أقسمنا معا : بالرجل الشمس ، وبالقيثارة المرأة ِ

                                                   ( المرجع السابق ، ص 374 )

                               *******************

ذلك إذن هو القسم الذي أقسمه كل من بروميثيوس والبياتي . وهو يرمز ، في ما نرى ، إلى فرادة الحياة المعاشة .. حيث لا وجود للغيبيات في سمائها و لا شقاء في أرضها . ما أن انتهى الرجلان من ترديد القسم !! انطلقت الأميرة الحسناء بالضحك والقهقهة . نميل إلى الظن أن هذا الضحك إنما هو إشارة إلى السخرية والازدراء من قسم الرجلين . والدليل على هذه السخرية هو ذلك السؤال الذي تتمحور عليه كل عذابات الرجلين . لقد اقسما معا بذلك القسم المقدس وشربا نخبه وكان قرارهما : هو البحث عن معنى الحياة وبناء حياة جديدة . تلك الحياة التي رأى البياتي بواكيرها في مدن الطفولة البيضاء !! . في روسيا أمل كل عمال العالم !! فجاء سؤال الأميرة :

من أعطاك حق البحث في مدينة العشق عن الله؟

وعن نافورة تبكي ؟

                                           ( المرجع السابق ، ص 374 )

                             ********************

كان سارق النار ومعه البياتي قد واجها في ما مضى سؤالا اعترض طريقهما أو يتعبير أدق تجوالهما إلا وهو :-

من أعطاك حق النوم والترحال والبحث عن

الأسوار في مدينة العشق ؟

                                        ****************

وها هو السؤال الثاني يباغت كل منهما . مدينة العشق لا حدود لها .. حيث لا أسرار لها .. إذن بحثك عن الأسوار محال .. بل وهم كبير .. مدينة العشق هي مدينة رجل الشمس والقيثارة المرأة .. فإذا كان بحثك عن أسوار مدينة العشق هو محال ووهم فما بالك لو كنتَ تبحث عن إله المدينة وعن نافورتها الباكية ؟؟؟؟؟؟؟؟؟ .انه لكذلك أيضا . لا أريد الدخول في قضية البحث عن الله عند البياتي .. هذه القضية ، تبدو لي ، أنها بلا معنى وذلك لأن الشاعر يؤمن بخطاب لا مكان لله فيه .  تبقى مسألة النافورة الباكية ، فهي في تقديرنا إشارة إلى الألم والحزن المستديم في التاريخ ، لأن النافورة تستخدم لأغراض جمالية معروفة .. لا شأن لنا بتفاصيلها . وعند هذه الصورة يعود البياتي إلى الملامح التي رسمها عن السارق . هذه الملامح لا تعبر فقط عن الحزن .. بل وعن فقدان الأمل أيضا . :-

رأيت‘ وجهه الشاحب في قرارة الكأس ،

وكانت يده تمر فوق شعرها في دوامة الرقص

وفوق الليل والجليد والدخان ..

                                                        ( المرجع السابق ، ص 375 )

                               **********************

إذن تلك هي نهاية سارق النار في رحلته .. في نهايتها أو على الأقل في ذلك البار الروسي على وجه التحديد .  هل شعر البياتي أنه  هو الآخر سوف تكون له نفس النهاية ويقيم خيمته في ذلك البار أيضا وعلى هذا النحو . سوف نرى في القسم الثاني من هذه الرحلة أبعاد هذا السؤال . ملاحظة عامة أسوقها عن هذا الجزء هي تكرار الأفكار والصور والمفردات .. بل العبارات ذاتها . لنكمل إذن مسار سارق النار :-

بحثت‘ من حان ٍ إلى حان ٍ ومن منفى إلى منفى

عن الوجه الذي يحمله سارق نار الشعر

من معابد الآلهة – الإنسان ،

عن أميرة المنفى التي كنا وراء شعرها الأحمر

في مدينة الطفولة – المعابد – الأسواق نجري

لاهثين ، نشرب‘ الأنخاب َ ،

والخصيان كانوا يمدحون الخدم – الملوك في الأقفاص

وينمو القمل‘ – الطحلب في أشعارهم .

