ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

فاروق شوشة - مصر

بهاء جاهين وشعره الفصيح
‏فاروق شوشة - مصر

 

كانت بالنسبة لي لحظة نادرة من لحظات الدهشة والانبهار ـ حين فاجأني ـ ولابد أنه فاجأ آخرين ـ بعدد من قصائده المكتوبة بالعربية الفصحي‏,‏ يلقيها علي أسماع الحاضرين من مصريين وعرب وإسبان‏,‏ ومستشرقين‏,‏ ونحن في ملتقي شعري يجمعنا علي قطعة من أرض الأندلس في إسبانيا‏,‏ ضمن وفد من الشعراء المصريين‏.‏

كنت أصغي إلي بهاء جاهين ـ شاعر العامية المبدع ـ وهو يقدم قصائده الفصيحة‏,‏ في نبرة واثقة‏,‏ وأداء قوي‏,‏ وسيطرة كاملة علي اللغة أصواتا ونحوا وبنية وتراكيب‏,‏ فيزداد انبهاري بهذا الفارس المقتحم‏,‏ الذي يثبت موهبته العاتية في أية صورة كانت لغته‏,‏ فالفصحي والعامية لديه جديلتان‏,‏ يضفرهما حينا‏,‏ ويباعد بينهما حينا آخر‏,‏ ويعزف علي وتر هذه‏,‏ ثم ينتقل إلي وتر تلك‏,‏ انتقالا حرا سلسا‏,‏ وهو في الحالين المحلق في البعيد‏,‏ الذي يري ما لانري‏,‏ والذي يعود إلينا بكشوفه من الوعي والحكمة‏,‏ أو السخرية والتهكم‏,‏ أو الحزن والبكاء‏,‏ أو افتقاد الوجه الذي كم أوحشه وجه أبيه العبقري صلاح جاهين‏.‏

التحدي الكبير الذي يظل يواجه بهاء جاهين هو صلاح جاهين‏.‏ الناس تطالبه بأن يكون صورة أبيه‏,‏ لا صورة منه‏,‏ كيف؟ وعبقرية صلاح جاهين طاغية وشاملة‏,‏ ومجالاتها لاتحصي ولا تعد‏.‏ ونسبة بهاء إلي صلاح دائما‏,‏ وفي كل شيء‏,‏ هي نسبة ظالمة ووطأتها هائلة‏.‏

لقد بدأ صلاح جاهين كما بدأ صنوه العبقري فؤاد حداد رحلته مع الشعر بالفصحي‏,‏ وإبداعهما الأول يشهد بتألق شاعرين ثقافتهما الأولي ثقافة عربية تراثية راسخة‏,‏ لكنهما سرعان ما استشعرا غمغمة العامية في داخلهما‏,‏ في صورتها الفنية الراقية‏,‏ ومعارجها البعيدة عن ابتذال الشارع والسوق‏,‏ فصاغ كل منهما ـ علي طريقته ـ قلائده البديعة‏,‏ وبلغ صلاح قمته في رباعياته‏,‏ واقتعد فؤاد صهوة قمته في حضرته الزكية وأشعاره في نور الخيال صعودا إلي أفق الأرض بتتكلم عربي‏.‏

أما بهاء جاهين ـ الذي بدأ بالفصحي كما بدأ العملاقان الكبيران‏,‏ وكانت فصحاه تطرب أباه أكثر من عامياته التي كان يكتبها مجاورة للفصحي ـ فقد اختط لنفسه نهج الحفاظ علي إبداعه في اللغتين معا‏,‏ وديوانه حكاية المهلهل مع ملك الزمان ـ بوضع فتحة علي الهاء الثانية في اسم المهلهل ـ حتي لايختلط بالمهلهل ـ بكسرة تحت الهاء الثانية‏,‏ الشاعر والفارس العربي القديم‏,‏ بطل حرب البسوس‏,‏ والذي سمي في السير الشعبية بالزير سالم ـ هذا الديوان شاهد صدق وعدل علي فصاحة بهاء جاهين‏,‏ ونبوغه في شعر الفصحي نبوغا يؤهله لمكان متميز بين قرنائه وأبناء جيله‏,‏ ولديه ما ليس لديهم من خبرة لغوية اكتسبها من العامية الفوارة كل يوم بالجديد‏,‏ وإيقاعها السريع الجياش‏,‏ وصورها والتماعاتها ولمحاتها الخاطفة‏,‏ لقد استطاع أن يفيد من هذا كله في شعره الفصيح‏..‏ يقول في قصيدته الوجه الذي أوحشني‏:‏

لم أكن أتصور أنك تهجرني
هكذا‏,‏ دون صيف جميل
دون ورد وأغنية

ونبيذ أصيل
إنني لا أريدك ذكري
لا أريدك تمثال أغنية

تتكفن في ظرفها الحجري
مسالمة‏,‏ نائمة
إنني شاهد الأغنية

كيف تنقشني هكذا كلمات وتهجرني‏!‏
ثم تنثرني في الليالي
لآلئ مهجورة‏..‏ هائمة؟

القصيدة تأخذنا في رحابتها‏,‏ واتساع أفقها الانساني الرحب إلي وجه صلاح جاهين الذي أوحش بغيابه بهاء‏,‏ لذا كان طبيعيا أن تختتم هذه الجلوة الشعرية ـ موقفا وشهودا وحلولا ـ بإحدي رباعيات صلاح حين يقول بهاء‏:‏

قتلوك‏,‏ لأنك كنت جميلا
حالما بوجود جميل
كنت أغنية تنشد المستحيل

وأنا شاهد الأغنية
كيف تحفرني هكذا كلمات وتهجرني‏!‏
أنت لست هنا

تحت أحجار هذا المقام الذليل
أنت في نشوة عالية
حققت حلمها الأغنية

وأنا الشاهد الحجري أقول‏:‏
أنا اللي بالأمر المحال اغتوي
شفت القمر نطيت لفوق في الهوي

طلته‏,‏ ماطلتوش‏,‏ إيه أنا همني
وليه؟ مادام بالنشوة قلبي ارتوي‏!‏

‏***‏

بهاء جاهين ـ في ديوانه الفصيح ـ شاعر جميل وصوت بديع ومذاق مغاير‏,‏ ورحلة شعرية تبحث عن الجمال وتقتنصه‏,‏ وتضيف إلي ديوان الشعر المعاصر صفحة شديدة البهاء والتألق والأصالة‏.‏

 

(نقلاً عن الأهرام)

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا