ف |
شعر مترجم |
رؤية نفسية شوقي يوسف بهنام - العراق
عودنا أدونيس أن يتمظهر في نصوصه الشعرية بصورة بطل من أبطال الأساطير . أليس الاسم "أدونيس" الذي تقنع به هو دليل على هذه الرغبة العميقة في داخله بأن يكون بطلا يحاكي البطل الأسطوري في مغامراته وصولاته وجولاته وقدراته الفذة .. الخارقة .. اللامتناهية . والواقع أن الباحث في المنجز الشعري المعاصر ، يرى هذا الولع بالتشبه بالبطل الأسطوري ومحاكاته وتقمصه لذلك البطل من قبل شعراء عديدين ؛ من أمثال البياتي والسياب ولميعة عباس عمارة وأحمد عبدالمعطي حجازي وكثيرين غيرهم ، لاعتقادهم ان شخصياتهم هي على غرار هذا البطل الاسطوري أو ذاك . ولكن ما يميز ادونيس عن غيره ، في تقديرنا على الاقل ، هو هذا الاستيعاب العميق لبنية الاسطورة التي يلعب البطل هذا الدور أو ذاك . وهذا هو امتياز ادونيس في تحويل دراما الاسطورة الى منجز شعري مكثف الصورة . وفي النص الذي ستدور عليه خواطرنا هذه يحمل هما عاشه ادونيس في حياته الجوانية وفي جوانحه القلقة عموما . والنص يحمل عنوان " اقليم البراعم " والبطل الذي تنشغل به عذابات ادونيس هو البطل " ايكار " ، وهو بطل لاسطورة يونانية . تحدثنا عن هذا البطل المراجع الخاصة بالاسطورة حيث يقول عنها " طلال حرب " في معجمه عن اعلام الاساطير والخرافات ما يلي " إيكار .. ابن ددال ، وهرب الاثنان من المتاه بواسطة اجنحة صنعها ددال وألصقها بالشمع الى اكتافهما . وقد اوصى ددال ابنه ألا يقترب كثيرا من الشمس لكن إيكار خالف نصيحة والده وارتفع كثيرا فاقترب من الشمس فذاب الشمع وانفصل جناحاه عنه وسقط في البحر الذي يعرف منذ ذلك الحين باسمه (1) . ذلك هو مضمون الاسطورة اذن . وهناك في الحضارة العربية محاولة " عباس بن فرناس " في الرغبة بالطيران نفس الصورة وان اختلفت الدواعي بين النموذجين . فالغاية من الطيران كان الهروب من المتاه لغرض الخلاص والتشبث بحبال الحرية . وفي الاسطورة وصية وكسر وصية .. معنى هذا ان هناك تمرد ورفض وثورة واحتجاج .. الشمس كانت بالنسبة الى الاب مصدر الانهيار والسقوط والدمار .. بينما كانت في نظر إيكار الابن مصدر الحرية والخلود والانطلاق والانعتاق . هنا حكمة الشيوخ وتعقلهم واندفاع الشباب وتهورهم . هناك الخوف والتردد والقلق .. وهنا الجرأة والثقة والامل . شاعرنا أدونيس عاش هذه المحنة في مقاطع كثيرة من نجزه الشعري . الاب يمثل كل مرجعيات ادونيس بينما الابن يمثل جمله خطابه المبثوث في هذا المنجز .. اعني المنجز الشعري . وفي الاسطورة .. سقوط وضياع وتناثر في مياه البحر . اليس البحر متاهة هو الاخر . الخروج من متاه والسقوط الى متاه أخر . هذا يعني ان التمرد مؤاده المتاهة والضياع والعكس هو الصحيح . لنرى كيف فهم ادونيس هذه الاسطورة وكيف عاش ابعادها . يقول ادونيس في النص الذي يحمل ، كما قلنا ، " اقليم البراعم " والذي يوحي هو الاخر على اثارة الصراع ما بين سطوة الاب وتمرد الابن . ما الذي تحيل اليه مفردة " البراعم " .. اليست الى مراحل الحياة الاولى .. الى الطفولة الطموحة .. المفعمة بالقلق ومراهقة اثقل كاهلها الانصياع والانقياد والمسايرة ؟؟ . فحلمت بالثورة والتغيير وكشف افاق المجهول والمضي الى حيث الممكن بل المستحيل ان امكن . لكن ادونيس في النص لا يتقمص شخصية " إيكار " ودوره . بل بقى هو البطل الاقوى .. المراقب من افق السماء وفوق الشمس . يقول ادونيس :-
مر هنا ايكار خيم تحت الورق الشاحب شم النــــار في غرف الخضرة في البراعم الوديعة
وهز ، هز الجذع ، واستجار والتف كالوشيعة ثم انتشى وطار ...
