رواية"مجرد
لعبة حظ " لإبراهيم درغوثي بين التجريب والتأصيل
د. جميل حمداوي - المغرب
يعد
إبراهيم درغوثي من أهم الروائيين التونسيين إلى جانب محمد العروسي المطوي رائد
الرواية التونسية بروايته " ومن الضحايا التي كتبها سنة 1956م" وعز الدين المدني
ومحمد المختار جنات ومحمود المسعدي ومحمد رشاد الحمزاوي ومحسن بنضياف ومحي
الدين بنخليفة وعز الدين المدني وعبد المجيد بنعطية ومصطفى الفارسي وعبد القادر بن
الشيخ ومحمد الحبيب بنسالم ومحمد صالح الجابري وصلاح الدين بوجاه وفرج الحوار وهشام
القروي وعروسية النالوتي ومصطفى المدايني ومحمد علي اليوسفي وكمال الرياحي وعبد
الواحد براهيم وآخرين...
هذا،
و يتميز الروائي والقصاص إبراهيم درغوثي بخاصيتي التجريب والتأصيل داخل الساحة
الروائية التونسية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة كما في روايته الرائعة " مجرد لعبة
حظ" التي فازت بالجائزة الأولى لمسابقة " المدينة" للرواية لسنة 2003 بتونس.
أ-
النص الموازي:
ولد
إبراهيم درغوثي سنة 1955 بالمحاسن بتوزر ، وقد تخرج من دار المعلمين بتونس، ويعمل
الآن مديرا لمدرسة ابتدائية بأم العرائس بقفصة. وهو معروف بكتابة الرواية والقصة
القصيرة، وحاضر بصورة دائمة في كثير من المواقع الرقمية كدروب والفوانيس، والندوة
العربية...ومن أعماله السردية نذكر: النخل يموت واقفا(1989)، والخبز المر(1990)،
ورجل محترم جدا( 1997)، وكأسك...يامطر(1997)، والدراويش يعودون إلى المنفى(1992)،
والقيامة... الآن(1994)، وأسرار صاحب الستر(1998)، ووراء السراب..قليلا(2003).
أدرج
إبراهيم درغوثي روايته "مجرد لعبة حظ "ضمن الرواية التاريخية المستمدة من التراث
كتعيين جنسي. كما تشير حيثيات النشر إلى مطبعة المدينة التي تكلفت بمهمة طبع
الرواية الفائزة بجائزتها الأولى سنة2004 م في طبعة أنيقة تشبه طبعات دار
توبقال المغربية . وتتربع على الغلاف الخارجي لوحة تشكيلية فطرية مصبوغة بألوان
متعددة زاهية تشبه ألوان الحناء تحيل على ثنائية الحب والمرأة في التراث العربي
الأصيل. أما الإهداء فهو ذو خصوصية أدبية وجههه الكاتب إلى فنان الشعب التونسي ألا
وهو علي الدوعاجي الكاتب والشاعر والقصاص والمسرحي والصحفي الكبير...
ب-
بنية القصة:
ترصد
رواية" مجرد لعبة حظ " تجربة رومانسية تراثية معاصرة،وهي تجربة بثينة مع جميل في
قالب فني يعتمد على التخييل الأدبي والتاريخي على غرار رواية "زهرة الجاهلية"
للروائي المغربي بنسالم حميش. ولكن الكاتب لا يكتب الرواية التاريخية بالمفهوم
الحرفي للتاريخ ، بل يعمد إلى التخييل والافتراض وإسقاط الماضي على الحاضر والعكس
صحيح أيضا بطريقة فنية بديعة.
تبدأ
الرواية حكيها بفضح أسرارها ومكوناتها النسقية وكشف لعبة السرد وفضح الراوي
أمام المتقبل الضمني كما كان يفعل المخرج الألماني بريخت في مسرحه الملحمي. يؤكد
السارد على لسان بثينة خرافية كل ما سيرد في هذا النص الذي اتخذ طابعا تخييليا
أسطوريا لاعلاقة له بالحقيقة إلا من باب التلميح والتضمين ليس إلا. وإن الحقيقة كما
قال الفيلسوف الألماني نيتشه منعدمة ومستحيلة مادامت هي دائما مقترنة بالوهم
والخطإ والظن. والسبب في ذلك عند نيتشه خوف الإنسان من قول الحقيقة بسبب رغبته في
السلم وخوفه من الموت، واعتماده كثيرا في خطابه التواصلي على اللغة
الاستعارية التي لاتنقل من الواقع سوى الأوهام والمبالغات المغلوطة.
وبعد
هذا الاستهلال الميتاروائي الذي تكشف فيه الرواية عن أوهامها وتأملاتها التأملية
وأبعادها النقدية وشطحاتها الباطلة، ينتقل الكاتب ليشخص لنا التجربة الغرامية
الإنسانية الدامية التي عاشها جميل الوسيم مع بثينة الرومية الشقراء الحسناء، بعد
أن قدم أستاذا إلى مدينة الحمامات ليدرس الأدب العربي . وستنتهي هذه التجربة
الرومانسية بالقتل غدرا من قبل والد بثينة الذي قضى على كل آثار العشيق الرومانسي
وأشعاره الوالهة عشقا وصبابة وتشبيبا التي تحيل على حبه الجنوني لبثينة.
وينتقل الكاتب ليجسد مشهدا دراميا آخر بين بثينة وفائز الرابحي خريج الجامعة
الفرنسية ودكتور الاقتصاد الذي سيتزوج بثينة عشيقته في الماضي وزميلته في الدراسة
التي أصبحت بدورها مدرسة للأدب العربي على غرار عشيقها الأول. وسيتقاسم معها
منزلها وستعينه على مواجهة تحديات الواقع بعد أن توسطت له لدى وزير الصناعة الذي
كان صديقا حميميا لوالدها، فعينه مديرا لشركة حديثة تهتم بإنتاج الملابس
المستوردة وتصديرها جاهزة إلى الخارج.
ولكن
إذا كان فائز عبد الدائم الرابحي قد حقق نجاحا كبيرا في مهمته الاقتصادية بطرق
مشروعة وغير مشروعة، فإنه لم ينجح على المستوى الحياة الزوجية؛ لأنه أحس بعقدة
الخيبة و العجز والنقص والتستر على ماضي بثينة مع جميل الذي فض بكارتها. لذلك، كان
يتهرب منها ويغادرها في الفراش ويخونها مع بائعات الهوى سواء في الحانات أم الفنادق
الفاخرة التي كان يجلب إليها خادمات المعمل ليمارس معهن هواية الذكورة ويجرب لغة
الكد والفحولة من أجل أن يظهر لزوجته قدرته على الخصوبة والإنجاب. بينما كانت
بثينة تحلم بطفل يحقق لها الدفء والسعادة الوجودية. بيد أنها في الأخير، ستثور حزنا
ويأسا بعد أن اكتشفت عيبها وعقمها فأصبحت ترتمي في أحضان زوجها الذي كان يتهرب
منها دائما ليلقي نفسه بين لذة الخمر و أحضان المومسات أو تتسلى بلعبة الورق ورصد
مستقبل الآخرين سعادة أو تعاسة . وبعد هذه الحياة العبثية التي يسودها الضياع
والتيه والخيانة ، قررت الزوجة أن تنتقم من فائز كما قرر بدوره أن ينتقم من زوجته
التي تتبع حركاته وتعرف كل شيء عن أعماله غير المشروعة التي تتمثل في ترويج
المخدرات وتهريبها من أجل الإثراء والاستمتاع بملذات الحياة. وهكذا تصبح
الحياة مجرد حظوظ كورق الحظ والقمار التي تنتشي بها بثينة كمعلمتها الغجرية.
فالحياة مجرد لعبة حظ، فهناك من تسعده، وهناك من تشقيه، وهناك من تعطيه
الكثير، وهناك من تحرمه وتدميه، إنها المفارقة الأنطولوجية والمعادلة
المصيرية لكل قدر إنساني. والذكي من استطاع أن يفهم الحياة ويدرك كنهها وحقيقتها
الميتافيزيقية وغاياتها الكبرى وجدواها الحقيقي تكيفا وتأقلما عن طريق الرضى
والاستسلام للحكمة الربانية.
إذاً،
فالرواية تستند إلى التمفصلات السردية التالية:
1-
الاستهلال الروائي الذي يكشف أسرار اللعبة السردية؛
2-
مشهد
بثينة مع الأستاذ جميل؛
3-
مشهد
بثينة مع فائز الرابحي.
ج-
بنية الخطاب:
تقوم
رواية" مجرد لعبة الحظ" على التخييل الأدبي والتاريخي؛ لأنها تستحضر التراث الأدبي
الغزلي القديم وتحاول عصرنته في ثوب فني يرتكز على التوازي الحكائي والتناوب
القصصي وتداخل الأزمنة وجدليتها. وهكذا ينطلق الكاتب من المتناص التراثي الذي يكمن
في الشعر العذري وقصص عشاق الحجاز والمدينة فضلا عن الموروث التاريخي لتونس
الذي شكل الإطار التاريخي والجغرافي والحضاري والثقافي منذ الأمازيغيين و
الفينيقيين مرورا بالعرب والمستعمر الأجنبي إلى يومنا هذا مع تونس الانفتاح
والخوصصة وجلب العملة الصعبة. وبالتالي، يتقاطع في الرواية الماضي والحاضر
والمستقبل، كما تتقاطع فيها الأصالة والمعاصرة، علاوة على جدلية الداخل والخارج
والذاتي والموضوعي.
