المنهج
النقدي في" الأدب والغرابة" لعبد الفتاح كليطو
د.
جميل حمداوي - المغرب
من يتأمل كتاب الناقد المغربي الدكتور عبد الفتاح كليطو " الأدب
والغرابة" سيجد تحت عنوانه الخارجي تعيينا جنسيا يتمثل في العبارة التالية:" دراسات
بنيوية في الأدب العربي". ويعني هذا أن الناقد يسعى إلى تطبيق المنهج البنيوي على
الأدب العربي القديم قصد تحديد مكوناته الثابتة المحايثة وقواعده التجنيسية
وآلياته المولدة. ويكفي عبد الفتاح كليطو فخرا أنه أول من درس الثقافة العربية
الكلاسيكية بمناهج أكثر حداثة وتجديدا وتجريبا ولكن دون أن ينساق وراء المنهج ،
لأنه كان دائما ينطلق من الداخل النصي الذي يفرض عليه طبيعة المنهج وكيفية
القراءة والوصف والتأويل. وقبل الدخول في تحديد مقومات المنهج عند كليطو والتثبت من
صفاء منهجه ونقائه ، علينا أولا وقبل كل شيء تعريف قارئنا بالبنيوية ومرتكزاتها
الأساسية ومفاهيمها الإجرائية. وهذا ما سنسطره في الأسطر الموالية. تعال –إذاً- أخي
القارئ لنتتبع مسار البنيوية بشكل متدرج عسى أن نستوعب معا بعض دلالاتها النظرية
والمنهجية، واعذرني إن قصرت في التبليغ والتوضيح والتفسير.
1-
مدخــــل إلى
البنيـــوية:
البنيوية طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين
أساسيتين وهما: التفكيك والتركيب ، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز على
شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته. ويعني هذا
أن النص عبارة عن لعبة الاختلافات ونسق من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها
وظيفيا داخل نظام ثابت من العلاقات والظواهر التي تتطلب الرصد المحايث
والتحليل السانكروني الواصف من خلال الهدم والبناء أو تفكيك النص الأدبي إلى
تمفصلاته الشكلية وإعادة تركيبها من أجل معرفة ميكانيزمات النص ومولداته البنيوية
العميقة قصد فهم طريقة بناء النص الأدبي. ومن هنا، يمكن القول : إن البنيوية منهجية
ونشاط وقراءة وتصور فلسفي يقصي الخارج والتاريخ والإنسان وكل ماهو مرجعي وواقعي ،
ويركز فقط على ماهو لغوي و يستقرىء الدوال الداخلية للنص دون الانفتاح على الظروف
السياقية الخارجية التي قد تكون قد أفرزت هذا النص من قريب أو من بعيد.
والبنيوية أنواع: فهناك البنيوية اللسانية، و
البنيوية السرديةNarratologie
، والبنيوية الأسلوبية
stylistique،
وبنيوية الشعر، والبنيوية الدراماتورجية أو المسرحية
Dramaturgie
، والبنيوية السيميوطيقية، والبنيوية
النفسية مع جاك لاكان وشارل مورون ، والبنيوية الأنتروبولوجية خاصة مع زعيمها كلود
ليڤي شتروس الفرنسي وفلاديمير بروب الروسي...
وتتعارض المنهجية البنيوية مع المناهج الخارجية كالمنهج النفسي
والمنهج الاجتماعي والمنهج التاريخي والمنهج البنيوي التكويني الذي ينفتح على
المرجع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي من خلال ثنائية الفهم والتفسير قصد
تحديد البنية الدالة والرؤية للعالم.
2-
البنيوية في العالمين:
الغربي و العربي:
يعد كتاب
Ferdinand de Saussure
فرديناند دوسوسير "محاضرات في اللسانيات العامة" الذي ظهر سنة 1916م أول مصدر
للبنيوية في الثقافة الغربية، ذلك أن سوسير اعتبر اللغة نسقا من العناصر بينها
تفاعلات وظيفية وصفية. وحدد للمنهجية البنيوية مرتكزات أساسية كاللغة والكلام
واللسان، والدال والمدلول، والسانكرونية والدياكرونية، والمحور الأفقي والمحور
التركيبي، والتقرير والإيحاء، والمستويات اللغوية من صوتية وصرفية وتركيبية
ودلالية...
وقد تفرعت البنيوية اللسانية السوسورية إلى
مدارس لسانية كالوظيفية الوصفية مع أندري مارتيني
A.Martinet
ورومان جاكبسونR.Jakobson
وتروبوتسكوي
Troubetzkoy
وكوگنهايم، ،والگلوسيماتيمكية مع هلمسليف
Hjelmslev،
والتوزيعية مع بلومفيلدBloomfield
وهاريس Harris
وهوكيتHockett...لتنتقل
البنيوية مع نوام شومسكي
Chomsky
إلى بنيوية تفسيرية تربط السطح بالعمق عن طريق التأويل.
وأول من طبق البنيوية اللسانية على النص الأدبي
في الثقافة الغربية نذكر كلا من رومان جاكبسون وكلود ليفي شتروسLévi-
Strauss على قصيدة " القطط "
للشاعر الفرنسي بودليرBaudelaire
في منتصف الخمسينيات. وبعد ذلك ستطبق البنيوية على السرد مع رولان بارت
Barthes
وكلود بريموند Bremond
وتزيطيفان تودوروف
Todorov وجيرار
جنيتGenette
وگريماس Gremas...
كما ستتوسع ليدرس الأسلوب بنيويا وإحصائيا مع بيير غيرو
Guiraud
دون أن ننسى التطبيقات البنيوية على السينما والتشكيل والسينما والموسيقا والفنون
والخطابات الأخرى.
ولم تظهر البنيوية في الساحة الثقافية العربية إلا في أواخر
الستينيات وبداية السبعينيات عبر المثاقفة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في
جامعات أوربا. وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة
ومؤلفات تعريفية للبنيوية، لتصبح بعد ذلك منهجية تطبق في الدراسات النقدية والرسائل
والأطاريح الجامعية.
ويمكن اعتبار الدول العربية الفرانكوفونية هي السباقة إلى
تطبيق البنيوية وخاصة دول المغرب العربي ولبنان وسوريا ، لتتبعها مصر ودول الخليج
العربي. ومن أهم البنيويين العرب في مجال النقد بكل أنواعه: حسين الواد، وعبد
السلام المسدي ، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي،
ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، ومحمد الحناش، وموريس أبو ناضر، وجميل شاكر، وسمير
المرزوقي، وصلاح فضل، وفؤاد زكريا، وعبد الله الغذامي...
ومن أهم الكتب النقدية في مجال البنيوية العربية نستحضر "الأدب
والغرابة " لعبد الفتاح كليطو. فماهي القضايا النقدية التي يستجمعها الكتاب؟ وما
منهجيته النقدية؟ وما مرجعياته النظرية ومصطلحاته الإجرائية؟ وما هي أهم الانتقادات
الموجهة إلى الكتاب؟
3-
القضايا النقدية في
كتاب الأدب والغرابة :
يمكن تقسم كتاب "الأدب والغرابة" لعبد الفتاح كيليطو إلى قسمين:
قسم خاص بشرح المفاهيم المتعلقة بالأدب وأجناسه، وقسم تطبيقي يستهدف رصد المظاهر
البنيوية للثقافة العربية الكلاسيكية. ويندرج القسم التطبيقي ضمن قضية التجنيس
وتحديد القواعد الثابتة والمتغيرة لكل جنس أدبي على حدة مع دراسة بعض المكونات
السردية في هذه الثقافة الموروثة.
ومن المفاهيم التي انكب عليها الدارس نذكر مفهوم النص والأدب
والجنس والسرد والوحدة العضوية ومفهوم الغرابة ومفهوم الشاعر ومفهوم المرآة والفرد
المبدع وتاريخ الأدب والفرق بين الشعر والنثر والقارئ المتلقي.
وفي القسم الثاني يدرس عبد الفتاح كيليطو جنس المقامة الأدبية
عند الحريري والمقامة الأخلاقية عند عبد القاهر الجرجاني وشخصية المقامة النمطية ،
والغرابة والألفة في البلاغة العربية من خلال ثنائية المجاز والاستعارة، بله عن
إشكالية النظم والشعر وشعرية الفضاء في حكاية سندباد.
.
