عنها ، لكن واقع حياته ليس كذلك ..! لان علاقته الوسطى بالعالم ما
برحت وما زالت متواضعة إلي حدٍ ما .
شاعر ليست له تجربة حياتية واسعة ، فلا علاقات عاطفية جامحة ولا ضياع في مرافئ
العالم ، ولا غربة في المنافي ، لكي ينعكس ذلك شعراً فياضاً ثوروياً ذا رؤية
دايناميكية تؤذن بصدقية الشعور الذاتي ، وتنم عن رهافة الإحساس الفردي ، أو جسامة
حافات مخاطر المصير . فلسنا كشعراء في طبيعتنا ، لنا تجربة (لوركا) أو أجواء عصر
(بودلير) أو معاناة وطن ( محمود درويش ) أو شبوبية (ايفتوشينكو) أو ريادة تجربة
(بدر شاكر السياب) ..! هذه أمثلة عن حقائق علينا أن نصدقها بمقبولية المعادلة
الرياضية ذات المجهول الواحد سهلة الحل ، ونطويها في سجلات نفوسنا كمسلمةٍ مثل
تجربة إثبات الضغط الجوي من جميع الجهات في المختبر ..!
لكن تبقى تجربة الشاعر بهنام وعنوانها الامتزاج الغريب في القدرة على توفير كمٍٍ
متزايد من المعلومات المعلبة مكثفة الإيحاءات للنقاد أن يتسّـقطوا أخبار النتاجات/
النصوص التي قد تبتعد/ تنآى / تقترب من وسائل المخاطبة الندية ، بدلاً من أن تكون
مثالاً للصورة اللازمة للقيام بوظيفة الإنجاز الشعري النابض ، فعلى مر العصور لم
يحصل الشعراء على منحة الحق في التعبير عن صراحاتهم وأفكارهم وجنونهم ، إلا بصوت
خافتٍ ، ويوم حصلوا على ذلك الحق ، كانوا غائبين عن ذواتهم ، بل كانوا ميالين إلى
قضم هواجسهم باعتبار : أن عناصرهم الشعرية الهائجة هبطت ( فوق ظلال الشك وآهات
البحر ) ، لا بل ( كانت تتوجسهم الرهبة ، وهم يرون الغارات تتلذذ متساقطة فوق
أجسادهم المدمية ، ووقتما يحين وقت الزوال ، تمحو الخطايا في آخر المطاف بالبياض )
. ص26
وفي ظننا ان اغلب الشعراء لم يستغلوا الحقوق الممنوحة / المأخوذة ، بل تقبلوها بشكل
مبتور، فلم يفلحوا في دمج عوالمهم في مسائل تحفل بآيديولوجيا حقيقية صلبة وصامدة ..
بل كان جلهم يثرثر لاجل الثرثرة فقط .
لقد رأيت الشاعر بهنام عطاالله بسيطاً ومتواضعاً في استطلاعاته الشعرية ، وتطلعاته
النصية كموضوع مطلبي ..! كان يطمح أن يأخذ محبوبته التي غالباً ما تخيلها بشكل
(غيمة فضية) ، يأخذها و( يتيه وإياها في زحمة الإحداثيات فوق خرائط اللامعنى ) ص24
.
لو
استخدمنا المعايير الفنية في تشريح ( القصيدة البهنامية ) ، لرأينا ان التعليق في
المقاطع ، إنما يعكس وجهة نظر محدودة ،وهي مع ذلك تمنح صفة (الأشجار المعمدة بالملح
للقصيدة ) ص21 . لكن الخيط الرئيسي لفعالية القصيدة عند بهنام ، إنما تستخدم بصورة
غائمة ومقتصرة على الأساليب الشائعة للسرد المزدحـم بأفكــار التضاد البنيـوي
للجملة الواحدة :
(
ارتجفت السواقي / لفظت مآقيها / اندفعت الغمامات ، أسراباً من الألم … ففتحنا
للدموع مظلاتنا / لان السماء كانت ناعسة) . ص28 ، (تسقط رطباً وأرغفة / أم أنها
غيمة كسيحة / تنثر رذاذها للآتين ؟) ص29 .
أما بقدر تعلق النص بمضمار الزمن عند بهنام عطاالله ، فنراه يتأرجح ( بين بين )
بطريقة تكاد تكون متقاربة :
(حماقات تعسكر بكل رزانةٍ / عند الدوائر / يستقطر شعوري بألقابه/ يتوثب/ فاعلن …/
انغلاق الفخامة في أبراجي) ص27 .( يبحث بين أصابعه/عن أمواج هشة /عن خيطٍ ضاع منه/
وتماهى بضوء الأمواج /سحب الخيط ../ فجاء اللاشيء معه ) ص31 ، لا بل ساندت الثنائية
المحورية مجموعة أخرى من الثنائيات المساعدة ، منها زمانية ومنها مكانية كما في
قوله :
(
تفاحاتنا تبحث عن حواء/ وسط غابات هواجسنا../ فنقضم تطلعاتها البهية ) ص26
أو
( تماثيل رثة لأرواحنا ، وهي تكشط أخطاءنا وخطايانا الملونة بملاقط الحدادين ..
وتجمع / تطرح / تقسم / وتضرب فوق رؤوسنا جذورها التربيعية / التكعيبية ، تلوك
هواءنا العميق / بصمات تختم على الأرض بريد القيامة ) ص12 .
وما بين (الأنا) ذات المكافئ الدلالي للفكر و(الأنا) المعادل الدلالي للتفكير ، سقط
بهنام الشاعر في إثم تناقضات الرامز والمرموز الفعلي بكل ثقل الواقع / النص ، لكنه
بشكل مبتسر في (محاولة) صياغة الفكرة الموصلة بين الاهتزازات السابقة والاهتزازات
اللاحقة لبنية النص ،الأمر الذي دفعه إلي صياغة جديدة تنزاح بين الزمان والمكان
(مركز ثقل الشاعر الدائم ونقطة مقتله كونه مكانياً / جغرافياً ) ، وعندما حاول أن
يكتب شيئاً عن الزمان /التاريخ سقط في الردة عند منتصف الطريـق.
والشاعر حاول من خلال محاوراته النصية الاستكشافية ، أن يتفرع بنصوصه إلى حوارات
استفهامية / جوابية ، ذات بناء سببي متطلعاً نحو بانوراما ذات شفرات سماوية مفتوحة
السعة على وفق مدار الزمن :
(هكذا أنت دائماً../ غارق بالمواعيد اليابسة / سائر فيك إليك ) . ص5
ولقد جاءت بعض قصائده أقرب إلى القصة القصيرة جداً منها إلى النص الشعري ، ص 5-6-7
:
و (
عند الجسر القديم/ وقف الشاعر يبكي من فرط بلادته !/ سئل .. لماذا تذرف هذه الكلمات
بلا جدوى ؟ / قال : كي يخلع هذا الجسر صدأه / ويلبس بدلته القديمة) ص6، و ( ما دام
الطائر يغرد خارج سربه/ فهو إذن موجود) ص7 ، فالأداء الخطابي الذي تتميز به قصائد
الشاعر بهنام عطاالله ، تلك التي تتصف بالاستقلالية تارة ، أو تقع ضمن قصيدة ذات
مقاطع قصيرة تارة أخرى ، إنما تمثل كتابة يمكن تسميتها (شعر الومضة) ، أو اسلوب
الضربة الشعرية ، أو الاتكاء على عنصر الحسم التعبيري المفاجئ ، وتعد هذه الطريقة
مخاطرة تراهن على تحقيق شعرية التأثير السريع ، الذي يخدش حاجز الاطمئنان لدى
المتلقي،عن طريق نقله من المضاد إلي الطارئ :
(تصبح أنت مثل إضبارة / كلما كثرت أوراقها شاخت / هرمت / ولبست ثوب الأسئلة الثكلى)
ص18.
في
قصائد الشاعر نستشف الهمسات الأنثوية المستغيثة بـ (الفحل المهموم بفواجعه) على
لسان الشاعر ، فنجده كمن يصف حفلة زفاف في الريف ، إذ ضاعت الأحرف الخجلى في فم
العروس وهي تمتزج بأصوات (هورنات) سيارات التاكسي، ولعلعة رصاص أبناء القبيلة ..!!
ورأينا الشاعر في اكثر من قصيدة ممسكاً بحزمة من لفائف قوالب كائنات ، تمتلك عيون
القطط ، يريد لها أن تلمع دائماً ، لكن عيون القطط لا تلمع سوى في الظلام ،لذا فان
فهمنا (كشعراء) للزمان والمكان قد يحدد لغتنا ومدياتها في تصيد اللحظة والانبهار
بالموقع ، بل ان الزمكان هو الذي يوفر الأرضية الضرورية لإظهار القدرة على تسيير
الأحداث وصيرورة النص .
في
قصائد من أمثلة (محطات تبحث عن معنى ) ص31-32 و(ومضات خافتة ) ص33-34 ، ظهر
الشاعر بأحلى صورة ، وتجلت شخصيته الحقيقية ، وهي مزمعة على السفر الأبدي في حقيبة
مليئة بالكلمات ، وكانت بحق النافذة التي أطل منها علينا نحن القراء ، إطلالة بهية
رائقة أشرفت على مساحات مزدحمة بالمسافات ، تؤرجحه قوانين الجذب والجذب المضاد ، كي
تسمو ذكرى أمه في إشعاعاتها وتوقظ من عالمها الأخروي تلك الومضات الخافتة ،
مشفوعة بوهج الأوردة وطوفان الذكرى .
