قراءة في المتن الشعري
العراقي
باسم فرات أنموذجا
مازن
المعموري -
العراق
غالبا ما
ياخذنا الحديث عن اللغة الشعرية الى عوالم تجريدية تشير الى ان العالم الانساني
ينتشر في الزمن والفضاء، بحيث تتموضع تلك اللغة وتحتل لها مكانا متميزا في تشفير
تلك الذات ، ولطالما استطاعت اللغة الشعرية العراقية موضع الدرس، تاخذ سيادتها في
تحليل الوجود لتعيد قراءتنا في كل مرة نحاول تمرير شفراتنا تلك ، من هنا تاتي اهمية
دراسة اللغة الشعرية من خلال نماذجها الجادة والحقيقية ، وهذه الدعوة لاعادة قراءة
المشهد الشعري العراقي هي في حقيقتها قراءة للواقع والتاريخ وتحولات الخطاب الثقافي
كاستراتيج وممارسة (سسيوثقافية) للمنجز الشعري العراقي.
في لغة الشعر الحداثي
تزدحم مجموعة شفرات ذات قوة خطابية سناتي على تناولها تباعا، حيث يبدو مفهوم
الخطيئة بابعاده الاسطورية والتاريخية يمتلك حضورا فاعلا في مجمل المنتوج الشعري
مابعد السبعيني (وانا اصر على هذه التسمية لاشتمال هذه المرحلة على مجموعة مفاهيم
ارتبط واسس لها اغلب شعراء هذه المرحلة) ففي مجموعة الشاعر باسم فرات ( خريف
الماذن) يتشظى ذلك الاحساس الكبير بهذه الاخطاء الجسيمة ، وهي اخطاء وجودية ذات
دلالة عميقة تعبر بلا شك عن محنة انجبها الاباء وابتلى بها الابناء تحت وابل من
الاحباطات والمكائد والفشل.
أخطائي
تابوت
أخطائي
أنا
أخطائي
أبي
خطأ
يتناسل
امي
خطأ ينتظر خطأ
من أجل خطأ
أنا
خطأ يعد الخطى فيخطيء
إن
هذا الردم المتواصل للذات وتحطيم ما
بقي عالقا في ذاكرة المشهد هو في حقيقته تداعيات سيكلوجية تثير في ذات الوقت
انعكاسا لخارطة الايدلوجيا العسكراتية في اسوء مراحل حضورها في تاريخ المجتمع
العراقي وانهماك الشاعر في عزلة مريضة سلبية غاية في النشاز، ولكن هذا النشاز كان
ذو فعالية في الرد باعتباره( خطاباً مضاداً ) مشفراً نحو تأثيث ذلك النزوع والرغبة
العارمة للامساك بآخر ماتبقى من انسانية الفرد في ظل مجمل اشتباكات الصراع السياسي
في المنطقة والذي كان بلا شك قد دفع ثمنه الكائن العراقي بصيغته الشمولية والمطلقة
كجزء من هذا العالم المرير حد الغثيان.
لست الا الاخير في قافلة
العزلة
ولأني بلا أمجادٍ ترصّع
حياتي
تركتني احلامي ومضت
على الشبابيك تركت تلهفي
والابواب تركت عليها
خيباتي
لقد شكلت مرحلة الحرب
تحولا جذريا في علاقة المجتمع مع المثال الشعري ، والحقيقة فان الشاعر هنا في هذه
المنطقة الساخنة وفي العراق تحديدا كان له الاثر الكبير في بنية المجتمع الثقافية
بدأ بالشعراء الكباركالجواهري وانتهاءا بتفريغ الساحة الثقافية من نموذج ذو فعالية
ثقافية يؤثر فيه، لذلك كان اخطر فخ يقع فيه ذلك الكائن حينما فقد المثال المتعالي
واصبحت القاعدة تعاني من رسوب الاملاح والطمي حد العمى، فلاغرابة ان يصرح المفكر
العراقي حيدر سعيد بان المثقف العراقي يصرخ في فراغ ، وياله من فراغ استوعب كل تلك
العوادم السوداء وكاد ان يغلق النافذة تماما .
عاش الشاعر العراقي
شيزوفرينيا من نوع خاص حيث تتداخل صورة الشارع والمدينة مع صورة السلطة والعنف ،
فمارست كل من الصورتين حضورهما بقوة في انتاج قلق وجودي للمرة الاولى في تاريخ
الشعر العراقي من خلال تبني مفاهيم الشعرية الحديثة والاحتيال على الرقيب كسلطة
ايدلوجية ، بقي غائبا بسبب سطوته المطلقة واقتراح صورتين في وقت واحد ، كان الوجه
السالم الصورة يمثل حقيقة الخطاب الثقافي اما الصورة الظاهرة فهي الصورة العوراء
والمهلهلة ، جاءت لتؤدي وظيفة الدرع، والحقيقة فان هذه الآلية التي استخدمها الشاعر
هي التي وضعته في عزلة (اجتماسياسية) بقيت تلاحقه حتى هذه اللحظة ، حيث برّر الشاعر
الثمانيني هذه العزلة باعتبارها شفرة أدّت اشكالاً ووظائف مختلفة وعبرت عن مستويات
دلالية قدمت نماذج شعرية جديدة ومفاهيم قراءة اتاحت لهذا النموذج حضوره المؤثر
وأصبحت اللغة الشعرية لدى باسم فرات محملة بالكثير من هذه الجمل التي تكاد تكرر
نفسها في عدة نصوص.
جسدي أدمَنته الشظايا
فلاذ بقهوة المنفى
منعزلاً في اقصى الضياع
في نص (جنوب مطلق ) يشير
الى تلك العزلة حتى تبدو وكان ذات الشاعر استنفدت ماديتها وتحولت العزلة الى الروح
حتى بات الحلول الصوفي أحَد أهمّ المبررات لهذا الخطاب ( الضد) .
انا والله وحيدان
ثمة ابدية تستظل بي
هكذا اصبح الحوار
انطلوجيا محملا بلغة ميتافيزيقية تتعالى على الواقع وتنقل الرائي الى زمن مختلف
يحيط به من كل جانب حيث يبدو المكان مطلقاً والزمان أبَدياً ، اما اللغة فهي الظلال
التي تؤشر وجوده ، واللغة هنا هي ذلك المدى المطلق الذي يرمم كل تلك الندوب
والعلامات التي شاخت كلما اقترب من الحقيقة المطلقة ، ولن أغالي حين أقول ان هذه
الجملة الشعرية هي اقصى ماتوفرت عليه مفاهيم التفجير اللغوي للجملة الشعرية، وهي
بلا شك ذات مرجعيات صوفية لامتدادها المطلق دلالياً ، ولكن سرعان ماتخفت هذه الطاقة
التعبيرية حين ننتقل الى الجمل التالية داخلا في مجريات ذات أبعاد ضيقة ويومية .
ثمة نسيان يغادرني
تاركا رائحة القصف في
ممرات عمري
تستغفلني الحرب فتكنس
افراحي
منذ ثلاثين سنة قمرية
تحتطب أمّي انتظارها
طفولتي التي سَخّمَها
الفقرُ واليتمُ
وهذه الجمل في حقيقتها
اثرت سلباً في تصعيد التوليد الدلالي للنص وبقي محاصراً في مجال تداعيات الحرب
وتاثيراتها النفسية مما قيد لغة الجملة السابق رغم مالها من انفتاح هائل باتجاه
تاسيس رؤية فلسفية عميقه تختزل الفضاء الشعري بالكامل ، اذ ان هذا النص يمثل خلاصة
التجربة الشعرية التي قدمها باسم فرات في هذه المجموعة المتميزة لقدرتها على
الايحاء بوجود اشتغالٍ من نوع خاص في مجال الجملة الشعرية ، وهي سمة الجيل
الثمانيني بشكل عام .
ان احدَ أهمّ الاشكالات
التي يعاني منها الشعر العراقي حتى على يد كبار الشعراء هي وقوعه في فخ التاريخية ،
اذ انه سرعان ما يتساقط من برجه العاجي الى ملموساته اليومية بحيث تفقد دواله
القدرة على التوالد والانحسار الى الداخل ، اذ يتشكل المؤشر البياني من أعلى مستوى
له الى قعر المرتسم مرة واحدة، ولااريد ان أُتهم بان على الشعر ان يكون متعاليا حد
الانفصال عن الواقع ولكني اطالب باستحضار وعي الشاعر داخل النص ليؤسس رؤيته الشعرية
معرفيا ، ولنا في ذلك امثلة مهمة في الشعر العالمي حيث استخدم الشاعر اليوناني
ريتسوس اليومي والمتداول ولكن باي رؤية معرفية وفلسفية عالية00!؟ تاخذ بالقاريء الى
أبعاد مترامية الاطراف في جسد الكون كله وتفتح ابواباً غير متناهية لانشطار اميبي
لشفرات النص وقراءته بشكل مستمر .
قد يكون ذلك المؤشر سمة
الانسان العراقي وهو يعيش ذلك الانهيار ولكنه في نفس الوقت سرعان مايتعالى بنبض حاد
يخترق كل شيء والى الابد .