أ-
قســــــــم المفاهيم:
ينطلق كليطو في تعريفه للنص بمقارنته باللانص، حيث
يتميز النص عن اللانص بالثقافة والنظام والغموض والغرابة والتدوين والكتابة والحفظ
والاستشهاد ونسبته إلى كاتب مشهود له بالحجية والشهرة فضلا عن وظيفته التعليمية
والتربوية. أما الأدب فيجد الكاتب صعوبة في تعريفه على الرغم من وجاهة تعريف رومان
جاكبسون عندما ربط الأدب بوظائفه الست، إلا أن هذا التعريف قاصر مادام ليس هناك
نظرية عامة وشاملة لكل النصوص والخطابات. أما تاريخ الأدب العربي فيتخذ طابعا دينيا
أخلاقيا مختلفا عن نظيره الأوربي الذي كان يجمع بين عدة نصوص مختلفة الخطابات
والأجناس الأدبية داخل وحدة أجناسية منصهرة إبان الرومانسية التي أعطت قيمة كبرى
لفن الرواية بعد أن كان في أسفل الأجناس الأدبية مع التيار الكلاسيكي.
و في مجال الأجناس الأدبية، يعرف كليطو الجنس الأدبي بأنه هو
الذي يحترم مجموعة من المعايير والقواعد الثابتة المتكررة ولاسيما الرئيسية منها.
ومن ثم وضع تيبولوجية أجناسية على النحو التالي:
1- المتكلم يتحدث باسمه: الرسائل، و الخطب، و العديد من الأنواع
الشعرية التقليدية...
2- المتكلم يروي لغيره: الحديث، كتب الأخبار...
3- المتكلم ينسب لنفسه خطابا لغيره.
4- المتكلم ينسب لغيره خطابا يكون هو منشئه كما فعل خلف الأحمر
عندما نسب قصيدته لامية العرب للشنفرى. إذاً، هناك نمطان خطابيان: الخطاب الشخصي
والخطاب المروي.
وفي مجال السرد ، يرى كليطو أن نظرية فلاديمير
بروبV.Propp
مهمة في مقاربة الحكاية والنصوص السردية بصفة عامة، مبينا أن السرد مجموعة من
الأحداث والوظائف التي تنتظم في متتاليات سردية خاضعة لمنطق الإمكانيات التي تحدث
عنها كلود بريموند. وهذا السرد يخضع لنوعين من التسلسل وهما: الترتيب المنطقي
والترتيب الزمني التعاقبي. كما بين أن هناك نوعين من القراءة: عمودية وأفقية، وأن
السرد على العموم يخضع لقواعد ثلاثة، وهي: ارتباط اللاحق بالسابق، وارتباط تسلسل
الأحداث بنوع الحكاية، ومراعاة أفق الاحتمال والعرف.
وقد لاحظ كليطو أن الأدب الكلاسيكي يرتكز على المبدعين الفطاحل
والمشهورين والقمم الشعرية المتميزة دون المغمورين منهم. كما يؤاخذ المنهج
البيوغرافي الذي ظهر في القرن التاسع عشر والذي كان يدرس حياة المبدع من خلال
إنتاجه وعصره عبر أربعة ثوابت منهجية: الحياة السياسية والحياة الاقتصادية والحياة
الاجتماعية و الحياة الثقافية. وكان هذا التصور المنهجي البيوغرافي والانعكاسي
للأدب لايربط النصوص بمكونات النص الداخلية وعناصره التجنيسية. كما ينتقل إلى
إثارة قضية تلقي النصوص القديمة بتصورات حديثة دون مراعاة النص القديم وسياقه الخاص
به كما يتجلى ذلك واضحا في التعامل مع قضية الوحدة العضوية في الشعر القديم بين
الدارسين العرب والمستشرقين.
وقد حدد الكاتب تصورا دياكرونيا لطبيعة الشاعر ووظيفته في
المجتمع العربي القديم وحصر الوظائف التالية:
1-
شاعر
القبيلة في الشعر الجاهلي؛
2-
شاعر
الانتماء العقائدي في العصرين: الإسلامي والأموي؛
3-
شاعر
الكدية والاستجداء في العصر العباسي.