وفي جرد لمصطلحات (الزمان والمكان) في نصوص (مظلات تنحني لقاماتنا) ، سنرى مدى
تأثير الجانب الاكاديمي المتمثل بالجغرافيى والخرائط في نصوصه ، وندرج الآتي مقسماً
فئوياً لجل ما استخدمه الشاعر في الديوان المنقود .
مصطلحات الزمان :
هذا العصر ص5 - شهر آب ص8 - اشتهاء الفصول ص10 - زجاج الأيام ص10 تستعير أوقاتنا
ص10 - أرخت للجروح ص13 - قانون الوقت ص14 - أبكاك الوقت ص14 - أبهة التاريخ ص18 -
قيافة التاريخ ص29 -ترجل التاريخ ص29 غفوة صيف ص38 - طاولة
الزمان ص28 .
مصطلحات المكان :
المسافات القصية ص5 - الأرض الحرام ص17 - سجل الحياة ص17 - طرقاً ملتوية ص21
-الشوا㹷ئ القصية ص23 - الطرقات الندية ص24 - تتزاحم فيها المسافات ص34.
مصطلحات الجغرافيا :
خطوط البارومتر ص6 - الجهات الأربع ص8 - انخفاض جوي ص10 - تقاطعات الطرق ص10 -
أرخبيلات ص15 - قدم الكون ص16 - إحالة الأزمنة ص16 - وجه الكون ص19 - خرائط الفلك
ص18 -رؤاه خطوط ص19 - فوق خرائطي ص21 - عند أول خط ص21 -تزكم جهاتي ص22 - راجمات
الفصول ص22 - خرائط اللامعنى ص24 - خطوط تضاريس ص25 - الطبيعة فائقة التكوين ص25 -
أمكنتي مهيبة بالفطنة ص25 - دائرة الجذب ص34 -تبعد نحو جهاتي ص36 - جغرافيا الكلام
ص36 - رسم هيئاتنا ص36 - انك الريح وأنا جهاتك ص36 .
مصطلحات متفرقة :
خيط ضاع منه - سحب الخيط ص31 - شبق الخطوط ص37 .
(1)
مجلة الاقلام
، العدد (6) ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 1999 . ص82
(2)
مجلة آفاق
عربية ، السنة الثامنة عشرة ، اب ، 1993 . ص ص28-29
(3)
المكان نفسه
، ص31
(4)
مجلة الطليعة
الادبية ، العدد الاول ، دار الشؤو الثقافية العامة ، بغداد ، 2000 ،. ص39
(5)
مجلة
الاقلام ، العدد (5) ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 2001
(6)
جريدة نينوى
، ثقافتنا ، العدد (142) ، الاحد 2 شباط 2003 .
أفق الحداثة
في
(مظلات تنحني لقاماتنا)
أنور عبد العزيز
مجموعة شعرية جديدة ، تتألف من سبع عشرة قصيدة ، في أربعين صفحة - الموصل 2002 -
للشاعر الدكتور بهنام عطالله ، اغلبها (قصائد نثر) وفيها القليل من شعر (التفعيلة)
والاقل الاقل من الموزون المقفى ، فالشاعر اجتاز بقصائده أفق الحداثة إلى ابعد
مدياته ، والشاعر - وكما في مجموعاته الشعرية السابقة - ملتزم بهذه الحداثة
ومعطياتها ودلالاتها وموحياتها - رؤى وأخيلة وتعابير وكلمات - حد التطابق الكبير
بين ما يعايشه ويعانيه - تجربة وفناً شعرياً - وبين الطرق الحداثوية الجديدة في
التعبير والبوح بما يخفف عن الإنسان الشاعر من ثقل الحياة ، وبما يجعل من هذه
الحداثة متنفساً يحرر الشاعر من كل المقيدات الشعرية - وتحت كل المسميات - ويمنحه
فيض التدفق الشعري الحر ومن الروح والقلب والضمير ، ومن كل ارتجافات وانفعالات
ونبضات وأحاسيس الإنسان - الكائن العجيب الذي يشكل كتلة ملتهبة من الانفعالات
والمشاعر المتقدة والمتوهجة طيلة سنوات عمره الموجع والمهموم والمثقل اصلاً بمحنة
وجوده ولغز هذا الوجود .
ما
أحلى أن يبدأ الشاعر قصائده او قصته : (وتشم عطر فجائعي) .. بهذا المقطع الذي يمجد
( الجقيقة) : ما نحصل عليه في حياتنا هو الغبار ، والغبار فقط !! فتعالوا " نجر هذا
العصر من لسانه المبتذل ، ونمشي عراة لقول الحقيقة ) ص5 .
في
هذه القصيدة نجد الشاعر يلجأ الى ما يشبه ( القصة القصيرة جداً) في اسلوبه ، فهو
يقول : تمرد الخيط / حينما دخل الشاعر/ من ثقب ابرة صاغراَ !1 وقدم شكوى الى هيئة
الامم المبعثرة) ص7 .
وفي قصيدة (انخفاض جوي) يستعير الشاعر مصطلحات واجواء جغرافية لا تبدو متكلفة ، بل
هي تجيء طبيعية لتعبر عن الحالة النفسية للشاعر : ( ولان السماء عزلتك المفرطة /
فأنت واضح كالخديعة / تسح خلف زجاج الأيام / كيف تنهض من أعماقك ، مثل انخفاض جوي
مزمن لتستعير أوقاتنا ، وتلقي عن كاهلك سحباً للذكرى ) ص10 .
اما قصيدة ( متاحف متاحف ..أيتها الفجائع فجاءت ترنيمة حزينة للوجع الانساني
واستنكار الروح الجشع والاحتكار التي تلوثت بها بعض او اكثر من الضمائر الميتة
وبسبب من (فرص) وفرتها لهم الحروب:
(
لتحتفلي يا متاحف الشمع بفجائعنا ، بالسنة النار وزناخات الاغنياء ، فعلى راحة
لسانك ، سأقص شريط الطفولة ،علة مقاس حدقاتي واخطه على طاولة الهزيمة !1 القي به
على مساطب اسواق الباعة المحظوظين وسماسرة السوق السوداء/ البيضاء .. لا فرق ، انه
حلمي الاعرج ، يمشي على عكازة الهزائم ) ص13 ، وفي القصيدة استذكارات الشاعر
المؤلمة عن الحرب واهوالها وكوارثها ، والقصيدة بكلمات دالة تذكر الشاعر وتذكرنا
جميعاً يالحرب ، ومنها : ناقلات الجنود ، محطات البريد ، كردمند ،مدافع الهاون ،
نقالة الاسماء ، مستشفى الصديق وغيرها ص15 .
وفي قصيدة (بيان غير رسمي لموت معلن) والتي وضع مقولة لهمنغواي أي مقدمة لها : (
الكتابة بلغة واضحة عمل صعب) ، ولست‘ مع وضع هذه المقدمات التي اخذت تكثر عند
الشعراء والقصاصين ، فمثل هذه (المقدمات) لاتضيف شيئاً ولا تقول شيئاً ولا (تقوى)
المعنى او ترمز اليه ، لاننا نريد المعنى (قوياً) من عند الشاعر او القاص ، بل الذي
يحدث من تاثير يأتي معكوساً . ففي كثير من الحالات لم يستطع القاص او الشاعر - وبكل
نصه - ان يلاحق ويستوعب المعنى العميق للمقدمة التي استعان بها ، وهذا مما يضعف
(نصه) في إحداث التأثير المطلوب عند المتلقي ..
وفي (ظلال المعاني) :
(تصبح انت مثل إضبارة ، كلما كثرت أوراقها شاخت / هرمت ، ولبست ثوب الأسئلة الثكلى)
ص18 .
وفي قصيدة ( مزامير النوايا المتقاطة) تتردد ايضاً كلمات : الجغرافيا والخرائط
والمتاحف موحدة بمزمور ونشيد حاول أن يرقى لمصاف ودرجة وحدود الشعر ، لكن غلبة
(النثر) عليه اطفأت أو أضعفت من شعرية القصيدة .
أما في قصيدة (بنية الفراغ) ص23 وهي من القصائد المهداة ، وقد كثرت في
المجموعة (اهداءات القصائد ) ولا أجد مبرراً لمثل هذه الاهداءات الكثيرة ، وربما
جعلت القارىء يشعر ان القصيدة اخذت طابعاً شخصياً بين اثنين : الشاعر والمهداة اليه
القصيدة ، وربما أحس المتلقي ايضاً بأنه لم يعد هدفاً للشاعر ليصله بما يقوله
، بل اصبح خارج (الاثنين) وغريباًعن الشاعر وقصيدته ، ومثلها أيضاً قصيدة : (مظلات
تنحني لقاماتنا) ص28 -عنوان المجموعة - فهي مهداة لثلاثة ومؤرخة في 28 آذار 2001 ،
وفي مثل هذه الاهداءات (نفس إخواني) ، لا أعتقد أن القارئ - وهو هدف كل نتاج ادبي -
معني به .. وفي (شاعر) ص32 واسلوبها مما يقترب ايضاً من فن ( القصة القصيرة جداً)
وبما يؤكد مسألة التناغم بـ (الأجناس الأدبية) في النص الواحد : ( بحث بين ركام
قصائده عن نبض آخر عن رقم سقط من رزنامة العمر ، فتدفق من بين أنامله وهج الأوردة
وطوفان الذكرى ..