لم يحترق – لما يعد ايكار
(ادونيس ، الاعمال الكاملة ، مجلد 2 ص 24)
************* تختلف صورة ايكار كما يرسمها أو يتخيلها أدونيس عن صورة ايكار كما وردت في الاسطورة . فأدونيس لا يذكر هروب ايكار وابيه من المتاه ولايذكر كذلك وصية ابيه بأن لا يقترب كثيرا من الشمس لئلا يحترق . ادونيس هو شاهد لمرور ايكار من هنا .. .. ثم رآه وهو يخيم فوق الورق الشاحب ويشم النار . لا ترد هذه التفاصيل في الاسطورة بل هي من إضفاء ادونيس على ملامح هذا البطل الذي تقمصه ادونيس نفسه . و لا بأس في ان نلج عالم الرمزيات فيما يخص الطيران والطيور فيرى الباحثون في رمزية الطيران عموما ما يلي : -
1- يرى سرينج :- غالبا ما اعتبر الطيور رمز التسامي الروحي (2) 2- يرى زيعور : ترمز الكائنات ذات الاجنحة الى ما هو يطير ، ينتقل بسرعة ، يهرب ، يعلو ، يرتفع ؛ ومن ثم فهو رمز الخيال والفكر ، للتطهر والارتفاع ، للعلو والسمو ، للملاك والروح ... (3)
وفي مجال الاحلام فأن احلام الطيران تشير الى الفعل الجنسي كما يرى البعض (4) . على اي حال فأن ادونيس يريد ان يعكس الاسطورة على الشكل الذي يخدم طموحه . فعندما مر ايكار ( من هنا ) فأن هذا يعني ان ادونيس كان قبل ايكار زمانا ومكانا .. فهو الذي شاهده يمر . وهو الذي شاهده وهو يخيم تحت الورق الشاحب ويشم النار . هنا نتسائل اي نار شاهدها ايكار ..هل هي النارالالهية التي سرقها برومثيوس من الآلهة في السماء وحملها الى الارض ووهبها للبشر كي يستطيعوا مجابهة اخطار الطبيعة (5). والنار عموما هي رمز للوحي والتطهر والتجدد (6). لقد شم ايكار وانتشى .. هنا يريد ادونيس ان يقول ان هذا الانتشاء هو السبب وراء طيران ايكار . بمعنى ادق فان النار التي شمها ايكار كانت بمثابة معرفة .. او انكشاف عاشه هذا الشاب المتعب الذي هو في النهاية ادونيس نفسه . اي جذع هزه ايكار والتف حوله كالوشيعة . اليس هو نفسه ادونيس كان هناك شاخصا كجذع . التعبير مستعار من قصة مريم وهزها لجذع النخلة وقطفها للرطب . ايكار لا يهز الجذع فقط .. بل يلتف حوله كوشيعة وهي الخشبة التي يلف عليها خيوط الغزل . انه تعبير يراد به التقمص والتوحد . ايكار تقمص ادونيس وادونيس تقمص ايكار .. ايكار طار .. ولكنه لم يغرق كما قالت الاسطورة .. ايكار لما يعد بعد . فما زال هناك في السماء .. ادونيس لا يزال هو الاخر هائما على وجهه كطائر جوال ولم يسقط أو يغرق في البحر ..
الهوامش :- 1- د. حرب ، طلال ، 1999 ، معجم اعلام الاساطير والخرافات ، ط1 ، ص 85 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان . 2- سيرينج ، فيليب ، 1992 ، الرموز في الفن – الاديان – الحياة ، ترجمة : عبدالهادي عباس ، دار دمشق ، سورية ، ط 1 ، ص 170 . 3- د . زيعور ، علي ، 2002 ، الاحلام والرموز ، دار المناهل ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، ص 282 . 4- د. الحفني ، عبد المنعم ، 1992 ، التحليل النفسي للاحلام ، دار ابن زيدون ، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 184 -186 . 5- د . حرب ، نفس المصدر ، ص 103-104 . 6- د. خليل ، احمد خليل ، 1995 ، معجم الرموز ، دار الكتاب اللبناني ، ط1 ، ص 169.
---------- e-mail:-shawqiyusif@yahoo.com e-mail:-shawqiyusif@hotmail.com
|
|
|
|