و
يلاحظ أن الكاتب يعتمد على طريقة المزج و والتوليف بين اللوحات وتشغيل التوازي
السردي والتوليد وخاصية التناسل الحكائي على غرار ألف ليلية وليلة وكليلة ودمنة
لابن المقفع ورواية بدر زمانه للروائي المغربي مبارك ربيع. كما يسبح الكاتب في عبق
التاريخ والتراث رغبة في التأصيل والتجريب الروائي على غرار الزيني بركات لجمال
الغيطاني وحدث أبو هريرة قال لمحمد المسعدي... وجارات أبي موسى لأحمد توفيق وزهرة
الجاهلية ومجنون الحكم والعلامة لبنسالم حميش وثلاثية غرناطة لرضوى عاشور... وهذا
إن دل على شيء فإنما يدل على خبرة الكاتب الكبيرة في مجال الرواية وبراعته في القص
والحكي واطلاعه الكبير على النصوص الروائية التجريبية وخاصة ذات المنحى التأصيلي.
وإذا
كانت الحبكة السردية ذات خصوصيات تراثية مغلفة بقضايا العصر ومشاكل الواقع التي
تتمظهر بكل جلاء في البطالة والفساد والضياع والاغتراب الذاتي والمكاني
وإثبات الذات عن طريق الحب والزواج والإنجاب والجري وراء بريق المادة والاغتناء غير
المشروع...فإن الشخصيات تخرج من دثار الماضي لتعايش الحاضر وتستشرف المستقبل في شكل
أحلام وتنبؤات ورقية ورقمية تعبر عن العبثية الوجودية والقلق والخوف والسأم
والضياع. وهذا ما يجعل الرواية ذات رؤية وجودية سوداوية قوامها المعاناة والألم
والملل والضجر والذوبان في مصير مجهول القرار والعمق والهدف. كما يلتجئ الكاتب إلى
تقنية الاستنبات التراثي ليخلق عالما مليئا بالمفارقة والباروديا والمحاكاة الساخرة
من خلال تشخيص كاريكاتوري يثير السخرية والتهكم عبر عمليات التهجين والأسلبة
والتفاعل التناصي. إن بثينة وهند وعزة وعمربن أبي ربيعة وجميل وبثينة ما هي إلا
شخصيات معتقة بأريج التراث ونكهة الماضي تنتقل إلى الحاضر لتعيش تجربة الغرام
والمعاناة في زمن مفارق ومغاير لتلقى نفس المصير، مادام الواقع العربي واحدا لم
يتغير إيقاعه وسياقه التحتي والفوقي.
وتتسم
أمكنة الرواية بطابعها التراثي واليوطوبي والأسطوري في تقابل جدلي مع أفضية الحاضر
بواقعيتها الفضة الدالة على الضياع والعبث والاغتراب الإنساني والاستلاب الحضاري
والوجودي، بعد أن أصبح الإنسان آلة محنطة وصار الحب رقما ومادة و عبثا جارحا.
لكن يلاحظ أن فضاءات الموت كالقبور والفضاءات العرفانية كالزوايا والمعابد
والرباطات الدينية أفضية قدسية تطهيرية وملاذا للراحة الوجودية والسعادة المستشرفة،
وهذا يذكرنا برواية "المباءة" لمحمد عزالدين التازي و"اللص والكلاب" لنجيب محفوظ
حيث يلتجئ أبطالها المهزومون إلى فضاءات الموت والروح هروبا من عبثية الواقع والظلم
البشري وفضاضة الموضوع التراجيدي.
وإذا
انتقلنا إلى المنظور السردي، سنجد الكاتب مغرما بتنويع الضمائر السردية والرؤى على
الرغم من هيمنة الرؤية المصاحبة والمعرفة المتساوية ، كما يلتجئ الكاتب إلى استعمال
البوليفونية الباختينية القائمة على تعدد الرواة( بثينة، فائز...)، وتعدد الضمائر
والأصوات والأساليب على غرار الرواية المغربية الرائدة في العالم العربي في تشغيل
هذه البوليفونية إلى أقصى حد لها وهي رواية "لعبة النسيان" لمحمد برادة. ويستند
الكاتب كذلك إلى توظيف تقنيات الحكي التراثي التي تتبناها شهرزاد في ألف ليلة وليلة
استهلالا وتوليدا واستنسالا. والهدف من استخدام هذه التقنيات هو خلق نص روائي
تجريبي يستفيد من تقنيات الغرب والتراث العربي.