أما قصيدة (ومضات خافتة) فتتألف من أربعة مقاطع وكل مقطع منها مهدى لواحد : (كتب
سطراً آخر ، لم يعلم انه قد شارف على السفر الأبدي فترك حقيبته مليئة بالكلمات) ..
أما قصيدة ( يتراءى لي انك الريح وانا جهاتك) ص37 فهي مهداة ايضاً ..
وأخر القصائد (انشوطة) ص37 نلمح الغيم والبرق والريح والشمس والمطر :
(مثل غيمة يثقبها البرق ، يقذفها بوجه الذهول ، أنشوجة تتثاءب ، تنقش إشارات تمنطق
بأكف الريح ، واخفاقات التوجس ، تحط بذذائذنا / منذ أول هفوة باذخة لمظلات تنحني
بذهول المطر) ..
قصائد هذه المجموعة كتبت في السنوات 1999 و2000 و 2001 وثمانية منها سبق نشرها في
صحف : الزمن والحدباء ونينوى والجنائن والزوراء . (1)
(1)
جريدة الحدباء ، صفحة ثقافة ، العدد (1232) الثلاثاء 23 نيسان 2002
.
آلية الوعي الإبداعي والرؤية الشعرية في
(مظلات تنحني لقاماتنا)
وعداالله إيليا
الشاعر بهنام عطاالله جايل الشعراء السبعينين وتفاعل معهم . كتب الشعر وفق طريقته
الخاصة ، ضمن مناخ شعري متوهج .تمثل تجربته الشعرية في مجموعته الأخيرة (مظلات
تنحني لقاماتنا) لحظة الإشراق الحقيقية التي لها القدرة على رؤية العناصر المبهمة
واختراق المنظور بلغة دفاقة ، والتي هي أهم ما يتميز بها في مجموعته
الأخيرة هذه . فشعره يتسم بالحداثة من جهة وتمثل دلالة على قوة الجذر الروحي العميق
الذي يشده بالمنظور الحياتي للشعر بما فيه من حسي الانتماء والانحياز الى ما هو
بشري في الحياة اليومية للإنسان من جهة أخرى يقدم لنا الشاعر واقعية من طراز خاص
تعانق ما هو محسوس ومملومس في قاموس شريطه الحياتي حيث يواصل الشاعر شروعه الجمالي
شأن بقية المبدعين العراقيين والعرب . يقول وهو يضرب بوجه الزيف والتمويه : (ما
نحصل عليه في حياتنا هو الغبار والغبار فقط) ص5
للشاعر بهنام عطالله إمكانية إبداعية عالية لمعالجة قضاياه الفكرية التي تمتاز
بالغموض والتمرد ، فمفرداته تحمل معناها المحدد دون ان ينتابها أي ترهل أو زوائد ،
والشعر لديه يعني نوعاً من الكشف لما وراء الواقع .. انه ضمير الإنسان وصوت
المستقبل . لقد شغلت الشاعر مشكلات ومعضلات الوجود البشري منذ اول عهده بالشعر ،
فهو ينظر إلى هموم وقلق الإنسان من الداخل ويعيشها بقوة بغية كشف ما هو كوني ومصيري
، في محاولة منه لإثارة الجانب الغامض والمجهول من الإنسان :
(الكون قصائد متناثرة / غابة للمكن / ساحة للمستحيل / الممكن إطارات مثقوبة ما زالت
تترنح ، مثل خطيئتنا الأصلية ). اللغة الشعرية عند الشاعر لها سمات ومواصفات خاصة
لانها مادته الوحيدة في تجسيد ذاته وشحن فكره ، إنها لغة شفافة تمتاز بدقتها وعمق
إيحائها من جانب ، وفي نسيجها الفني المحكم ومحتواها ذي الأبعاد الفلسفية الشمولية
من جانب آخر
نقف عند أعتاب المجموعة الشعرية ونحن بحاجة إلى تأمل خاص لإيمان الشاعر في الوصول
إلى شخصيته المدفونة في مكابداته ومعاناته ، متجاوزاً أحلامه وكوابيسه :
(من افق المتاهات / كانت تتشظى / مثل غفوة صيفٍ تدور في دواليب رطبة / ولأنها
وسادتنا / فهي دائماً مليئة بالاحلام المؤثثة / قي مشاجب الظنون / مكسوة بجراح
المعنى ..) ص38
إن
طريق الابداع طريق صعب وطويل جداً ، لكنه في الوقت نفسه ممتع وجميل ، لكل جيل من
الاجيال الشعرية لغة خاصة يبدع بها ويحقق ما يريد من رؤى ويجسد ما يريد من احلام
ليصهرها في شاعريته المتوهجة بطقوس وانساق رؤيوية رائعة .وايحاءات خاصة .
لغة الشاعر لغة جميلة لها هندستها اللغوية التي لاتتفق عند حدود الشكل بل تتخطاه
الى المضمون وفق تخطيط دقيق وروحٍ متجددة .فالشاعر يقدم لنا في تجربته الجديدة
نصوصاً يشع وجهها بوجه المتلقي بآلية متقنة ومتوازنة :
(
ونحن نعغر خاتم أصبعنا بتراب الأبدية ، ارتعشت السماوات / ولانه البدء / ايقنت
الدروب باقدامنا / واستباحت قاماتنا ظلنا ..) ص28 .
ينطلق الشاعر من هنا الى تحقيق مفهوم الانفعال الخلاق في انقى معانيه ، انه يبحر في
دنيا ذاته بهدف اللحاق بقافلة الزمن ، لذلك نجد في اغلب نصوصه نمواً متدرجاًً ،
يأخذ طابع الواقعية والعمق الانساني بصورة عامة ، متجذراً بالطابع الجغرافي ،
محاولاً زج ذلك عن طريق شحنة
قراءة نفسية في مجموعة ( مظلات تنحني لقاماتنا)
عندما يبحث الشاعر عن ذاته
وسط عالم مضطرب
شوقي يوسف بهنام
جامعة الموصل / المكتبة المركزية
ما
الذي يود أن يقوله الشاعر بهنام عطاالله في قصيدته الموسومة (مظلات تنحني لقاماتنا)
، والتي جعلها عنواناَ لمجموعته الشعرية هذه . وأول ما يمكن أن يلاحظه قارئ هذه
المجموعة ، إذا كان باحثاً نفسانياَ يمتلك بعض المهارة ، وفي عنوان هذه القصيدة
بالذات ، هو فعل الانحناء ، الذي يشير الى فعل التراجع والهروب القائم أساساً على
الإحساس بالدونية وميكانيزم التعويض ، الذي يقف وراء هذا الإحساس . ولذلك فسنحاول
الغوص مع الشاعر في طبقات لا وعيه ، واحدة فواحدة ، متخذين من هذه القصيدة ومن
عنوانها مفتاحاً إلى عوالم الشاعر الذاتية ، كما تبدي لنا عبر أبيات قصائد المجموعة
ومقاطعها .
نقرأ مع الشاعر أولى إشارات تعامله مع التاريخ ، منطلقاً من تصور عالٍ ان لم يكن
مبالغاً به للذات في هذا التعامل ، هاهو يقول :
(
ونحن نعفر خاتم أصابعنا / بتراب الأبدية / ارتعشت السماوات ..) .
لا
نريد أن نمضي مع الشاعر في عملية استنطاق التاريخ ، وتفكيك رموزه وتلاشي الشاعر ،
اعني ذاته ، في تلك الرموز ، محاولاً أن يكون هو من خلال قصائده واحداً من تلك
الرموز ، التي تماهى معها الشاعر ، من خلال تماهيه مع الدوي الجمعي . الشاعر يقارن
ذاته مع رموز أخري ، وهم بالأساس ، أصدقاؤه على ما يبدو (شكر .. موفق .. سلام ) ،
كما أن الشاعر تماهى مع يوم 28 آذار ، الذي يمثل أهمية رمزية مناسبة في لا
وعي الشاعر .
في المقطع الثاني من القصيدة ، تستبد بالشاعر أزمة الشك ، بحركة التاريخ برمتها
وينتهي الشاعر ، أو يخرج من تلك الأزمة بقصور وعبثية واضحة المعالم ، ( وهي
صورة الشاعر لنفسه ) أسقطها على الأضرحة ( الأضرحة الدينية على وجه الخصوص ) . هنا
الشاعر يرزح تحت وطأة الشعور بالدونية ، ولكن هذه المرة ليس إحساس ذاتي خاص بالشاعر
، وانما هو إحساس يخص الجماعة التي ينتمي إليها الشاعر ، لنرى كيف تماهى الشاعر
برموز جماعته وعدها رموزه الذاتية ، حيث يقول :
(
أهي خرافة في المغيب ؟ / تنحو باتجاه مائدة / تسقط رطباً وأرغفة / تنذر رذاذها
للآتين ! / أهي قيافة التاريخ / أم خرافة المعنى / أم خرافة في الرأس ؟ / وهي تنحني
لقامات الأضرحة المغلفة بالكآبة ..) .