كنا وراء شعرها الأحمر نروض الخيول في سهوب هذا الشرق

من أعطاك هذا القمر الأخضر ؟

هل دخلت من نافذة الحزن إلى قلبي ؟

                                             ( المرجع السابق ، ص 376-377 )

                                     **********************

باستثناء البحث في الحانات ومن منفى إلى آخر ، عن وجه سارق نار الشعر . وهنا نقلة في تصور البياتي عن هوية هذا السارق . السارق في المقاطع كان سارقا للنار فحسب . ولكنه هنا أصبح سارقا لنار الشعر على وجه التحديد . إذن ليس هو بروميثيوس الأسطورة . ويبدو ان البياتي قد أدرك أخيرا أن هذا السارق .. يرتدي أقنعة كثيرة .. قناع لكل زمان .. قناع لكل مكان .. قناع لكل وضع . باستثناء هذا البحث ، فإن البياتي يقع في دائر التكرار تكرار للألفاظ والمفردات . وعلى وجه أدق تكرار الخطاب وتكرار المعنى . سمة العبث واللامعنى واضحة الدلالة هنا . وهذا يتجلى في عبارته :

لاهثين ، نشرب الأنخاب ...

                                       *******************

كلاهما  .. البياتي وسارق النار .. كانا يلهثان وراء أميرة المنفى وشعرها الأحمر . وسؤالنا هو : هل وجد أو وجدا ما كانا يبحثان عنه ؟؟ . البياتي ، هنا ، كان يبحث عن وجه لسارق النار وفي الوقت نفسه يبحث عم أميرة المنفى .. وسوف نرى ، فيما بعد ، كيف أن البياتي يكشف لنا بنفسه عن هوية هذه الأميرة . وهي ليست غير قصيدة الشعر .. لنرى ماذا شاهد البياتي عندما توقف من جديد ، بعد عناء من البحث بين حانة وأخرى .. عند ذلك البار الذي أقسم مع سارق النار ذلك القسم المقدس!! . مسار الأحداث في سرد القصيدة ، تجعلنا نعتقد أن ما رآه البياتي كان له بمثابة المفاجأة .. رأى سارق النار وحيدا .. :-

رأيت‘ : سارق النار على كرسيه في زاوية

البار وحيدا .

رحلت‘ قال :" فمن  سيحرس الأنهار

في عرس نهار الموت "؟

بالمصابيح ؟

" عظام الزمن الجديد للأرض ، هنا أسمها ، تنمو "

جواد النار في ملاحم الأغريق تحت قدمي يجمح‘

لا اسمَ له ، من كل معنى فارغ ، هذا العذاب

                              ( نفس المصدر السابق ، ص 377 - 378 )

                            ********************

كان من المفروض أن تغمر السعادة قلب البياتي وجوارحه ، لأنه وجد ضالته بعد بحث مضن ٍ . لكنه رآه نائما على كرسيه .. وحيدا في زاوية البار . هذا يعني أن سارق النار قد أصابه الانكسار والإحباط.. نحن نتكلم عن شخصين منفصلين زماكانيا . ولكن على المستوى النفسي هما شخص واحد . الشاعر يستخدم لعبة الأصوات . وكان من المفروض من البياتي أن يتعاطف مع السارق عندما رآه في وضعيته تلك .. لكن البياتي تركه هو الآخر بعد أن تركه كل من كان البار . وعند الرحيل ، عاتب سارق النار البياتي ووجه إليه اللوم بقوله :-

فمن سيحرس الأنهار

في عرس نهار الموت ؟

                                 ******************

إذن سارق النار كان يتمنى لو أن البياتي أكمل مسيرته معه وحمل رايته .. ونصب نفسه حارسا على الأنهار . أو بتعبير أدق رقيبا على حركة التاريخ !! . ويستمر سارق النار في إغراء البياتي على أن يمضي في المسيرة التي بدأها مع سارق النار ولكن البياتي مصر على الرحيل وتركه وحيدا يعاني العذاب :-

رحلت‘ : قال : فهل ستدهم الصاعقة :-

المسلة المصرية ـ النخلة ـ في " الكونكورد "  إشارة إلى قامة الشاعر النفسية

هل سيهجر الربيع باريس ؟

                                  ( المصدر السابق ، ص ، 378 )

