قراءة نقدية في " أصابع "
لمنى ظاهر
سامح كعوش
- فلسطين
" أصابع " منى ظاهر
امتداد ٌ خفيٌّ لعالمٍ افتراضي قوامه هي و هو فيها و رغبتها فيه حدّ
احتراقها. عالمٌ لا مكانيّ و لا زمانيّ ، بل إنّ مجموعتها " أصابع " هي اتضاح حالة
حب في أبسط أشكالها المتخيَّلة . هو امتدادٌ لعلاقةٍ حميمةٍ بين طرفين هما " هي " و
" هي " ، حين تتخذ منى شكلَ الآخر في انعكاسهِ الدافئ داخلَ ذاتها كروحها .
ولا يضيرها وقوع هذه "
الأنوية " في نرجسية ٍ تعطيها الفعل في النص، و شبقيةٍ تتخذ أرقى أشكال الفعل
العشقي في تحقق الحبيب/ المستحيل. فهي لا تفعل ُ إلا في الحلم، ولا يتحقق هذا
الرجل/ الآخر إلا في خيالها كأسطورة ، فالأسطورة هي التجلي لرغباتها الممنوعة بفعل
حاجز المكان بين الوطن = المنفى ، بين الحقيقة = الخيال. تتوجه ملكاً في الاسطورة
لا ليحبّها ، بل لتمارس فعل غوايته و كفى .تحتفظ به كملاذٍ أخيرٍ حين " الكلمات
حيرى و عنق الزجاجة يضيق ُ أكثر، حتى إذا انعتقت من أسرها ... أسروها عند أول نقطةٍ
للتفتيش "(صفحة 67).
" لأصابعها " جدلية
علاقةٍ بينهما، تفعل ُ فعلَ السحرِ ، و تتماهى ذاتها فيه ليصيرها حلماً أو طيران
نوارس تتعلمه لتكتشف به أسرار الطيران ، لا لتبحث فيه عن قوتها اليومي . تعتقلهُ
ملتاعاً و تعصف به كعاصفة ، تهيّج بركانه الثائر، تعتبره ذاك الحوت الذي تهوى فك ّ
قيده حدّ إبحاره ِ في عشقها ، ثم ّ عندما تتحقق النبوءة التي تحمل لغدها دونه ،
تسجنهُ من جديدٍ في محارة. هو في كل هذا ، كمارد القمقم الذي سكن البحر و رهن عمره
بمن يفك أسره فيخرجه من أعماق البحر . تقدمُ منى على اغتيال صورتهِ لتلوّنها
بليلكها العجائبيّ ، أو تحمله إلى أعلى سماواتها ثم ترميه في بحرٍ من كلماتٍ بلا
نقاط، يتسع ليصير ملعبهما معاً ، يتراشقان بالنجوم، و يوزّعان النقاط/ بصمات
الأصابع حيثما و كيفما اتفق لهما أن يفعلا ، " معهُ أذيّلُ جُملي بنقطةٍ و أكثر، لو
تبغين أن نتحادث نقاطاً فلنفعلْ " (صفحة 19).
إذاً ، ترسمُ منى ظاهر
صورةً ليلكية ً ربيعيةً لرجلها الخفي النبي ، الذي يسكن الغيب / الغيم ، و يختفي في
بياض الورق. إنه رجل الحلم الذي لا يأتيها إلا في عتمتها التي تضيء ، فكيف ترسمه هي
بالنقاط و تختنقهُ بالحروف و لا يجيء ، في بياض ورقتهِ بكل سواد حبرها ؟ " يسيلُ
منه الحبر و يسيل منّي، يأخذنا للحلم، و في الحلم و بينه (صفحة6) .
هي تعلم أنه رجل المستحيل
و المتاهات، يعذّبها بتقشّفهِ، و بلادته عن الحضور. لا يتسلل إليها إلا حين بوابات
الروح تنكمش، و يحيا على قيد الحلم في الجميل المُتخيَّل، " ليس هناك أجمل من
الجميل المتخيّل ، و يعيش السر بيننا " (صفحة 11).
رجلها الحبري ، أسطورة
الورق الموزّعة بين الكلمات و الشهوات، يغريها بتحققهِ الأسود ، و لا يعدها إلا
بالاحتراق، " أصابعه تسيل على جسدها شموعاً ، بينما أصابعها تسيل إلى عنقه كشفتين
لا يصلان قبل الكلام ، حين تتقطر الكلمات عسلاً و شهوةً ، رغوةً على امتداد بياض
صفحتها/ صدره الورقيّ " ثمة عسلٌ لا ترتشفهُ سوى الأصابع = تنقيط الجمل يُغريني " (
صفحة 9 ).
رجلٌ لا يعدُها إلا بالظل
، " غرابة الظل تراودها ، فقد يكون ظلهُ يلازمها " ( صفحة 49 ). يقبع في اللامكان ،
في اللاوطن ، في غربةٍ معتمةٍ لا تنيرها إلا أصابعها حين تمتد إليه ، و تمارس عشقها
له كأجمل من فعل غوايةٍ ، و أشرف من فعل شهادةٍ / استشهاد ، " و هناك في اللامكان ،
يقاسمني هو الهواء ، لنرقص للموت ، و نهرب من القفص " ( صفحة 49 ) .