تلك إذن هي رؤية الشاعر لحركة التاريخ . ويمكن القول إن الشاعر تملكته رؤية مأساوية
، وإلا فما معنى أو لماذا وصف غلاف الأضرحة بالكآبة أو ان الكآبة غلفت تلك الأضرحة
.
من
ينحني لمن ؟ هنا يبدو الشاعر وقد عاش محنة الهوية ، ولا فرق إذا كانت هذه الهوية
ذاتية ، اعني الشاعر نفسه ، أم كانت هوية جمعية ، أعني هوية الجماعة التي ينتمي
إليها الشاعر ، أو اختزل تلك المحنة تحت مفهوم " الأضرحة المغلفة بالكآبة " . ومن
هذه الرؤية المفعمة بالحزن والسوداوية الواضحة المعالم ، سنعود بقراءتنا لفاتحة
المجموعة ، اعني القصيدة الأولى ؛ ومنذ البدء ، أعني من العنوان ، عنوان القصيدة
نفسه ، أعلن الشاعر عن الحزن الذي يهيمن على وجوده بالكامل . لقد نجح الشاعر في
إيهام القارئ للوهلة الأولى ، في تغييب أحزانه والذهاب بالقارئ للتركيز على مفردة
" عطر " الواقع ان هذه المفردة لا تتناسق مع مضمون القصيدة العام ، ومع فجائع
الشاعر ايضاَ ! اذن الشاعر يعلن أن وجوده سلسلة من الفواجع ، ولعل أهم هذه الفواجع
، هي إن الوجود عبث وان الحياة من ثم لا تستحق أن تعاش . ها هو الشاعر نفسه يقول
ذلك ، فنحن إذن لم نتجن عليه ، بهكذا استنتاج . يقول الشاعر :
ما نحصل عليه في حياتنا / هو الغبار ../ والغبار فقط) ، هذا هو المقطع الأول من
القصيدة التي جعلها الشاعر فاتحة لمجموعته الشعرية هذه . وببساطة يمكننا أن نحدد
طابع العبث واللاجدوى في هذا المقطع من خلال مفرد ة " الغبار" ، وهذه المفردة
تذكرنا بمفردة " الدخان " الذي كان يطارده فتى نزار قباني في نهاية حياته ، والذي
كان رمزاً للوهم الذي كان يعيشه الفتى ، حيث أصبحت حياته بمجملها ترجمة لذلك الوهم
. شاعرنا يعيش نفس المحنة ، محنة الضياع في متاهة الوجود ، والسقوط في براثن
اللامعنى . يقول الشاعر في المقطع الثاني :
(وتشم عطر فواجعي / تشحنها بالدموع / لان مآقيك اغتنمت / شراسة المسافات
القصية)
…
( فقدان الأمل بالمستقبل عند الشاعر ) .. و (يقظة البوح الجميل / تومض مقاماتها
الساخنة / من وجع الايعازات الركيكة / هكذا أنت .. غارق بالمواعيد اليابسة) ... (
المقصود هنا الشاعر نفسه ) و (سائر فيك إليك
…)
…
( دلالة الضياع وعدم القدرة على التوجه في المكان والزمان ) .
في
المقطع الثالث يعيش الشاعر حالة نكوص طفيلية واضحة ، الجسر القديم ، رمز اتخذه
الشاعر ليعبر من خلاله ، عن ارتباطه الحميم ببلدته ، ولا شعورياً ، ألام ، التي كما
سنرى في مكان آخر ، توحد معها الشاعر ، وأصبحت بمثابة حلقة الوصل بينه وبين العالم
الذي يعيش فيه . يقول الشاعر :
(عند الجسر القديم / وقف الشاعر يبكي من فرط بلادته / سئل .. لماذا تذرف هذه
الكلمات بلا جدوى / قال (الشاعر) : كي يخلع هذا الجسر صدأه / ويلبس بدلته القديمة )
.
فالشاعر هنا لا يريد مغادرة الجسر او عبوره ، بل وقف عنده وبكى . ماذا يعني ذلك ؟
.. ايضاً لم يكتف بالبكاء ، لا نريد الإشارة إلى ان الشاعر يعيش من خلال هذا المقطع
، الإحساس بخفض قيمة الذات ، لأنه استخدم مفردة " من فرط بلادته " . اذن الشاعر
يتهم ذاته بالتقصير لأنها لم تدرك أبعاد الواقع الذي تعيش به . الشاعر هنا ، يعيش
عزلة نفسية واضحة ، الجسر لم يعد كما كان ، بل اكتسب حلة جديدة ، الشاعر هو الذي لم
يصبه تغيير ، أي لم يتوافق مع مسار التطورات التي طرأت على عالمه ، ولذلك فمن
الطبيعي أن يحتج الشاعر على هذا التغيير ، لأنه لا يرى فيه مجال لان تأخذ ذاته
مكاناً لها فيه ، ويطمح أن يكون أو يعود الجسر على ما كان عليه و (يلبس بدلته
القديمة ) ، لان هذه الوضعية توفر للشاعر الأمن النفسي الذي لم يجده في التطورات
التي طرت على الجسر !! ولذلك فليس من المدهش أن نرى الشاعر يستمر في المقطع الخامس
من القصيدة بالإمعان في فعل النكوص هذا ، اعني علامات الحزن والبكاء التي يظهرها
الشاعر من اجل مظلاته ! ( مصادر الإشباع والأمان بالنسبة له ) . انه يقول :
(
ينهمر مطري / وتملأ وسادتي / بأحلام مؤجلة و .. / بلاغات كاذبة ) . وواضح من المقطع
السابق إن الشاعر لم يكتف بحالة النكوص والتقهقر التي عاشها ، بل وصل به الحد إلى
أن يصل إلى حالة اليأس والقنوط
Hopelessness
.
إن
ما يمكن ملاحظته في مجموعة الشاعر هذه ، هو كثرة استخدام الشاعر لمفردات مستمدة من
حقله الأكاديمي ، اعني (الجغرافيا) ، جعلت من المجموعة وانطلاقاً من هذه القصيدة ،
والقصائد اللاحقة أن تكون ذات مسحة جغرافية واضحة ، وهذا إن دل على شيء ، فانه يدل
على ان الشاعر قد استطاع أن يكيف مفردات الجغرافيا لخدمة حاجاته وصراعاته النفسية .
وعلى الرغم من إهداء المقطع السادس ، لا يتناغم أو لا يتسق مع المناخ العام للقصيدة
، إلا أن مفردة ( البارومتر) جاءت متفقة تماماً مع ذلك المناخ ، اعني مناخ (
التقهقر والنكوص) على المستوى اللاوعي ومشاعر الندم
remorse
على مستوى الوعي .
إن
عدم تأشير خطوط البارومتر لدرجة الشخير ، تعني ، من وجهة نظرنا على الأقل ، عدم
ظهور تغيير يذكر في حياة الشاعر . ولا ندري لماذا هذا الإقحام لهذا المقطع ، وبهذا
الإهداء بالذات . هل وجد الشاعر في شخص صديقه رمزاً لمناخه النفسي الراكد ! يقول
الشاعر :
(لم تؤشر خطوط البارومتردرجة / شخيره هذه الليلة / لحدوث عطل فني في قلبه (
رمز لتوقفه عن التفاعل السليم مع الحياة) .. فأبدلها بسمفونية لاوبرا محلية
.. ( رمز إلى نمط سلوكي بدائي ) .
عاد الشاعر في المقطع السابع إلى وعيه ، بعد ما كان اللاوعي مهيمناً عليه . في
المقاطع السابقة وبمبادرة أخرى ، ان الشاعر ، على ما يبدو ، قد استدرك زيغانه في
حالة لا وعيه تلك ، لذلك فليس من المستغرب أن نرى الشاعر يستخدم مفردة " الأحابيل "
على وجه الخصوص ويضفي عليها تسويفاً منطقياً ، من اجل إيجاد شرعيتها وعقلانيتها في
المسار النفسي للشاعر . فهو يقول :
(
هذه الأحابيل / ليست للحماقة والتفاهة / أو للكراسي الأنيقة / بل .. / مناشف نؤثث
بها أدغالنا ) .
ويستمر وعي الشاعر في مقاومة ضغوط لاوعيه ، محاولاً الظهور بمظهر المتمرد على قيمه
(قيم الجماعة التي ينتمي إليها) ، بل يذهب إلى ابعد من ذلك ، فهو يعد التمرد مؤشراً
للوجود السليم . إن هذا يذكرنا بالكوجيتو الديكارتي ( ويمكن إجراء مقارنة بسيطة بين
نوعي الكوجيتو على النحو الاتي : أنا أفكر إذن أنا موجود ( ديكارت) : أنا اغرد خارج
السرب .. إذن أنا موجود (الشاعر)
إلا أن صحوة الوعي هذه لم تستمر كثيراً عند الشاعر على ما يبدو ، وهذا يعني من ثم ،
فان آلية النكوص والتثبيث ، هي آليات فعالة عند الشاعر، بمعنى ان الشاعر لم يتمتع
بحالة النضج إلا لفترة عابرة ، سرعان ما عاد إلى حالاته السابقة صاغراً ! إذا
استخدمنا مفردة الشاعر نفسه .. وها هو يقول :
تمرد الخيط ،( رفض الجماعة) .. حينما دخل الشاعر من ثقب إبرة صاغراً ( محاولة
للتوافق معها) .وقدم شكوى إلى هيئة الأمم المبعثرة (نكوص الشاعر الواضح متخذاً
اسلوب الشكوى ، وعدم ثقة الشاعر بالآخرين عموماً ) ، تلك هي الفواجع التي انفلتت من
لا وعي الشاعر ، في لحظة من لحظاته الشعرية ، التي وكما يبدو ، من الخصائص العامة
للمجموعة ، إنها لحظات مكررة ومنفصمة لمشاعره .