                             *********************

أسئلة سارق النار ، هي ، كما تبدو لنا ، بمثابة إنذارت تنبؤية للتاريخ ، طالما أصر البياتي على عدم حمل راية سارق النار .. ومرة أخرى يقع البياتي في فريسة التكرار . رؤيا البياتي اختلفت عن سابقاتها . ففي هذه المرة ، رأى سارق النار ميتا . كان قد رأى وجهه الشاحب في قرارة الكأس وفي المرآة :-

رأيت‘ وجهه الشاحب في قرارة الكأس

وفي المرآة

كان ميتا ، يبدو كمن عاد إلى الحان من القبر لكي

نرحل في الفجر معا على ظهور الخيل في سهوب هذا الشرق

هل ناديتني يا أيها الرعد؟

بخارى أصبحت قريبة .

فلتحمل القبيلة : الكواكب الآفلة ـ الأقمار

في الفجر لكي نلقي بها من قمم الصخور للنوارس

الأمطار كانت تغسل الأشجار والجراح والسطوح

موسيقى كمان العزف الروسي في زاوية البار

رأيت‘ : مدن الطفولة البيضاء في ألحانها ،

وانهرَ الجليد والغابات في الأورال

أقسمنا معا : بالرجل الشمس ، وبالقيثارة المرأة .

                                         ( المصدر السابق ، ص 378- 379 )

                           ****************

في هذا المقطع أكثر من صورة تتسم بالتعارض في المعنى . فسارق النار لم يكن نائما بل كان ميتا . وإذا كان كذلك فكيف يتمكن البياتي من الرحيل معه في الفجر على ظهور الخيل ؟ وإذا كان البياتي قد رحل ، أي قد أخل بالقسم ، بهذا المعنى ، فلماذا دعا سارق النار البياتي وقال له أن " بخارى " قد أصبحت قريبة ؟ " بخارى " رمز قد يكون له أبعاده  عند البياتي . من الممكن ان تكون رمزا للمدينة الفاضلة ؛ كونها مدينة شرقية لها أسرارها  ودخلت الإسلام . وتتكرر نفس الصورة عن البار والعازف الروسي ومدن الطفولة البيضاء . الغريب في الأمر هو أن أنه أعاد القسم مع شخص ميت !!! . هناك قفزة في هذا المقطع . كانت الأميرة مندهشة ومستاءة من البياتي لأنه كان يبحث عن الأسوار في مدينة العشق تارة وعن الله في تلك المدينة تارة أخرى . وتتجلى هذه القفزة ، كما سوف نرى ، بسؤال يطرحه البياتي بوجه التاريخ :-

هل تحققتْ معجزة الحياة بعد الموت ؟

                                                 ( المصدر السابق ، ص 379 )

                               *********************

سؤال نشم من خلاله رائحة السخرية من الحية الآخروية . حقيقة الإنسان في ذلك التاريخ .. فقط بين أسوار التاريخ لا غير . هذه السخرية جعلت من البياتي يوغل في النرجسية . لا أدري هل هي لحظة إنجذاب صوفي أم حالة هذائية طارئة ؟ يقول البياتي :-

هل ناديتني يا أيها الرعد ؟

                                                  ( المصدر السابق ، ص 379 )

                             ****************

هذا سؤال يتكرر مرتين . والتكرار في هذه الحالة يرمز أو يشير إلى ثبوت الفكرة ورسوخها في لاوعي الشاعر . فعندما يناديه الرعد ، مثلما كانت الأنجم تمشي وراء أدونيس .. فهذا يعني أن هناك شعور بأن قوى كونية وفوقية  تلازمه وترعاه بل وتهتم به . وهذا لا يتفق مع ابسط مسلمات الخطاب الذي يؤمن به البياتي . وفعلا فأن هكذا اعتقاد هو الذي يهيمن على الشاعر ويسير بموجبه تفكيره . وهذا ما يتجلى في عبارته :-

أرى عاصفة شعرية تجتاح هذا الكوب الموغل

بالإرهاب والعنف

أرى الشاعر في صيحته يحرث ارض الحلم .