هذا الرجل الغيمة ،
يكفيها منه أن يأتي معلناً ربيعها، أن يحمل مطراً في جعبتهِ ، حبر قصائدها ،
تعرّقها حين يلثم بشفتيه برتقالها فيعتصر منها رائحة تراب الوطن و يشتمها. و لأنه
الغيم ، المطر ، السماء ، تصير هي أرضه البكر ، في طفولة يديها ، و خصوبة عمرها
المشتاق إلى خصبه المائيِّ . ولا يرضيها منه أقل من انسكاب روحه فيها ، موته على
يديها ، لتمحوَ من ذاكرتها الصورة وتُبقي على أثرها في ذاكرة الحواس / البصر /
العطر و اللمس " هناك في غابتك، حيث تتشابك الأغصان ، و تحترق الشهوات ... و تنبعث
مياهك من جوف الرغبة الكامنة ، و تقول إنها روحك " ( صفحة 56 ).
هي و هو في علاقة الأصابع
الممتدة عبر فراغ الروح و الأيام و المساحة بين الثابت و المتحول من العواطف و
الجغرافيا و الحواس و الذاكرة . هي امرأة الليلك ، البنفسج ، الكرز و التوت ، و هو
رجل المتاهات، رجل المستحيل، كائنها الحبريّ رجل الحلم و الغيب .
ثباتها ضد تحوّله ،
فراشتها ضد احتراق قنديله ، وهج شمسه / رغبته ، ثباتها كوطنٍ ، و تلةٍ ، و شجرة
زيتونٍ ، أو مبنى عريق في بلدة قديمة. أنثى صامدة / " على حافة الألم ، هدية نضال
المرأة الفلسطينية بطرحتها السوداء و عينيها النجلاوين ، و زندها المخضوضر ، صامدة
هي تهزّ السرير بيمناها ، و تزرعُ الفلّ بيسراها ، كلنا في الوطن ، نبني بيوتاً و
نزرع الزيتون " ( صفحة 46 ) . و ثبات مكان / " الطابق السفلي من المبنى الفلسطيني
العريق الذي يسكن البلدة القديمة بحجارتها الصامدة العربية ... فتحت ُ و كان هو " (
صفحة 15 ) .
هي الريح و هو النار ،
تهبّ فتذكيه ، تزيده اشتعالاً حين حضورها كسماء لغيمة قلبه و أحلام ٍ لعتمة ليلهِ ،
ووطنٍ لغربتهِ ، و فراشةٍ لربيعه . يلتقيان في اتحاد رؤى و أرواح ، و امّحاء ِ حدٍّ
حدَّ الانصهار و الاندثار ، و لا يرتاحان إلا إلى مزيد من الاحتراق و التشظي في
غربتهما عن المكان / الوطن ، " اثنان في المنفى نحن ... و الوطن يحيينا بذوراً ،
نتهيأ زيتوناً للمستقبل " ( صفحة 11 ) .
قيامة الأنثى من غيبوبتها
الشرقية التي استمرت منذ الأزل ، تتحقق على يدي منى ظاهر في أصابعها ، و لأن
قيامتها تعني قتل الذكر ، فإن أصابعها تلتف حول عنقه ، تخنقه و تسطو على أنفاسه
لأنه لا يقوى ، لأنه ذكرُ اللافعل ، اللا قدرة ، ذكر الورق .
هو في المكان البعيد ،
المنفى ، حيث اللاوطن ، يناديها لتعيد إليه وطناً فقده و افتقده ، أو تعيده إلى
الوطن ككرزٍ بين الأصابع ، أو كنرجسة انتظار ، جنية عشق و فراشة لربيعه ، و لو
محترقاً على يديها ، تسيل ُ نبراته في غياب الصوت، و لأن " الفراشة لا يقربها إلا
من يريد الاحتراق معها للأبد ( صفحة 32 ). يطالبها بفعل قوة يعجز هو عن امتلاكها ،
هو الأسير في اللاوطن ، اللامكان ، المعتقل " معتقلٌ أنا بتفكيري فيكِ ، معتقلٌ أنا
بشوقي كلّي لكلّكِ، معتقلٌ أنا بشوق أصابعي لأصابعكِ ، معتقلٌ أنا للشعر ( صفحة 39
) .
التحرر احتراق و انسلاخ ،
و الحلم حرب من أجل أن نشنّها بحزم. أن تتفتح في عمره بجرأة العشق و انزياح الأسماء
عن مسمياتها ، إلى أسمائها الجديدة. المرأة تصير فراشة و الرجل حبراً ، و منى تصير
جنية ساحرة تعيد خلق الأشياء كما تشاء هي لجنّيها المأسور في القمقم ، " يدمنان
التحايل على اللامكان ، في المنفى ، و يعيشان في خيال الحلم" (صفحة 66).
" وقت اللاوقت معه ، و
مكان ليس بالمكان ... إيحاء تراجيدي " ، أي مكان هذا الذي تبنيه أصابع منى ظاهر ؟
أي جمال هو هذا الذي يتلوننا حين نغرق معها في تعب الألوان من الليلكي الربيع ،
الفاقع العشق حد الثمالة ، حدّ السكر المفرح و احتراق الروح في اشتهاءات الجسد و
فوات الرغبات ؟ . تسكننا في المساحة / ربيعٍ عشقيٍّ بامتياز. لكنه تراجيدي النهايات
في اللقاء المستحيل و الرغبة المؤجلة. فعل بكاء و حزن ، لذة دامعة لأن الذاكرة لا
تشبع و المكان يضيق، و لأنها أثرٌ من وطنٍ ضاعت عيناه و بترت يداه ، و صار بلا قلب
، بلا شعب ، بلا ذاكرة .
هي زهرة لوزه، تزهر في
ربيعه و لا يأتي ، فيمضي بعيداً ، وحيداً منهزماً إلى خريفه بعد حين ، " ينحرقانِ
حتى الرماد، و يغدو الهلاميُّ اشتعال حياة " ( صفحة 8 ) .
إيحاءٌ تراجيديٌّ حزينٌ
كما أعلنت منى ظاهر في امتداد " أصابعها "، فعل اختلاس اللذة ، بالقبلة في العنق
تدوّخهُ ، بالشفتين اللتين تزاوجان زقزقته و لا يغرّدُ فوق غصنها ، لأن الجسد لا
يتلذذ إلا بالدمع ، " أيتلذذ جسدنا دموعاً تتقطر يوم نحبُّ أيضاً ؟ و هل في دموع
أجسادنا ساديةٌ تتلقفنا ؟ " ( صفحة 30 ) .
إيحاءٌ تراجيديٌّ و إن
تلوّنَ بالعشق ، في عملية استدراجٍ ذكي للحواس " يستدرجهُ عطري ... يُسكرهُ ...
تنزل عليّ أمطارٌ من القُبلِ، تمطرني ... تلتهمني شفتاه ، و ذاكرة أصابعه لا تشبع "
( صفحة 21 ) .
يريدها أن تدخل أحلامه
لأنه أضعف من أن يحلم ، أضعف من أن يواجه الجلاّد بحقيقة الحب ، " أن تنزلقي إليها
ليلاً، الليلك " ، تقول الحبيبة : " الليلُ لك " .
أجل، هو ينتحر لتعلو هي ،
لتحيا كأنثى قديرة صاحبة فعل عظيمٍ ، متمرّسةٍ في الغواية القدسية العاهرة " اصابع
للصلاة، المكان القديس العاهر " ( صفحة 4 ) ، تغني له بعزف لا يقدر أن يقاومه ، بما
يشبه السحر الذي يحرّك اشتهاءات روحه العطشى، ليصير جسرها إلى شهوتها كأنثى تتقطر
عسلاً ، كفراشة وهج لا ينطفئ، " أأرسمك بألواني ؟ أم أعبرك بشفاهي ؟ قد أختار
الاثنين معاً " ( صفحة 28 ).
تتنفّسهُ ، يتنفسها،
يهتاجان ، يحتاجان، يتزاوجان، يتساكنان، يشتهيهما العشق، ثم يكون الانطفاء، لأن
الرجل/ هو لا يقوى، يتساءلُ :" هل أعود لوطنٍ لم يحتملني ؟ " ( صفحة 19 ) . لأن
الأنثى تستعيد قدرة الألوهة المؤنثة / عشتار أدونيس ، و لأن الرجل انطفأ و دخل في
غيبوبة الأساطير.
بينهما التناقض حينها، هي
امرأة الحبر على جمر النيران ، و هو " رجل الورق بجمر الحبر يكتبها " ( صفحة 34 ).
بينهما الرغبة الغائبة في ضياع المسافة بين الوطن واللاوطن، و الحب و اللا إمكانية
الحب ، و الاشتياق كقمة التصعيد في الموقف الدرامي التراجيدي، الشوق المريض إلى
لحظاتٍ لا تمر ثانيةً ، و أمكنةٍ تقبع في أعماق لا وعي البدويّ كأطلالٍ تشهد على
غربتهِ كلما مرّ بدار ليلى " يلثم ذا الجدارَ و ذا الجدارَ " ، و يبكي عذاب ترحاله
الطويل و مشقة البكاء، بكاء الروح لا العينين، " تشابكت أصابعنا، و تلاصق جسدانا،
كانت نشوتنا تهدي خطانا نحو الطريق ، كنا ننزل في زورق النيل الشراعي ... و تغطينا
رحلة الليل الطويل " ( صفحة 57 ).
منى ظاهر، مبدعةٌ في
الحلم ، في تحفيز ردة أفعال الذاكرة ، شاعرة اللون و الرسم ، و القبض على اللحظات
الهاربة في لا وعي إنسانٍ يختصر وجودُهُ وعياً جماعياً لشعبٍ بلا وطن.