* * *
ويستمر الشاعر في القصيدة الثانية للمجموعة والمعنونة " خرافة " بعملية استبطان
نفسي لمحتوياته النفسية ! عبر واحدة من مراحل تطور وجوده الذاتي ، ويمكن وصف تلك
المرحلة ، بأنها مرحلة ضياع ومرور بأزمة البحث عن الهوية . والقصيدة بأحوالها
النفسية العامة ، توحي للدارس ، النفسي على وجه الخصوص ، إنها من جنس اليوميات
والمذكرات الشخصية ، فهي إذن ، واحدة من مصادر سيرته الذاتية ، التي يمكن الركون
إليها في دراسة شخصية الشاعر . فالشاعر يعاني وكما يبدو للوهلة الأولى من ما يطلق
عليه بلغة الطب النفسي
Deporsonaliazation
، أي فقدان الآنية ( وهو اضطراب الشعور بالذات واحساس المريض بانعدامه ، أو بعدم
واقعية وجوده ، أو بأنه تغير ، أو اصبح كأنه شخص مختلف عما يعهده في نفسه .. ) (1)
. وسواء كان هذا الإحساس ، هو إحساس الشاعر نفسه ، أو كان وصفاً لاحساس شخص أخر ،
فالأمر على المستوى النفسي ، هو أمر واحد .. المهم هو ان الشاعر قد عرف مثل هذا
الإحساس وعبر عنه ، في صورته هذه على اقل تقدير . لنقرأ معاً هذه القصيدة ، ونرى ما
مدى صحة افتراضنا هذا :
ينظر في الاسفلت / لا يرى إلا ذاته ( رمز النظرة السوداوية للعالم ) . ينظر في
الأفق ( رمز إلى الضياع وعدم القدرة على التركيز ) . لا يرى إلا نفسه (
الشاعر مقطوع الصلة بالعالم الخارجي ) . فالجهات الأربع : شمال+ جنوب+ شرق+غرب =× (
ذروة الإحساس بفقدان الآنية ) .. يقرأ في كتاب قديم او جديد ..لا فرق لا يلفظ
سوى اسمه ( حالة التناقض الوجداني
Ambivaience
.(2). يمشي فيمشي (هو) خلفه / مثل غيمة في شهر آب ( حفظ خبرات الماضي ومحاولة
الإنكار لها وربما ممارسة فعل الاجترار ) .. يهذي .. ( الوصف واضح لا يحتاج إلى
تعليق ) .. فيعود إلى نفسه ( عودة الاستبصار (3) لدى الشاعر واستدراك
حالته آنياً ) .. هذا الرجل كيف سيعرف .. ( إن القبضة من ريح وأصابعه محض
هراء والأقدام خرافة ).. ( مرة أخرى الوقوع في الإحساس بفقدان الآنية )
ما
الذي يمكننا الخروج منه ، من خلال قراءتنا لهذه القصيدة وعلى هذا النحو ، الذي
رأيناه ..؟ ولا شك ان ثمة أزمة نفسية يعيشها الشاعر أو بطل القصيدة ، إذا شئنا
الدقة ، لا شيء إلا لان القصيدة لا تحمل اهداء محدداً ، ومن ثم فأن القصيدة ما هي
إلا صورة رمزية للشاعر نفسه ، وكما لاحظنا أثناء تجوالنا في تضاريس القصيدة التي
حاول السير عبر مساراتها الشاعر ، إنه يعيش أزمة خلط أو عدم تمييز أو فعل بين حدود
ذاته ، وبين حدود العالم الذي يعيش فيه . إذن تلك هي الأزمة التي يعيشها الشاعر ،
حتى لو كانت بصورتها الرمزية على اقل تقدير . فهي أزمة اضطراب العلاقة مع المكان
disoriention for place
إذا استخدمنا تعابير الطب النفسي . نحن لا نريد أن نتهم الشاعر ، على أساس كونه
مصاباً بالفصام أو لديه أعراض فصامية ، ولكن ما نريد التأكيد عليه ، إن الشاعر يمكن
أن يكون واقعاً تحت وطأة الشعور بالاغتراب
a lienation
. (4)
(1) الخولي ، وليم ، الموسوعة المختصرة في علم التفس والطب العقلي ، دار المعارف
بمصر ، 1976 . ص137
(2) المصدر نفسه ، ص 30 - 31
(3) المصدر نفسه ، ص 260
(4) جريدة ( بلا اتجاه ) العدد (6) الاربعاء 8 ت1 2003
قامات لا تنحني لمظلات الزمن
جبو بهنام بابا
يشكل صدور المجموعة الشعرية الثالثة للشاعر بهنام عطاالله
والموسومة ( مظلات تنحني لقاماتنا ) ، ومضة جديدة وإضافة إلى مسيرة الشاعر ، الذي
عاصر جيل السبعينات ، الجيل الذي قدم وانتج نصوصاً لها حضورها الفاعل على خارطة
المشهد الشعري العراقي لا بل العربي ضمن تجربة اتسمتْ بالنضوج والتجريب .
والشاعر في نصوصه - كما كتب في غلاف المجموعة - يعبرعن فهم وجداني بأحاسيس مرهفة
، فجاءت نصوصه (الجغرافية )، كحقل مسور مغلق ، لا ينفتح إلا لقوانين التصور التخيلي
. فعدت كلوحة متماسكة البناء والرؤيا ، من خلال صور مرمزة مشفرة ، ليس في نص
معين ، بل في أغلب النصوص ، إن قدرة الشاعر على استقطاب الأحاسيس العامة ، جعلته
يهرب نحو الحدث بشكل تصاعدي / متفجر :
(
وتشم عطر فجائعي / تشحنها بالدموع / لأن مآقيك إغتنمتْ شراسة المسافات القصية /
ويقظة البوح الجميل ) ص5 .
ويتخذ حلم اليقظة عند الشاعر عاملاً محرراً للنفس ، يتناسب مع ثقل الخزين الذهني ،
والذي يشكل في نصوصه حقيقة جمالية ، ممزوجة بالقلق اليومي متداخلة مع فكرة الصراع
ما بين الإيهام والوضوح ، وما بينهما يستنزف الشاعر مخاوفه القديمة / الجديدة :
(
بيان أدم / مقطع لغناء قديم / قدم الكون / إحالة لأزمنة لم تبدأ بعد / الكون قصائد
متناثرة / غابة للممكن ../ ساحة للمستحيل / الممكن إطارات مثقوبة ما زالت تترنح من
ثقل خطيئتنا الأصلية / لكن خطيئتنا ما زالت تحمل ضجيج / البهجة والحكمة / وتزرع
الأدغال في سترة الندم } ص16
.
تلك هي بعض من الخطوط البيانية المشفرة ، وربما إن غياب الوضوح - هنا - يطرح
أشكالاً معقدة ، تخلق عند المتلقي خيبات وإنتكاسات مليئة بالمرارة والفجيعة . كما
تظهر صيغ الأسئلة بشكل قلق ، وهي تراقب خرائط الفلك ، وما تلقيه من عواصف
ورعود وأمطار ورياح :
(
هي فنارات استقامت لخريف الحرب / ضباب يتأرجح من آهاته / وهو يراقب خرائط الفلك /
تفتح الملائكة راداراتها / مواثيق لنهود نافرة / عقود غبطة / وبلاغات لم تعلن / من
أجل أبهة التاريخ وبهجته ) ص18 .
ولكي ‘يعبر الشاعر عن دواخله ، تأخذ الرموز الرياضية والمصطلحات الجغرافية عنده
مكانها في بناء القصيدة
:
(
..فالجهات الأربع / شمال+ جنوب+ شرق+ غرب =
x
} ص8 .ويبقى المفهوم العام في عملية بناء النص عنده ، هو تحرير النص ذاته من كثرة
الأعباء: كالاستطراد والترهل والانفلات نحو اللاشيء :
(
يتوكأ على خرائط نحيفة / تسعل بقاياه / تنهض الهزيمة بسيقان الأخطاء ../ يدس
أنفاسه بين المناقل والمثلثات / ينسج من نور الأبدية طرقاً ملتوية / تعلب الفخامة
في متون الهيئات) ص21 .
إن
الصورة الشعرية عند الشاعر ، هي الإشارة في التكوين الأخير في مدلولات القصيدة ، من
خلال الجدل القائم منذ الأزل بين الظلمة والنور ، وهذا ما يربط الشاعر بعلاقة وثيقة
بين حيرته وهواجسه ومدلولات المكان وأصدء الأسماء والظواهر المرئية واللامرئية ، من
خلال خزين تصوري لهذه المدلولات :
(
ونحن نعفر خاتم أصبعنا / بتراب الأبدية / ارتعشت السماوات / ولأنه البدء / أيقنت
الدروب بأقدامنا / واستباحت قاماتها ظلنا / ولانه الشارة / ألقى همومه على طاولة
الزمان ) ص28 .