ب-
القسم التطبيقي:
في
هذا القسم، يتناول الكاتب البلاغة العربية بالدرس والتحليل ليبين لنا بأن
البلاغة العربية تهدف إلى تفسير القرآن الكريم وأنها تدور حوله شرحا وتبيانا لأوجه
إعجازه، بينما البلاغة اليونانية كانت تهدف إلى إنتاج القواعد لتسليح المتكلم
بناصية الفصاحة والبلاغة لإفحام خصومه كما كان يفعل السفسطائيون مع مخاطبيهم. وخضعت
البلاغة العربية لعدة تقسيمات وتفريعات و خضعت لمنطق النضج والركود والقوة والكساد.
وقد كانت البلاغة العربية في مسارها البياني والتأليفي بلاغة إبهام وتعمية
وتمويه وإغراب. ويعني هذا أن الصور الشعرية وخاصة الاستعارة والمجاز كانت تقوم على
ثنائية الغرابة والألفة والانزياح.
وإذا كانت شخصيات كتب التاريخ والحديث والأخبار شخصيات بشرية
فردية، فإن شخصيات المقامات وخاصة مقامات الحريري ﴿الحارث بن همام وأبو زيد
السروجي﴾ شخصيات نمطية إنسانية ترمز إلى قيم إنسانية عدة ، لذلك فهي شخصيات
براقشية تتلون في صفاتها حسب السياقات المقامية كشخصيات الشعر العربي
القديم﴿سلمى، هند، دعد،خولة، مية، سعاد....﴾. كما تتسم المعاني في الثقافة العربية
الكلاسيكية بالوثوقية والمطلقية وعدم الابتذال على الرغم من وجود ظاهرة
التكرار والاجترار المعاد . والسبب في ذلك أن هذه المعاني لاتتغير بسرعة كما في
العصر الحديث إذ تتبدل مدارسها واتجاهاتها الأدبية بنحو سريع. و تمتاز المعاني
في الثقافة الكلاسيكية أيضا بسمة الاستشهاد والإحالة التناصية والتضمين وذلك من أجل
تعضيد النص وتوثيق معانيه.
وإذا كان تجنيس المقامة يخضع لمجموعة من الثوابت كالسند،
والسفر، ونمطين إنسانيين متناقضين وهما: الأديب والمكدي، وحكاية قائمة على التعرف،
ولغة بديعية منمقة ، وتعاقب الهزل والجد،فإن مقامة الزمخشري تستند إلى لغة الجد
الأخلاقي والديني ووازع الحلم ولغة البديع وثنائية الترغيب والترهيب.
وفي مبحث "الملح والنحو" يميز الدارس بين النظم والشعر من خلال
دراسة أرجوزة الحريري وهي ملحمة الإعراب، وذلك بالتركيز على الوظيفة الشعرية
والأدبية للنصين معا: النظم والشعر. وبعد ذلك ينتقل الكاتب لدراسة القواعد اللسانية
لخطاب المنظومة النحوية ذات الطابع التعليمي التربوي من أجل تبيان علاقتها بالمتلقي
من خلال استخدام المرسل للحشو والأمر. ويتوجه فيها الخطاب إلى السامع من شيخ
متسلط مسيطر على مخاطبه، كما أن هذا المتكلم حجة و عالم متبحر في النحو يرسل
خطابه إلى مستمع مذكرمبتدىء ، وهذا الخطاب ممزوج بالأوامر والنواهي
والعلوم والآداب في شكل الصيغة المعروفة" قل ولا تقل" مع إظهار التودد إلى المتلقي
و إبداء تواضع العلماء في حالة اقتناص الأخطاء من قبل السامع النابه .
وفي " نحن والسندباد" يتعرض الواصف لجدلية الفضاء داخل
قصة السندباد التي أوردها كتاب ألف ليلة وليلة حيث يتقاطع في الحكاية ماهو علوي
وسفلي، و ماهو أفقي وعمودي، وماهو بر ي وبحري. كما يجسد تقابلا بين السماء والأرض،
وبين الألفة والغرابة، وبين الحار والبارد، وبين فضاء السعادة وفضاء الشقاء. وتقيم
الحكاية أيضا مقايضة بين الحكي والاستماع ، ومقارنة بين السندباد الأرضي والسندباد
البحري. وتعد ثنائية السفر والغرابة ﴿الإيهام والإبهام والتخييل الفانطاستيكي﴾ من
أهم مكونات الحكاية السندبادية.
