ف |
شعر مترجم |
شعرية العنونة : مكاشفة سيميائية في نص (يبكي .. ويضحك) للشاعرة مرام اسلامبولي حمد محمود الدوخي - العراق
يعتبر العنوان مفتاحا اولياً واساسياً في أي متن،لذا ينبغي على أي مشروع قرائي أن يتفقَّهه قراءة وتأويلاً.. فهو يعدُّ عتبة مقدسة في النص ومكونا مهما من مكونات هوية هذا النص. وأفضل حقل لدراسته هو حقل المقاربات السيميائية، وهذا التفضيل متأتٍ من ملائمة هذا الحقل لطبيعة عمل العنونة الإجرائية، فهي عملية (تأشير) النص أو تسويمه كما جاء في لسان العرب إذ (قال ابن سيده: العُنوان والعِنوان سمة الكتاب. وعنونه وسمه بالعنوان.. وقال أيضا: وفي جبهته عنوان من كثرة السجود.). إن العنوان هو الذي يفكر للنص، لذا لابد أن نجد النص كله مختزلا في عنوانه _ هذا في حال أن تتم العنونة وفق آلية اشتغالٍ عاليةٍ تتفجر منها القصدية والانتباه_ فالعنوان كما يرى (سعيد علوش) في (معجم المصطلحات الأدبية) إذ يقول:(هو مقطع لغوي أقل من جملة يمثل نصاً أو عملاً فنياً). وهنا نلاحظ أن التعريف يؤكد على أن العنوان هو النص أو العمل الفني كله، ولو انه يحدده بأقل من الجملة وهو بالامكان أن يكون جملة أو أكثر بل ويتجاوز آفاق العنونة المألوفة إلى بيئة عنوانية جديدة كأن يُعنون بأرقام أو نقاط أو علامات ترقيم أو ما إلى ذلك ..وفي نص (يبكي.. ويضحك) للشاعرة (مرام اسلامبولي) تعلن شعرية العمل عن وجودها في مدِّ شبكة عنوانية داخل نسيج هذا النص الذي يحتوي على عشرة عناوين داخلية، أو فرعية هي (قلب أخضر/ كي أنسى/ صوته/ مسافر/ نبوءة/ أدوار/ خبث الرجال/ متسولة/ انهزام/ بذرة نائمة). هذا فضلا عن العنوان الخارجي أو الرئيس(يبكي..ويضحك). ويتمظهر وجود هذه الشعرية من خلال عمل العنوان بوصفه عنواناً من وجه، وبوصفه فاعلاً في التواصل والتوجيه القرائي من وجه آخر، وإذا أردنا أن نتفحـَّص العنوان الرئيس بمجسّة سيميائية فسنكتشف أنه يتألف من ثلاثة مقاطع هي : 1_(يبكي) 2_(..) 3_(ويضحك)، ونلاحظ أيضا أن العنوان ينطوي على تنظيم تحرُّكيٍّ يأخذ فاعليته من القوة التي يمتاز بها الفعل المضارع بطبيعته الحركية،ويأخذ تنظيمه من علامة التوقف المؤقت (..) التي وجَّهت هذا التحرُّك العنواني للفعلين. إذ أن هذين الفعلين يؤسسان لضدية في التوجه فـ(يبكي) عكس (يضحك) لذلك توجَّب أن يكون بينهما نوع من التوقف لكي تنتظم حركتهما أي ينتهي الأول ليبدأ الثاني، ويمكن أن نوضح ذلك أكثر بالترسيمة المبسطة هذه : يبكي ـــــــــــــ .. ـــــــــــ يضحك وهذه الضدية التي أسس لها العنوان الرئيس سوف تجد تأثيرها في النص عموما، إذ سيخضع بموجبها في بنائه المقطعي إلى جملة عوامل أهما التأسيس على التضاد والاحتمالية والحوار والتساؤل اللذان يقتضيان اشتراك الآخر واستدعائه. بعد ذلك يبدأ عمل العنونة الداخلية التي قطَّعت النص إلى عشرة منازل شعرية وفيها يختزل عنوان المنزل الشعري الأول (قلب أخضر) مجمل تحرُّكات البنية الشعرية إذ يأخذ هذا المنزل مجريات تمفصله من العنوان، وذلك لان هذا المنزل مؤلف من مفصلين هما الأول : مفصل تساؤلي يستنهض عملية بناء المنزل شعرياً بالاتكاء على العنوان: إن كان كذبا ما يقولون: إن لقلبك لونا اخضر الثاني : مفصل استفساري مبني على أساس المفصل الأول الذي استنهضه بالتساؤل مرة وساهم في بنائه مرة أخرى وذلك في ما يوفره توصيف (لون اخضر)لـ(قلب) بحسب الاستخراج السيميائي للدلالة.. فمنه ستخرج مكونات هذا التمفصل : فلماذا ؟ كلما التقينا تعرِّش الخمائل على جسدي، عشب اخضر مجنون يقتفي اثري، وتصير يداي واحدة زهرة دفلى أما الأخرى سياجاً أراد أن يطوقك فتكسر .... وهنا تبدو واضحة عملية خروج المفصل من العنوان إذ أن اللون الأخضر هو المموِّل الوحيد دلالياً لحالات مثل (تعريش الخمائل والعشب وزهر الدفلى ..). أما المنزلان الشعريان الثاني (كي أنسى) والثالث(صوته) فانهما يؤكدان حضور العنوان من خلال تكراره غلى درجة انه أصبح لازمة تقوم بتنشيط ذاكرة النص والصعود في بنائه الشعري . ففي (كي أنسى) يقسم البناء الشعري إلى سطحين تـُوبعا من قبل العنوان بتنظيم منطقي لنمو التحرُّك الشعري في كل سطح .. ففي السطح الأول تتبنى عملية التنظيم هذه أربعة أفعال راعت التسلسل المنطقي في الحركة : هجرته + فنصب + ركب + عاد …. / وذلك بعد أن يُفتتح المقطع بالعنوان الفرعي (كي أنسى) : (كي أنسى)
وعلى هذا تكون عملية التنظيم واضحة وهي : كي أنسى = هجرته + فنصب + ركب + وعاد ……… وكذلك هو التنظيم في السطح الثاني ولكن بارتفاع في عملية التصعيد الشعري :
ولكي نوضح ذلك أكثر نقدم مقابلة بين السطحين تبين طبيعة عمل الأفعال فيهما وتظهر مدى نمو التصعيد الشعري :
ففي السطحين نلاحظ أن المهجَّر يعود (مع الدم) مرة أخرى أو (يظل ما يشبه طيفه …) أي انه هناك توافق في طريقة البناء ولكن التمايز هو في التصعيد الشعري لهذه الطريقة في السطحين . أما المنزل الثالث (صوته) فيقسم المكان إلى أربعة أسطح شعرية مما يؤكد نزول العنوان (صوته) إلى الساحة بكثافة ، إذ يحتل مكان الرأس في هذه الأسطح مما يجعل من عملية البناء الدلالي لهذا المنزل عملاً عنوانياً بحتاً ، وإذا أردنا أن نعطي مسوغاً نصياً لذلك فعلينا أن نلاحظ طبيعة هذا الصوت : (صوته)
فهو متيبس كـ (خريف بأوراق هشة وجرار عطشى) وجاف كـ (العصا والصحراء) …. الخ . أما في المنزل الرابع (مسافر) فإننا نرى أن البناء الشعري يأخذ من الطبيعة الدلالية للسفر ظهيراً بانورامياً لبناء المشهد على الرغم من أن هذا المشهد يُختزل في الأسطر الثلاثة الاولى وما بعدها يأتي تعليقا عليها : (مسافر)
وهنا نلاحظ أن تخطيط الحركة في هذه الأسطر جاء مماشياً لطبيعة السفر (جنح/ وخذ/ وقبل الفجر) ففي كل ذلك يتضح ارتباط المتن بالعنوان (مسافر) . بعد ذلك تأخذ العنونة طريقاً مغايراً في الاشتغال الشعري وذلك في المنزل الخامس (نبوءة) إذ نجد المفردات التي تندرج تحت معطف النبوءة مبثوثة في زوايا المنزل الشعري ممثلة ما يمكن أن نصطلح عليه بـ (الملحق بالعنوان) على غرار الاصطلاح النحوي (الملحق بالمثنى وبالمفعول المطلق …)وقد بـُثت في سياق يضمن لكل واحدة منهن إرثها سواء الطبيعي كما في (الغيب) :