وهكذا حشد الشاعر في مشغله الشعري- قصيدة النثر- دلالات رمزية وتخيلات صورية لرسم
نصوص ذات بناء فني مكثف ، بما فيها من تنويعات نثرية ، وامكانية في بناء أشكال
ومتغيرات متداخلة ، وما يتمخض عن ذلك من انفتاح رؤيوي نحو الأبعاد ، للبحث عن
الملاذ الآمن على ضفاف نهر الزمن / الحياة .
(1) نشرة في جريدة
الجمهورية ، صفحة آفاق ثقافية ، العدد ( 10802 ) ، 9 نيسان 2002 .
المخيلة والرؤيا ..
انعكاس الداخل وتمرد الخارج
في
( مظلات تنحني لقاماتنا )
فارس
عبدالله الرحاوي
قد
يصعب الجهر بالأشياء ، حين تكون المواجهة من قبيل محاولة ملحة لاغتيال حلم ابدي ،
ولكن دوافع التمرد الداخلي للإنسان (رفضاً) ، وهمومه تجعلان الصمت مستحيلاً ، حيث
دواخل الصمت مبنية ومؤسسة على رفض يستحيل القبول بظواهر الأشياء ، فيتحول هذا الصمت
إلي تحدٍ ، ونقي لعالم (ممسوخ) في واقع حقيقي باتجاه نتائج مجهولة .
و(مظلات تنحني لقاماتنا) مجموعة شعرية جديدة يقدمها الشاعر بهنام عطاالله بعد
مجموعتيه (فصول المكائد) عام 1996 ، و(إشارات لتفكيك قلق الأمكنة) عام 2000 ، هذه
المجموعة الثالثة تتوزع على مساحة شعرية بلغت سبع عشرة قصيدة ، مليئة بانعكاسات
الداخل نحو الأخر ، وتمرده على الخارج المستهجن ، تمرداً يبدو رفضاً في اكثر حالاته
، رفضاً يبحث عن وجود حيوي جديد ، يستقي حيويته من دلالة التعابير الموحية المرتبطة
بمفاهيم عقائدية وتاريخية . وإذا أردنا أن نقف عند عنوان المجموعة ، فان عنوانها
مختار من عنوان قصيدة بذات العنوان ، وهذه القصيدة اتسمت بتفاؤل الشاعر وتأملاته
المستوحات من الواقع التاريخي ، ومن خلال تداعيات المستحيل ، فخاتم الإصبع الذي (
يعفر تراب الأبدية) دلالة على قران الشاعر بالأرض ، وتقديمه مهراً لقدسيتها وعلاقته
بها ، التي لا تحدها حدود في قوله :
(
ونحن نعفر خاتم اصبعنا / بتراب الأبدية.. ) ص28
لقد بدأت قدسية الحياة على هذه الأرض، منذ أيقن الشاعر ان الدروب تجاوزت كل الظنون
في رجالها ، وايقنت - من خلال قدرة الإنسان ان ثمن الحرية مرهون بدماء المحررين ،
فانفتحت أمامهم ، ولان قيم الفارس/ البشرى الذي يحمل شارة النصر ، والذي هيأ الأمة
، وأعادها إلى تكوينها الأول ، من خلال صقلها (تجدداً) مع الحياة ومجابهةً للشر ،
لتكون في ثوب العصر ، قدرة العصر ذاته وليست اقل منه يقول الشاعر في هذا :
(
ولانه البدء / أيقنت الدروب بأقدامنا / واستباحت قاماتها ظلنا / ولانه الشارة /
ألقى همومه على طاولة الزمان / لفظ أنفاسه فوق بسمته الوحيدة.. ) ص28 . ولأنه دلالة
الواقع وشارة الحياة ، كان يحمل كل آلامها ومآسيها وفواجعها وأنينها النازف بعمق
التاريخ ، يحمله متاعاً وشقاءً ، يبحث عن أمكنة قريبة يلقي فيها هذا المتاع الثقيل
، ولانه كان معبأ بزهو التاريخ وفتوحات الأجداد وانتصاراتهم باتجاه الحياة
المستقبلية الجديدة يقول :
(
وعندما صقل تكوينها الأخير / ارتجت السواقي / لفظت مآقيها / اندفعت الغمامات
أسراباً من الألم / وعند اقرب حفرة دالة / سقط متاعه ) . ص28
لم يكن سقوط ذلك المتاع عفوياً ، وانما سقط بقوة القلب ، ورباطة الجأش ، وغلبة
السواعد وانتصار التاريخ، فحتمية النصر كانت ترقباً زمنياً (مؤقتاً) لما سيحدث ،
لذلك كانت نشوى النصر سبباً عفويا لكي يفتح المنتصرون مظلاتهم لدموع الفرح بالنصر ،
السماء ( ناعسة) أمطارها رصاص وذكريات ، وهي ترى روح الشباب تبعث من جديد :
(
ففتحنا للدموع مظلاتنا / لان السماء كانت ناعسة / تهطل رصاصاً وذكرى / والتجاعيد
بدأت بالرحيل / من صهوة اليقظة ) ، بيد أن ما يؤخذ على هذا المقطع ، من هذه القصيدة
استخدامـه للفعلين ( إرتعشت ) و ( إرتجت ) في قولـه ( ارتعشت السماوات..) و( ارتجت
السواقي ..) ، ولو قال الشاعر ( إستبشرت السماوات ) لكان اليقين أوكد والأمل بالذي
سيأتي بشرى حقيقية يستنبطها من حقائق التاريخ . فضلاً عن ذلك أرى إن الشاعر قد زاد
في حشو جمله الشعرية بجملتين لو حذفتا _ من وجهة رأي _ لكان الامتداد الشعري أقرب
إلى جمالية الصورة الشعرية ، وابلغ في التكوين مما هي عليه وذلك في قوله :
(
ارتجت السواقي/ لفظت مآقيها) وعند ذلك يكون امتداده بهذا التكوين :( وعندما صقل
تكوينها الأخير/اندفعت الغمامات أسرابا من الألم) .
أما قصائده الأخرى والتي تبدأ المجموعة بقصيدة ( وتشم عطر فجائعي ) ، فأرى انه كان
الأجدر بالشاعر أن يجعلها عنواناً لمجموعته هذه ، حيث بدت اكثر قصائد هذه المجموعة
ذات محاور متقاربة فيما طرحه في قصيدته الأولى وبذات المضمون ، ففي هذه القصيدة
يقول :
(ما نحصل عليه في حياتنا / هو الغبار / والغبار فقط !! ). وفي قصيدة ( انخفاض جوي )
فيقول : (
كيف تتراشق بالسنابل / عفواً .. بالقنابل / وتسرق ملح وجهي / وأنت ../ تنزف اشتهاء
الفصول ؟ ) . وفي قصيدة يقول :
(
متاحف متاحف أيتها الفجائع ) يقول : ( انه حلمي الأعرج ../ يمشي على عكازة الهزائم/
وشرفات الغياب..) . أما قصيدة (خرافة) ذات الاقتباس ( الصوفي ) في مقدمتها ، حيث
'يسخر مقولة النفري :( كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ) ، والتي سخرها شعراء آخرون
لاتجاهاتهم الفكرية والشعرية ، فان الشاعر بهنام عطاالله قد يكون نقلها أو حورها
بقوله : ( حين يضيق الأفق بعينيك ، تتسع جهات الأرض الأربع ) ، ولكن هذه المقولة لا
تتفق _ في رأي _ مع عنوان القصيدة ومضمونها ، فمقولة النفري امتداد غير مقيد وغير
محدد بجغرافية المكان في الشمال والجنوب والشرق والغرب ، حيث أنها امتداد أفق كوني
لا حدود له ، تنقلب فيه الرؤية إلى رؤيا ، وعند ذلك تكون العملية اختراقاً للمكان
والزمان ، فتبدو العبارة ضيقة أمام هذا الأفق الكوني .
لا يبدو الأفق في قصيدة ( خرافة) ضيقاً كما ورد في مقدمة عطاالله ، كما لم تتسع
الجهات الأربع ، التي هي جزء من الأفق الكوني ، ولكن الذي بدا ضيقاً هو تلك (
الرؤيا) حيث تحولت إلى ( رؤية) قريبة وبسيطة في حدودها المكانية ، ولذا بدا كل شيء
( خرافة) منذ كان :
(
يقرأ في كتاب قديم / أو جديد .. لا فرق / لا يلفظ سوى اسمه / يمشي فيمشي (هو) خلفه
/ مثل غيمة في شهر آب / يهذي ../ فيعود إلي نفسه ..)
فضلاً عن الذات التي لم تسع للكشف عن نفسها وعن حقيقتها ، كما لم تسع لكشف الآخر ،
وذلك لقصر الرؤيا ، حيث ان الرؤية لم تتجاوز حدود (ألانا) ، رغم ما سعى الشاعر إلى
الاقتباس والتنصيص في مقدمتها وفي متنها الشعري ، فبقيت هذه القصيدة عاجزة عن توفير
حالة أرادها الشاعر ، وبدت وكأنها ( من قبيل الاغتراب السلبي ، الذي يتميز بتزايد
الإحساس بالغربة والعزلة والحصار من قوى بعضها ظاهر وبعضها مجهول ).