ويمتاز الزمن السردي في الرواية بالمفارقة وتقاطع الماضي التراثي بالحاضر المعاصر
عن طريق استشراف المستقبل وتشغيل فلاش باك على غرار رواية" الوشم" لعبد الرحمن مجيد
الربيعي. كما يتسم الزمن بالانحرافات الداخلية والمفارقات الإيقاعية سرعة وبطئا.
وتطبع الوقفات السردية لوحات وصفية ولكنها موجزة من سماتها التكثيف والإيجاز و
توارد النعوت والأحوال والأفعال المشخصة والصور الاستعارة والمشابهة.
وينصهر أسلوب السرد على مستوى الكتابة والصياغة في أسلوب التذويت(
نسبة إلى الذات) والمناجاة واستعمال المنولوج أو الحوار الداخلي المنطوق أو الذهني؛
مما يجعل الرواية نصوصا متفرقة ومتناسلة كأنها كتبت أصلا في شكل مذكرات ويوميات .
وهذا ما يدفعنا للقول الاعتقادي : إن الكاتب ألف روايته في البداية كلوحات مفككة
ومجزأة ، وبعد ذلك ركبها في وحدة سردية منسجمة معتمدا على التفكيك والمونتاج
.
أما
لغة الرواية فتتميز بتعدد سجلاتها اللغوية( الفصحى، العامية التونسية، العامية
المصرية، اللغة الأجنبية....)، بله عن توظيف خطابات تناصية مؤسلبة بالسخرية
والباروديا كالخطاب الفانطاستيكي" وتحول وجهها إلى وجه عجوز شريرة. التفتت يمنة
ويسرة فرأت مكنسة. اختطفتها وامتطتها. فطارت بها في أرجاء البيت."(ص:15 من
الرواية)، والخطاب الديني( توظيف مستنسخات قرآنية ونبوية...)، والخطاب الصوفي(
الأضرحة والزوايا والرباطات العرفانية...)، والخطاب الأدبي( شعراء بني عذرة)،
والخطاب الفني ( أغاني عبد الحليم...)، والخطاب النقدي(موقف الكاتب من شعر الحداثة
وما بعد الحداثة، فضح أسرار اللعبة الروائية)، والخطاب السياسي( انتقاد الواقع
السياسي التونسي وسياسة العولمة والخوصصة)، والخطاب التاريخي(استحضار تاريخ تونس في
الماضي والحاضر)، بله عن الخطاب الأسطوري والخطاب الشعري والفلسفي... وتحضر في
الرواية أيضا مستنسخات ومقتبسات تناصية تعبر عن عملية التفاعل التطريسي الحواري
والاشتقاق المناصي. كما استعمل الكاتب لغة المقامات ذات البلاغة السامية التي تدل
على المنحى التأصيلي لدى الكاتب ونزوعه نحو التجديد والتجريب:" فلما هممت بالرجوع،
والقلب مني موجوع، ونارها تصطلي في الضلوع. حانت مني التفاتة. فإذا بثينة تلعب
ألعابها. وتعرض أوراق الحظ على أصحابها. ناديتها فلم تسمع ندائي. ورجوتها فلم تسمع
رجائي. فعدت إلى تونس. أيأس من نبي الله يونس".(ص:130). لو جرب الكاتب هذه
الطريقة -على الرغم من صعوبتها- في تحبير رواية مستقبلية جديدة سوف يفتح باب
التأصيل على مصراعيه في الرواية العربية وسيكون من كبار رواده بلا منازع،
وسيثري النقاش حول مصير الكتابة السردية المعاصرة في إطار ثنائية الأصالة والمعاصرة
وصورة الذات والآخر و الهوية والاغتراب.
وخلاصة القول: إن إبراهيم درغوثي لمن الروائيين الموهوبين والمتميزين
في الكتابة السردية يمتاز بذكاء احترافي جيد في التعامل مع الكتابة الروائية كما
يبدو ذلك جليا في روايته الرائعة " مجرد لعبة حظ" التي يتراوح فيها بين التجريب
والتأصيل. وبذلك يدخل الكاتب المقتدر الرواية التراثية بكل جدارة مع إميل حبيبي
ومحمد المسعدي وجمال الغيطاني وبنسالم حميش وأحمد توفيق ورضوى عاشور ونجيب محفوظ...
ملاحظــــــــــــــــــــة:
جميل
حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور.
jamilhamdaoui@yahoo.fr