هل ناديتني ؟

                                                   ( المصدر السابق ، 379 )

                     ************************

إذن هناك رؤية .. واقعة .. حدث سوق يتحقق رآه الشاعر قبل أوانه . هل هي نبوة !!؟ هل هي تجلي عرفاني !!؟ هل هي حاسة سادسة ؟؟ هل... هل.... . سأترك الجواب للشاعر. المهم هو ان الشاعر تصور نفسه من أصحاب الرؤى . ولكن هذه الرؤى جميلة ... زاهية .. شفافة .. فما أجمله من عالم .. ذلك العالم الموغل في الإرهاب والعنف عندما تجتاحه ؟ وكم هي جميلة تلك العاصفة ؟؟ . كما ان رؤيته الثانية عن الشاعر الذي يحرث ارض الحلم هي الأخرى تفاؤلية ؛ فما أجمله ذلك العالم الذي يقوده شاعر . من المؤكد انه عالم أثيري لا نظير له . عالم يسيره بإكليل الشعر . ولكن ثمة فاجعة تنتظرنا عندما نسمع البياتي بأنه سوف ينسف كل ما رآه وما تخيله . حيث يقول :-

" سأطرد المنطق من حظيرتي "

                                                    ( المصدر السابق ، ص 379 )

                                   *******************

إذن هي خلاصة ما توصل إليه الشاعر من تصورات وقناعات . لنتخيل شخصا يطرد المنطق من حياته . ماذا سوف يكون ؟؟ سوف يكون أشبه بالمجنون التائه الذي يبحث عن اللاشيء . أو سوف يكون مثل الصوفي الجوال المسافر الذي يود ان يذوب في الله ويرى الله في كل مكان " أينما تولوا فثمة وجه الله " . ذلك هو اللامنطق . الجنون أو الحب . ترى اي من هذين الدربين اختار البياتي للسير به ؟؟ لنرى ذلك :-

مسافرا في النار والأقوال

في عرس نهار الحب ،

‘منقّضٌا  على فريستي : القصيدة ــ المرأة ،

كالمنجم الساحر في مدينة العشق

                                                  ( المصدر السابق ، ص 379 )

                              *****************

لقد تحقق ما كنا قد افترضناه .  واختار الشاعر خيار البحث .. بل التيه في أنهار الحب . أنه مسافر ، وهنا ، كما يقول هو ، في النار والأقوال .. ولكن دون محطة . هنا نسف لما قال على أن " بخارى " قريبة  . حتى " بخارى " نفسها . لم ولن تكون محطته الأخيرة . أين إذن سيجد فريسته ؟؟ . فريسته التي يحلم بالانقضاض عليها مثل المنجم الساحر في مدينة العشق . وأين هي مدينة العشق يا شاعرنا الكبير حتى ترى منجما ساحرا ينقـّض على فريسته ؟؟ . هل هي الأميرة ذات الشعر الأحمر ؟؟. إلى هنا تختفي ( أنا ) البياتي من استعراض بطولاتها .. بل رغباتها وأمانيها .  يلتفت البياتي إلى صاحبه سارق النار ليراه مرة أخرى وقد لفه الموت . نعم رآه شاحبا في مثل أول صورة عندما التقى به في مطار باريس :-

رأيت‘ وجهه الشاحب بعد الموت يفتر‘

عن ابتسامة  وشعرها الأحمر كالشلال

ينثال من السماء

                                             ( المصدر السابق ، ص 379 – 380 )

                              *****************

مات سارق النار.. ولم يصل " بخارى " على الرغم من قريها !! . وهكذا البياتي هو الآخر ولم يرى غير شعر الأميرة .. بل خياله ، إذا شئنا الدقة ، لأنها ليست إلا أمنية ، تنثال من السماء . عاد البياتي مرة أخرى ، بعدما سئم من الأرض ، حملق بأفق السماء اللامحدود . .. ولا ندري هل وجد البياتي  منقذا مثل هرقل ، ليفكه من أسره كما فهل مع سارق النار بطل الأسطورة تلك .. اعتقد أن البياتي عندما مل حتى من النظر إلى السماء .. أغمض عينيه وأجهش بالبكاء ....

الهوامش :-