4-
المنهج النقـــدي في
الكتاب:
من خلال عنوان كتاب" الأدب والغرابة" لعبد الفتاح كيليطو نجد
عنوانا فرعيا" دراسات بنيوية في الأدب العربي"، و هنا أفتح قوسا لأثبت بأني
أعتمد هنا على طبعة دار الطليعة البيروتية التي نشرت الكتاب لأول مرة سنة1982م.
ومدلول هذا التعيين الجنسي أن الباحث يطبق المنهج البنيوي في هذه الدراسات التي
كانت في الأصل مقالات أعدت مابين 1975و 1980م.
وتتمظهر هذه المنهجية في توظيف مجموعة من الثنائيات المتقابلة:
النص واللانص، البر والبحر، الجد والهزل.....، واستخلاص القواعد البنائية التي
تتحكم في توليد النصوص والتركيز على المعطيات الشكلية والخطابية التي تؤطر النصوص،
واعتماد نظرية الأدب وخاصة في قضية التجنيس والتصنيف وقراءة الوظيفة الأدبية
ومقابلاتها في النصوص المخالفة كالنص النظمي أثناء دراسة الملحمة النحوية لدى
الحريري في أرجوزته. وتتجسد أيضا في رفضه لنظرية المرآة في دراسة المبدع وأثره
الإبداعي، واستعمال البنيوية السردية في استقراء القواعد السردية في النصوص
الحكائية والأجناس الأدبية في الثقافة العربية الكلاسيكية، ودراسة المكونات السردية
كالشخصية في المقامة والوظائف السردية والفضاء الشاعري الحكائي في قصة سندباد
وتجنيس المقامة. ولا يكتفي الدارس بماهو سردي، بل يلتجئ إلى استخدام البنيوية
الشعرية في المقابلة بين الشعر والنظم ، والأسلوبية في مدارسة المجاز والبلاغة
والاستعارة والبحث عن الوظائف البنيوية التي تؤديها الصور البلاغية.
ولكن على الرغم من هذا، فإننا نجد هناك تلفيقا
منهجيا وتعددا في المقاربات بسبب الخاصية المقالية التي جعلت الكتاب مجموعة من
المقالات المتنوعة المتفرقة التي لها مواضيع مختلفة لا يجمعها إلا عنصر الغرابة.
ومن هذه المناهج التي اعتمد عليها الدارس نستحضر إلى جانب البنيوية المنهج
السيميائي أثناء حديثه عن قواعد السرد حيث يستشهد بالشكلاني الروسي فلاديمير
بروب،ومنهجية التلقي والتقبل كما هي عند يوسYauss
أثناء
تمييزه بين القارئ الضمني والقارئ الحقيقي، والتمييز بين أنواع القراءة: القراءة
العالمة والقراءة العادية، ودراسة أثر النص على المتلقي وخاصة في المبحث الذي خصصه
لأرجوزة النحو للحريري. كما استعان بالطريقة التاريخية والبنيوية التكوينية أثناء
حديثه عن تاريخ الشاعر ومكانته ووظيفته في الأدب العربي القديم مقيما تماثلا بين
صيرورة مكانة الشاعر والتطور المرجعي الخارجي. ونجد للمقاربة الفلسفية حضورا عندما
تحدث عن شعرية الفضاء مستلهما شعرية گاستون باشلار
Gaston Bachelard
في مبحث قصة السندباد، والأسلوبية أثناء دراسة الصور البلاغية.
إذا، يلاحظ أن هناك تعددا منهجيا يعبر عن تنوع
ثقافة عبد الفتاح كليطو وتعدد مرجعياته الفكرية والتطبيقية. ومن بين هذه المرجعيات
نذكر الشكلانية الروسية ورواد البنيوية والسميوطيقا ككلود بريموند وتودوروف ورولان
بارت وگريماس وجيرار جنيت وريفاتيروباختين وفيليب هامون و جاكبسون وبرينسPrince...
علاوة على المرجعية الفلسفية أثناء استشهاده بگاداميرGadamer
وبول ريكور Ricoeur
وفوكو Foucault
وديريدا Derrida
ومحمد أركون.. وتمثل نظرية التلقي كما عند يوسJauss
صاحب نظرية جمالية التقبل، ورواد نظرية الأدب والأجناس كما عند تودوروف وفييتورViëtor
وواتwatt.
وقد طرح الكاتب في كتابه مجموعة من المصطلحات والمفاهيم
النقدية كالنص والأدب والوحدة العضوية وتاريخ الأدب ومفهوم الشاعر ومفهوم الفرد
المبدع والجنس الأدبي ومفهوم البلاغة ومفهوم الأسلوب وطبيعة المتلقي ومفهوم المرآة
وشعرية الفضاء ومفهوم السرد والمتتالية السردية ومفهوم الشخصية و مفهوم الوصف
ومفهوم السرد وقواعده وتجنيس المقامة والحكاية والمنظومة النحوية ...
وهذه المفاهيم حديثة التناول والدراسة ، وقد أحسن الكاتب في تبسيطها وشرحها
وتوضيحها بطريقة إجرائية تطبيقية تعليمية وديداكتيكية على الرغم من كون بعض هذه
المفاهيم قد تجاوزها النقد العربي المعاصر، ومن هنا لابد من ضرورة موقعة هذه
المقالات في سياقها التاريخي، وبالضبط في السجال الثقافي والمنهجي في فترة
السبعينيات من القرن الماضي.
5-
المآخذ والانتقادات:
يلاحظ على هذا الكتاب أنه جماع منهجيات ومقاربات
متداخلة لا تنسجم مع تعيينه الجنسي للكتاب" دراسات بنيوية في الأب العربي". كما أن
هناك اضطرابا في استعمال المصطلحات والمفاهيم النقدية كالأنواع بدلا من الأجناس،
واستعمال السلسلة ترجمة لـ
séquence
بدلا من المتتالية السردية، واستعمال مفهوم القصة بدلا من الحكاية في نص " قصة
السندباد". ولم يوضح الكاتب بدقة مفهوم الأدب وتجاوزه بسرعة إلى مفاهيم أخرى بدون
أن يقدم له تحديدا جامعا وتعريفا شاملا مانعا، كما لم يدقق بشكل واضح مفهوم الغرابة
حيث تركه للقارئ لكي يستنتجه عبر صفحات الكتاب.
ويبدو مما سبق، أن الدارس قد طبق المنهج البنيوي بآلياته
الشكلية، بيد أن هذا المنهج أظهر اليوم مدى قصوره وأحادية مراميه، لأن الواقع
العلمي الحالي يفرض علينا أن نجمع في دراساتنا لكي تكون علمية مقبولة بين
الداخل والخارج، وبين النص والمرجع. ونرى أن المنهج التكاملي الذي ينفتح على كل
المناهج والمقاربات أفضل بكثير من المنهج البنيوي الشكلاني الذي لايبالي بالمعطيات
السياقية والتاريخية، ويغض الطرف عن الواقع وذاتية المبدع وذوق القارئ.
6- تركيـــب واستنتاج:
وعلى الرغم من هذه الانتقادات البسيطة والهينة و التي لاتسيىء
إلى الكتاب ولا إلى صاحبه لا من قريب ولا من بعيد، فإن كتاب "الأدب والغرابة"
كتاب نقدي حداثي وطليعي في بيداغوجيته ومعطياته القرائية داخل سياقه السبعيني من
القرن العشرين واستمراره في عطائه المثمر الخالد إلى يومنا هذا . ومن ثم، لايمكن
الاستغناء عنه سواء أكان القارئ مبتدئا أم ذا باع في الثقافة النقدية. كما أن عبد
الفتاح كليطو كان وما يزال قمة شامخة في الأدب العربي الحديث والمعاصر، وناقدا
قارئا من الطبقة الأولى بمنهجه التأويلي الجذاب الذي ينبش في الداخل النصي لينطلق
من مكنوناته العميقة ليسطر استنتاجات ذات قيمة علمية كبرى بأسلوبه الشاعري الذي
يجمع بين الوصفية العلمية الرصينة والبيانية الشعرية الإبداعية. ويعني كل هذا أن
كليطو ناقد مبدع وأديب عالم كما يظهر ذلك واضحا في سفره النقدي هذا، وكتابيه
الآخرين "الحكاية والتأويل" و كتابه "الغائب".
ملاحظــــــة
:
جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور/
Jamilhamdaoui@yahoo.fr