أما قصائده الأخرى فهي بحق إضافات جديدة تبحث في ذاكرة وجودها عن ذاتها ومعناها ،
من خلال استلهام الشاعر للتاريخ والبحث عن أماكن افتقدتها الأمة متمثلة في الأندلس
وغيرها ، وما (غرناطة) في قصيدة ( محطات تبحث عن معنى) إلا رمزاً حقيقياً للأندلس
وفلسطين حيث يقول :
(غرناطة تبحث عن قصرها الأحمر / واشعار لوركا ../ وبنادق تتسكع صدئة / وقد ألقت عن
كاهلها نواياها / منذ ألف .. كانت الرايات تدق / بمسامير القلب / ألواحا تتشظى
بمراياهم / وما زالت حتى الآن / تتهادى في حلم وترق ) .
إن
الشاعر بهنام عطاالله وبرغم اللغة التي استخدمها ، والتي تعد تطوراً إيجابياً في
لغته الشعرية ، مقارنة بمجموعته الأولى والثانية ، إلا انه لم يستطع أن يتخلص من
جغرافيته واختصاصه العلمي ، وهذا ما نلحظه في عناوين نصوصه مثل انخفاض جوي و مقطعات
الفصول ، أو في لغته الشعرية مثل قوله : ( ينهمر مطري ..)،( لم تؤشر خطوط البارومتر
درجة ...) ، ( فالجهات الأربع..) ، (فوق تقاطعات الطرق..) ، ( يتوكأ على خرائط
نحيفة ) ، ( لملحمة غافية فوق خرائطي ) و( تضيق خطوط تضاريسي ) .
أتمنى للشاعر أن يتجاوز هذه (الجغرافية) المكررة في مجاميعه ، وان كانت إضافات
جميلة ، حققت ما يبغي الشاعر في لغه قصيدته وشكلها ومضمونها
. (2)
(1)
مجلة المعرفة
السورية ، العدد (641) ، شباط 2002 . ص93
(2)
جريدة
القادسية ،صفحة ثقافة ، العدد (7638) ، السبت 11 ك2 2003 .
رؤية تعبيرية ..
إضاءة الزوايا المعتمة في قامة المظلات
كريم اينا
مجموعة شعرية جديدة للشاعر بهنام عطاالله بعنوان ( مظلات تنحني لقاماتنا ) احتوت
على سبع عشرة قصيدة ، تؤكد - من خلال إشاراتها وبياناتها المكانية - ، إلي
شعور عميق ونزوع متدفق نحو تعطير فجائعه : ( وتشم عطر فجائعي / تشحنها بالدموع /
لان مآقيك اغتنمت / شراسة المسافات القصية / ويقظة البوح الجميل ..) ص5 ، إن هذه
المفارقة النثرية تخصب بنية القصيدة وتزيد من قدرتها على إدخال صور كمرجعية خطابية
، فضلاً عن كونها تقانات تعمد إلي الذهني والبلاغي ، فالشاعر بهنام عطاالله
يبحث عن الصدمة ، التي تثير المتلقي وتستفزه ، وتلقي به نحو قلق الأسئلة ، مثلما
يقول :
(
أهي خرافة في المغيب ..؟/ تنحو باتجاه مائدة / أم انها غيمة كسيحة / تنذر رذاذها
للآتين ..؟ / أهي قيافة التاريخ / أم خرافة المعنى / أم خرافة في الرأس ؟/ وهي
تنحني لقامات الأضرحة / المغلفة بالكآبة). ص29
كما أن الشاعر يعتمد على اسلوبية الانتقال الحاد من التوصيف والتكثيف إلى فضاءات من
التجريد ، ومن ثم الإيغال والتقصد في متواليات لغوية ، لها لذة الاستطـراد
نحو فضائها الأرحـب ، ويظهر هذا الأسلوب في قصيـدة (انخفاض جوي) إذ يقول :
(كيف تتراشق بالسنابل / عفواً بالقنابل ../ وتسرق ملح وجهي / وأنت ../ تنزف اشتهاء
الفصول ؟ / ولأن السماء عزلتك المفرطة / فأنت واضح كالخديعة / تسح خلف زجاج الأيام
/ كيف تنهض من أعماقك / مثل انخاض جوي مزمن / لتستعير أوقاتنا / وتلقي عن كاهلك
سحباً للذكرى!؟) . ص10
ان التعامل مع التراث والتاريخ العريق لبلاد ما بين النهرين ، خلق استمرارية دائمة
غير متجاوزة ، ذات طاقة متفجرة ، لايمكن إيقافها ، من خلال ذلك الكم الهائل من
الصور والموحيات كما في قصيدة ( مظلات تنحني لقاماتنا) فيقول :
(عبديئيل / وأصابع الكلام / في جب مار بهنام / انحدرا نحو السلم المرمري/ المؤثث
بالرموز والبخور المعتق / ترجل التاريخ ..وقد أخفى الشيب / بصبغ الرهبة) .ص29 ، لقد
استطاع الشاعر هنا أن يقدم رؤية شفافة لمرجعيات روحانية وتاريخية يؤكد فيها قداسة
هذه الأرض ، ولكي تبقى القصيدة كمنجز انتمائي لها ، من اجل الرجوع إلي الماضي
باشراقاته وتنويعاته وتداعياته .
إن إضفاء الطابع الرمزي في اغلب نصوصه ، يؤسس مرحلة جديدة باعتماده على
:الحكي والروي كوسيلة لبلوغ شعريته ، وهي واحدة من مقتربات قصيدة النثر . ففي
قصيدته (بيان غير رسمي لموت معلن) يستهل في بدايتها مقولة همنغواي :
(
الكتابة بلغة واضحة عمل صعب) ، كحجة لاتكائه على الكلام المشفر والمرمز قائلاً :
(هرب الموت إلى الأرض الحرام / لانه لم يستطع / أن يخدش حياء اللغة / فدخل في سجل
الحياة / مثقلاً بالسلاسل ) . ص16 . وفي قصيدة ( ظلال المعاني) يقول :(هي فنارات
استقامت لخريف الحرب / ضباب يتأرجح من آهاته / وهو يراقب خرائط الفلك / تفتح
الملائكة راداراتها / مواثيق نافرة/ عقود غبطة / وبلاغات لم تعلن / من اجل أبهة
التاريخ وبهجته..) ص18 .
أما قصيدة (محطات تبحث عن معنى) فيظهر فيها مفردات وملفوظات منوعة - صياد ، غرناطة
، شاعر- ما هي إلا ومضات ساطعة ، اختارها الشاعر لكي يبحث من خلالها ، عن معنىً لها
باسلوب شعري فيقول :
(يبحث بين أصابع / عن أمواجٍ هشة / عن خيط ضاع منه / وتماهى بضوء الأمواج / سحب
الخيط ../ فجاء اللاشيء معه) . ص31
وتبقى قصائده الأخرى مثل :
(خرافة ، متاحف متاحف أيتها الفجائع ، من وحي صورة ، مزامير النوايا المتقاطعة
،بنية الفراغ ،مقطعات الفصول ، ومضات خافتة ، يتراءى لي .. ، انشوطة) ، تحوم بين
فلسفة الروح والذات والشعرية المرهفة ، رغم مدلولاتها المعقدة أو البسيطة في عالم
التوظيف الكارتوكرافي ، وما يبثه فيها الشاعر من اختصاصه الجغرافي والمكاني ، وهو
يقدم خطاباً مفتوحاً لمساحة الظل حسب الرؤية التعبيرية ، التي عهد لها لإضاءة
الزوايا المعتمة لقامة مظلاته .
(1)
في جريدة الحدباء ، العدد ، صفحة ثقافة ، العدد (1345) ، الثلاثاء 14 ك2 2003 .
تنافر الوقت ودلالاته
في
( مظلات تنحني لقاماتنا )
رمزي هرمز ياكو
مجموعة شعرية جديدة تتضمن سبع عشرة قصيدة ، يحاول من خلالها الشاعر الدخول إلي
مكنونات الوقت بعدة طرق ، للوصول إلى الحس الزمني، الذي يراه مناسباً مستعملاً
الألفاظ والدلالات ومحاولاً التلاعب بمفردات الجمل للوصول إلى غايته .
انه يريد التخلص من هذا العصر والخروج منه ، لتبقى الحقيقة واضحة للجميع ، ثم
يتدارك طريقه التخلص من هذا العصر ، وقطع مسافاته:
(لأن مآقيك اغتنمت /شراسة المسافات القصية .ص5) . ومن الخروج وقطع المسافات إلى
الوقوع في المفاجأة ، التي يحاول فيها الشاعر استعارة وقته :
(مثل إنخفاض جوي مزمن/ لتستعير أوقاتنا /وتلقي عن كاهلك سحباً للذكرى ! ص10) ،
والاستعارة تكون :
(
فوق تقاطعات الطرق واشارات المرور ، حيث يتقيأ النهار صحف الليل وحبر المطابع ص10 )
.
وفي محاولة الشاعر لنسيان وقته الآتي والخروج منه من خلال غفوة قصيرة للدخول إلى
الصحو المطلق ، الذي ينشده :
(
تلقى عليها نظرة اشمئزاز أو غفوة .. أو لفت نظرٍ للصحوة . ص11) .
