الأديبة الشابة زينب البحراني في مجموعتها القصصية
الأولى (فتاة البسكويت) التي حصلت بعض قصصها على
عدد من الجوائز ترسم لنا بكلماتها صورة فكرية
نعرفها جميعا : (الهاجس الملح أو الوسواس أو
الهوس)..
أحيانا تتبادر لأذهاننا هواجس غريبة تسيطر علينا
وتلح علينا بفعل ما.. أذكر في طفولتي أن كان هناك
هاجس ملح عليّ لتهشيم أنف!.. أي أنف لأي شخص!!.
كنت أسير وأنظر لأنوف الناس وأنا أفكر في قبضتي
(الصغيرة وقتها) تهوي عليهم لتهشمها، لماذا؟ لا
أدري!!.. على الأرجح بسبب تأثري ب(أدهم صبري) الذي
حطّم أنوف مئات الأشخاص (كانت مكانه المفضل في
اللكمات) في السلسلة التي كنت أدمنها!..مثل هذه
الهواجس الغريبة قد تأتي لأي شخص فيطردها بسهولة
أو بصعوبة من ذهنه بعد صراع يطول أو يقصر. ولحظات
الصراع هذه هي التي تخصصت زينب في رصدها، وبالذات
قبيل الحسم. ولذا نجد مساحة الحوار الداخلي
واستخدام صيغة الراوي الأنا موجودة بكثرة في قصص
المجموعة.
على أن هذه الهواجس تختلف وتتنوع، فمنها الإيجابي
النافع كما يحدث للفنان في (فتاة البسكويت) وهو
يعاني من هاجس صورة ثابتة في ذهنه يريد إفراغها
على الأوراق، وهو هاجس نابع من رغبته في الكمال
وخشية أفكاره الداخلية من الاستسلام للرضا بالذات.
ونجد في المقابل هاجس سلبي في (رقصة التخمة) وهو
هنا هاجس متعمق يصل لحد الانفصال في الشخصية بين
ما يفرضه الواقع من استسلام للبعض وبين ما ترغبه
النفس من تعالي وإحساس بقيمتها الحقيقية. وهناك
مزيج من هذا وذاك في (أوغاد) حيث توجد الفتاة
الغارقة في الحزن السلبي مقابل الأخرى التي تتجه
نحو الانتقام، وتشطح الهواجس لدرجة تدميرية في
(ولماذا أندم) حيث الفتى الذكي الوسيم يخفي تحته
قناعًا مرعبًا يسيطر عليه هاجس بدائي تروح ضحيته
فتاة بريئة
أو تهبط لدرجة الانتحار في (فقاعة العطر) حيث هاجس
الندم والخوف من الحياة تحت ثقل الذنب (وهذا هاجس
ليس باليسير أبدا) ،أو تهرب بعيدًا مع هاجس الخوف
من المستقبل كما في (حظ) وفي (لا أريد إلا وسادتي)
نوع فريد من الهواجس مررنا به جميعا: هاجس لا ينبع
من الوهم بل من الواقع الذي يزعجك في نومك
وأحلامك!..
ومع تنوع القصص وتنوع تلك الهواجس والصراعات بين
طموح النجاح والرغبة في الهروب أو العظمة، وبين
انكسارات الهزيمة والخيانة والرغبة في الانتقام أو
الانتحار تتجول بنا الكاتبة في باقتها عارضة
نصوصها بصورة جميلة تخلو من التكرار أو الملل ،
فلا تجد تشابه بين القصص سوى في حالة واحدة بين
بداية بائع الهواتف المجهول وبداية أوغاد مع وجود
اختلاف كبير بين القصتين .
المجموعة باسم (فتاة البسكويت) وهي
أول القصص ترتيبًا في المجموعة، وإن كنت لا
أعتبرها أقواها لكنها معبرة عن المجموعة ككل..
فبها أقوى نقاط القوة عند الكاتبة في تصوير الشغف
والإرهاق والعذاب النفسي وأقوى نقاط ضعفها في بعض
التكرار والتكلف في صياغة بعض التشبيهات.الغريب
أنني أحسست بأن القصص الأخيرة في الترتيب (أوغاد,
كلنا نريدك, حظ) أقوى من التي وضعت في المقدمة
(التي يبدأ القارئ بتصفحها عادة)
وإن كانت انطباعاتي في النهاية
شخصية وما يعجبني يسوء غيري وما لا يعجبني ينبهر
به البعض!
أجمل ما
فيه قوة التعبير عن الصراع الداخلي ومن أقصر الطرق
وأكثرها مباشرة : حوار بين الإنسان ونفسه أو قرينه
أو وسواسه. إذ نجد التردد مع البرود في القرار و
إلقاء التبعة على الأقدار في
(ولماذا أندم)
ثمّ نجد حب التملك الممتزج في الرغبة بالشعور
بالاحترام الذي تحول لصورة مرضية مع عاشق الكراكيب
(في كلنا نريدك ) . حتى عند غياب الحوار الداخلي
كما في (أوغاد) نجد حوارا بين صديقتين إحداهما
تمثل الصورة السلبية لمواجهة غدر الرجال (وهي فكرة
متكررة بطريقة لا بأس بها بين ثنايا المجموعة)
وبين الصورة الانتقامية الايجابية في الصديقة
الثانية..
ما قد آخذه على الكاتبة -
ولو أنني لست سوى قارئ عادي يدلي
بانطباعاته
- هو الصور البيانية، مركبة بطريقة معقدة
خاصة في بدايات بعض القصص. تجد تشبيه داخل تشبيه
يؤدي إلى استعارة في نهاية السطر!.. في قصص أخرى
مثل (كلنا نريدك) (ولماذا أندم) تحررت الكاتبة بعض
الشيء من هذا القيد فانطلقت كلماتها تتنفس ريح
الحرية في ذهن القارئ.
من حيث حبكة القصص فقد تنوعت أيضا، وهي محكمة إلى
حد كبير فبعضها يعتمد على مفاجأة القارئ التي قد
تصل لحد الصدمة، وبعضها يعتمد على الهواجس العامة
التي نشعر كلنا بها فننفعل معها (مثل: (حظ) حيث
الخوف من المستقبل مدفون فينا جميعا)..أحيانا عن
طريق الإدهاش والتشويق حيث نتساءل: لماذا فعل هذا
في (ولماذا أندم) أو هل سينجح؟ كما في (فتاة
البسكويت)..
أغلب ألفاظ الكاتبة سهلة يسيرة
مناسبة لجو النص، باستثناء إلحاح غير محمود في
استخدام الوزن استفعال في القصص الثلاث الأولى حيث
أن هذا الوزن الذي هو ذروة الزيادة في الفعل يدل
على قمة الجهد المبذول لم يكن له احتياج في
الأحداث وأحيانا بدا محشورا من قبيل الزينة رغم
تناقضه مع جو الجملة.
(طبعا مرة أخرى لست ناقدا متخصصا
وإنّما أنقل انطباعي كقارئ)..
بعض قصص المجموعة كنت مركزة واضحة، البعض الآخر
شابه شيء من التكرار وبدا أن الاختصار سيفيده.
ولكن حتى في هذا لم يصل لدرجة الملل أو مضايقة
القارئ. وهذا يُحمد للكاتبة أن فراملها أجادت
التوقف في الوقت المناسب حتى ولو لم تترك مسافة
الأمان الكافية في بعض الأمثلة القليلة .
من الطريف أن قصة (أوغاد) التي حازت قدرا أكبر من
التكرار كانت من أقوى قصص المجموعة على الإطلاق!
محمّد الدواخلي
19-1-2008م