فمن الطبيعي أن الغيب حال مجهول يحتاج إلى سؤال واستفسار .. أو الإرث الشعبي كما في (الفناجين والأبراج) :
باعتبارهما وسيلتي استبصارٍ شعبيٍّ حول التنبوء بالمجهول من قبل (العرافة)، أو الإرث الديني كما في :
وذلك لان مفردة (الضلع) ذكورياً ، تحيل إلى قصة خلق المرأة في الموروث الإسلامي، كذلك تعمد الشاعرة إلى فتح طريقة مغايرة أخرى في المنزلين السادس (ادوار) والسابع (خبث الرجال) وهي طريقة بناء تسهـّل مهمة ربط العنوان بالمتن وتجعلها أكثر فاعلية في التواصل وفي الإنتاج الدلالي … ففي (ادوار) تهيئ الشاعرة من خلال الأسطر الأربعة الأولى عملية تطبيق الأدوار أي ربط العنوان بالمتن ، وذلك كالآتي :
التهيئة
الأدوار
والحال نفسها
في المنزل السابع (خبث الرجال) إذ تتم التهيئة في السطور السبعة الأولى
ومن ثم تنفرط حبات العنوان في المتن
بعد أن يأذن بذلك السطر السابع، الذي تتمظهر فيه هذه التهيئة ،
علاوة على اعلانه (خبث الرجال)، علامةُ الترقيم (النقطتان الرأسيتان :)
التي بطبيعتها تأتي قبل الموضع المراد التفصيل فيه وذلك على النحو التهيئة
الإعلان
التفصيل
بينما بني المنزل الثامن (متسولة) على أساس المفارقة الشعرية ، إذا ما نُظر إليه من خلال العنوان (متسولة) فهو يسخـِّر تقنية الراوي لرفع صوت هذه المفارقة الذي يتجلى في علامة الحذف (…) في السطر الأخير ، على اعتبار أن المحذوف هو العنوان (متسولة) . والمفارقة تـظهر في أن المنزل الشعري يتخذ من (متسولة) عنواناً له، وبعد أن يهيئ له الأجواء اللازمة بوساطة الروي يحذفه من المتن وذلك لكي يولج العمل الشعري في سياقات دلالية ابعد من السياق الذي يوحي إليه الوضوح في الروي :(متسولة)
وفي المنزل التاسع (انهزام) الذي تقول فيه : (انهزام)
نلاحظ توسعا في استخدام علامة الحذف (التنقيط) مسنودة بعلامة التعجب ، وذلك يتم بعد أن ينشر العنوان أوصافه على المتن . فالعنوان (انهزام) وأوصافه تتموضع في (رصاص ، جهات ، قصف ، عصف) وتتكفل علامتا الترقيم (التعجب والحذف (التنقيط)) وفق التوجيه الذي يفرضه العنوان، بفتح المجال للقارئ - بوصفه مشاركاً غيرياً في إنتاج النص - لتشييئ أو رسم هيئة لهذا الانهزام الذي تطالعنا أوصافه في المتن . وأخيرا في المنزل العاشر (بذرة نائمة) : (بذرة نائمة)
نلاحظ أن الشاعرة تتخذ من العنوان بؤرة يدور حولها المشهد الشعري الذي تشكله حكايتها على نحو سببي = (بذرة يحتضنها التراب … فتنمو) لهذا كررت ذكر العنوان في وسط المشهد وجعلته نتيجة للتقابل الناتج من (اسلم عليك وتسلم علي) .. بمثل هذا التسويم والتأشير للنمو الدلالي في النص بواسطة العنوان اشتغلت الشاعرة مرام اسلامبولي نصها الموسوم (يبكي …… ويضحك) .. إشتغالاً شعرياً ناجحاً.
|
|
|
|