وفي قصيدة (متاحف متاحف أيتها الفجائع ص12-15) ، يحاول فيها الشاعر د. بهنام
عطاالله ، ترك بصمات مادية ملموسة من خلال ولوجه إلى الوقت عبر الأماكن التي تنسجها
مخيلته ، أو التي له ذكرى معينة فيها :
(لتجعليه يثرثر أمام شرائطنا البائدة ) ، وتجذره في الوقت لا يستمر بل ينهار في عدة
فترات من حياته ، واحياناً يستجمع قواه للهروب منه :
(سأقص شريط الطفولة/ على مقاس حدقاتي وأخطه على / طاولة الهزيمة !!) .وفي طغيان
الأمكنة وتداخلها مع أزمنة الشاعر تستنتج : بأن الوقت الذي يسبح فيه الشاعر ،متنافر
مع ذاته وملتصق بصحوة مستقبلية تتناثر فيه الأحاسيس والمشاعر:
(
انه حلمي الأعرج / يمشي../ على عكازة الهزائم /وشرفات الغياب) ،ثم يحيل زمانه إلى
غيمة سوداء حطت به على نعش :
(
هابطة من نعشٍ على راحة يدي) ، ويستمر هذا الهبوط في لوحة تشاؤمية سوداء ، حتى
الوصول إلى جحيم الوقت :
(
كلما رأيتك ، أقضم صدأ الزمان ) و( مثلك أيها الغارق في الغياب / يوم طردوك من جنة
الخراب)، وكلما هبط الشاعر في وقته ، يقل هذا الوقت :(ليس لك متسعاً للوقت).
واخيراً يتم التداخل الزمكاني في نهاية القصيدة هذا التداخل ، الذي يسقط من الشاعر
إلى متاهات القحط :
(مازال يلقن الشعراء الملوثين بالقصائد / درسا في الأرق الموبوء/ الساقط في .. /
أرخبيلات ومتاهات القحط) . وبعد هذا الهبوط المستمر للوقت هناك الخوف والرهبة منه ،
وكأن الشاعر يخاف من ثقوب الوقت الهاوية إليه على شكل إطارات تصارع المسافات :
(ساحة للمستحيل ، إطارات مثقوبة ما زالت تترنح / من ثقل خطيئتنا الأصلية.ص16) .
وهنا يستدرك الشاعر بعض من الاطمئنان:
(لكن خطيئتنا ما زالت تحمل ضجيج / البهجة والحكمة / وتزرع الأدغال في سترة الندم
..ص16) . ويستمر خوف الشاعر من ضجيج الوقت حتى يسقط أسيراً له : (فدخل في سجل
الحياة / مثقلاً بالسلاسل ص17) . ومع دخول الشاعر أسيراً ، ولأنه مولع بالخرائط ،
فهو يراقب مستقبله بخوف وهو:
(
يراقب خرائط الفلك ص18) . ويستمر خوف الشاعر من نهايته :
(ينسج من نور الأبدية طرقاً ملتوية .ص21)، فيركض إلى المجهول يتبعه ظله : (فاركض
أنا ..وظلي يركض خلفي . ص21 ) . وخوف الشاعر من وقته جعله يصوره كألة عصرية موبوءة
:
(في أكداس الوقت المعبأة ببراميل الحديد .ص22) ، لأنه يتجه إلى مصير مجهول:
(
لامعنى لها كمصيري .. ص23) ، وهذا المصير المجهول جعله تائهاً في إحداثيات الوقت :
(وهكذا نتيه ../ في زحمة احداثياتها المستهجنة / فوق خرائط اللامعنى .ص24) .
وفي قصيدة مقطعات الفصول (ص25-27) ، يفاجئنا الشاعر بزوال رعب الوقت المسيطر عليه
في مفارقة تهيمن عليها أشرطة الوقت الرتيبة التي تفلت منه :
(
تفلت هيمنتي أشرطة رتيبة / وقت الزوال / وتمحو الخطايا في آخر المطاف / بالبياض) .
وفي قصيدة (مظلات تنحني لقاماتنا) ، هناك صقل جديد للوقت وتداخله مع التاريخ في جو
رهيب أمام أضرحة الشهداء:
(وعندما صقل تكوينها الأخير / ارتجت السواقي ) ، ورغم هذا الصقل الجديد ، فان وقته
الذي يصوغه بشكل خيط يضيع منه :
(يبحث ..عن خيط ضاع منه .. سحب الخيط فجاء اللاشيء معه .ص 31) ، ويؤكد ضياع الوقت
منه وفقدانه له :
(الأيام .. تفلت من دائرة الجذب .ص34) ، ويمتزج ضياع الوقت بإخفاقات تولدها إشارات
متذبذبه في ذاكرة الشاعر:
(
إشارات تتمنطق بأكف الريح / إخفاقات التوجس / تحط بلذائذنا . ص37) .
إن
التنافر الزماني الذي استعمله الشاعر في مجموعته جاء مفعماً بالأحاسيس والمشاعر
الذي انطلق منها وأحالها إلي صور رؤيوية في صعود وهبوط ، ومنها استطاع ان يحيل
الغير المحسوس الى واقع ملموس ، يلتقي فيه الشاعر مع وقته ومظلاته المنحية للزمن .
(1)
مجلة (رديا كلدايا) المثقف الكلداني ، العدد (13) كانون الثاني 2004 .
الكاتب
شوقي يوسف بهنام
السيرة العلمية
- مدرس مⵃاعد / جامعة الموصل
-
مواليد عام 1957 / الموصل
-
ماجستير آداب علم النفس / جامعة بغداد / 2001.
-
عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين .
-
عضو الجمعية النفسية العراقية.
-
عضو جمعية العراق الفلسفية .
-
عضو جمعية العلوم الاجتماعية العراقية.
-
عضو جمعية الاجتماعيين العرب.
-
عضو هيئة تحرير جريدة (صوت بخديدا) الصادرة في قره قوش.
أعماله المنشورة وغير المنشورة:
-
فارس الأحلام الداخلي ، قراءات نفسية في شعر د. حكمت صالح ، الموصل ، 2004.
-
بحوث منشورة في دوريات علمية محكمة في الأردن ودولة الإمارات العربية المتحدة.
-
بحوث منجزة في مجال الشخصية والصحة النفسية والأدب وعلم النفس السياسي
-
مقالات نقدية متفرقة منشورة في الصحف المحلية.
-
الآليات الدفاعية وعلاقتها بقوة (الأنا) ، رسالة ماجستير غير منشورة ، جامعة بغداد
، 2001 .
الشاعر
د . بهنام عطاالله
السيرة العلمية
-
مدرس / معهد إعداد المعلمات / نينوى
-
مواليد قره قوش (بخديدا)
– نينوى -
العراق
-
دكتوراه فلسفة في علم الخرتط
(Cartography
/ جامعة الموصل / 1999 .
-
عضو
اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين .
-
رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الكلدان والسريان في العراق.
-
عضو نقابة المعلمين العراقيين / فرع نينوى
-
عضو نقابة الصحفيين العراقيين فرع نينوى .
-
رئيس تحرير صحيفتي : (صوت بخديدا) و (صدى السريان) .
-
رئيس (منتديات السريان
)
www.sieryan.myfreebb.com
على شبكة الانترنيت .
-
عمل مديراً لتحرير جريدة (نينوى الحرة) في أعدادها الأولى.
-
مراسل جريدة (المستقبل الجديد) الصادرة في اليونان / اثينا .
أعماله المنشورة
-
فصول المكائد ، مجموعة شعرية ، 1996 .
-
إشارات لتفكيك قلق الأمكنة ، مجموعة شعرية ، 2000 .
-
مظلات تنحني لقاماتنا ، مجموعة شعرية ، 2002 .
-
النشاط المسرحي في قره قوش .. البدايات وافاق التطور ، دراسة ، 2002 .
-
إضاءات في الشعر والقصة ، دراسات وانطباعات نقدية ، 2002 .
-
حضارتنا تجدد وابداع ، الجزء الأول ، مشترك مع الأب لويس قصاب ، 2001 .
-
حضارتنا تجدد وابداع ، الجزء الثاني ، مشترك مع الأب لويس قصاب ، 2001 .
-
الضفة الأخرى ، دراسات ونطباعات نقدية ،
منشورات
جمعية الثقافة الكلدانية ، 2005 .
-
شارك في تحرير العديد من الكتب منها : صوت ، فيض ، مسرح الأطفال في نينوى
بين الواقع والطموح ، المسرح في الموصل .
-
اعتمدت كتاباته في تحرير كتاب : (الناطقون بالسريانية والمسرح السرياني في العراق)
، تأليف موفق ساوا ، سدني
–
استراليا ، 2004 . وكتاب (مدخل إلى المسرح السرياني في العراق) ، تألف صباح هرمز ،
اربيل ، 2001 . كما اعتمد على رسالته في الماجستير وأطروحته في الدكتوراه العديد من
الدارسين للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العراق والوطن
العربي .
-
كتب عن مجاميعه الشعرية العشرات من الأدباء والكتاب والنقاد ، واصدر القاص
والكاتب يعرب السالم عن مجموعته الشعرية (إشارات لتفكيك قلق الأمكنة ) كتاباً
نقدياً بعنوان : (تنافر المفترض المكاني ) ، 2001 ، تضمن مجموعة من الدراسات
والانطباعات والمقالات النقدية عن هذه المجموعة الشعرية .
-
له
العشرات من القصائد والمقالات والدراسات الثقافية والفنية والتاريخية
والجغرافية في مجالات مختلفة منشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية .