ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

 

فاروق شوشة - مصر

محمد الربيعي ومطره العصي
فاروق شوشة - مصر

 

هذا شاعر قنع بحظه في الحياة والشعر‏,‏ ولم يشأ أن يحلق جناحاه خارج بلدة سوهاج‏,‏ وقد كان جديرا بأن يسمع الناس صوته في مناسبات القول‏,‏ وعبر منابر الإنشاد الشعري في الملتقيات والمهرجانات والاحتفاليات‏.‏ لكن حياءه أو فلنقل تكوينه الريفي الصعيدي من ناحية‏,‏ وتعففه عن مواطن لايأمن واردوها مخالطة من لاتطيب الحياة بصحبتهم أو حتي برؤيتهم ومواجهتهم‏,‏ واعتزازه بكبريائه التي عصمته من الوقوع في شرك الشهرة والبريق والزيف الترويجي لبضاعة كثيرا ما تكون فاسدة وراكدة‏,‏ كل ذلك جعل منه نموذجا لمن يبدع ويطوي نفسه علي ما ينجزه‏,‏ ويكتب ثم لايشغل نفسه بتسويق ما كتبه أو الإفادة منه بأية صورة من الصور‏.‏ وظل محمد الربيعي ـ كبير شعراء سوهاج ـ بسبب هذا كله‏,‏ ونتيجة له‏,‏ بعيدا عن الضوء مؤثرا للظل‏,‏ يغزل شعره علي مغزل صبره وأناته وطول باله‏,‏ غير عابئ بأن الدنيا من حوله‏,‏ في سوهاج‏,‏ وفي غيرها من بقاع مصر‏,‏ تقوم كثيرا ولا تقعد‏,‏ وترتج حناياها كثيرا ولاتهدأ‏,‏ فلا يغريه هذا كله بأن يمد رأسه خارج أسوار فرضها علي نفسه‏,‏ ولا أن يخطو بقدميه خارج حدود الدائرة الجغرافية الضيقة التي منحها حياته وشواغله وحبه وانتماءه‏,‏ وعانق فيها قدره الذي أسلمه الي ماهو فيه‏.‏

ومحمد بخيت الربيعي ـ الشقيق الأكبر ـ لصديقنا الناقد الكبير أستاذ الدراسات الأدبية الدكتور محمود الربيعي‏,‏ ولد في جهينة بمحافظة سوهاج‏,‏ كما ولد أخوه ـ وتخرج في كلية اللغة العربية بالقاهرة قبل ان يتخرج شقيقه الأصغر من كلية دار العلوم بأربع سنوات‏,‏ ثم تخرج في معهد التربية العالي للمعلمين بجامعة عين شمس‏(‏ كلية التربية الآن‏)‏ مانحا عمره كله للعمل التعليمي‏,‏ يرقاه درجة بعد درجة وصولا الي قمته‏,‏ ومضيقا علي نفسه كل التضييق كلما جمح به الشعر الي واحدة من مناطق البوح ومشارف المكاشفة‏,‏ فترده هالة المعلم والمربي والموجه الي التوقر والمحافظة والبعد عما يريب‏.‏

لكن محمد الربيعي استطاع ـ بالرغم من كل هذا ـ ان يمد في حبل الشعر‏,‏ وان يواصل الانتساب الي دولته‏,‏ وان يصبح واحدا من رعاياه‏,‏ بينما آثر شقيقه الناقد الكبير ان يقطع الطريق علي محاولاته الشعرية الباكرة‏,‏ بعد ان أصبح وعيه النقدي عقبة بينه وبين شعره‏,‏ فالذي يرضيه لا يواتيه‏,‏ تمسكا بمقولة الخليل بن احمد‏:‏ أصبحت كالمسن‏,‏ أشحذ ولا أقطع‏,‏ لكن شاعريته لم تخنه ولم تتخل عنه‏,‏ وأصبحت نهرا متدفقا رقراقا‏,‏ ينساب في كتاباته النثرية‏,‏ ساكبا عليها من ماء الشعر وكيميائه‏,‏ خاصة في سيرته الذاتية بقسميتها‏:‏ في الخمسين عرفت طريقي‏,‏ وبعد الخمسين‏.‏

المطر العصي هو المجموعة الشعرية الثانية لمحمد الربيعي‏,‏ بعد مجموعته الأولي مازالت عندي أغنية التي أصدرها منذ اثني عشر عاما‏.‏ وهو لايتردد في الاعلان عن إيثاره لكتابة القصيدة العمودية‏,‏ وإن كان قد كتب أيضا قصيدة التفعيلة‏,‏ شأن كثير من مجايليه‏,‏ في حركة الشعر المصري المعاصر‏,‏ الذي حركتهم شاعريتهم‏,‏ وشدة اهتزاز وجدانهم للقصف الشعري المغاير‏,‏ الي خوض بعض المغامرات الإبداعية في غير القالب الذي ألفوه ومرنوا عليه‏,‏ وبعد ان ينتهي فعل المغامرة تكون العودة الي الطريق المأمون والسياق المألوف‏:‏

ـ أصل آخر من صنف الزئبق
لاتقدر ان تمسكه جسدا ولسانا
أحمق‏,‏ أحمق‏..‏
لكن مطلي بالفضة‏!‏

ـ أصل آخر معدنه الألماس
تخدشه يبرق
تختبر حقيقته يصدق
يحتك به ازميلك حين تغاضبه

فيعطر هذا الإزميل
تكشف عنه تراب الأرض
ينور صبحا

يكشف سر الليل
قال صديقي‏..‏
وهو يلملم أوراقا فيها أسئلة حيري

ـ يكفينا الليلة ما قدمت

ومن أكثر قصائد المجموعة فنا وإنسانية قصيدته أنا شاكرة لك يا أبي التي تلامس وترا أصيلا في الوجدان‏,‏ حين يستعيد أمثالنا من أبناء الريف البعيد‏,‏ نضال هؤلاء الآباء الاستثنائيين‏,‏ وإصرارهم علي تعليم أبنائهم‏,‏ بينما الواقع من حولهم يموج بالظلمة والتخلف والأمية والانسحاق‏,‏ لكنهم يقدمون علي التضحية بكل ما يملكون ـ وهو في حقيقته يكاد يكون لاشيء ـ ويقتطعون من قوتهم‏,‏ وقوت من لم يتح لهم ان يتعلموا من ابنائهم ـ من أجل ان يفوز من فاز في سياق الحياة‏,‏ حين تعلم وأصبح يشار اليه بالبنان‏.‏ يقول محمد الربيعي‏:‏

أنا شاكر لك يا أبي‏,‏ علمتني
هذي الحياة مذاهبا وطرائقا
لولاك ما كتب اليراع قصيدة

كلا‏,‏ ولاملك اللسان الناطقا
أنت الذي كشف الغطاء فحلقت

بعدي طيور خلتهن بواشقا
لولاك ما طاروا‏,‏ ولم ينبت لهم

ريش‏,‏ وما خاضوا العلوم زوارقا
لولاك ما كانت بناتي كالنجوم
الزاهرات‏,‏ يضئن ليلا غاسقا

علمتني ورحلت أنت مبكرا
فعجزت أن أسدي الجميل اللائق
أنا شاكر لك يا أبي‏,‏ وفمي يقبل

تربة‏,‏ ويدي تصون مواثقا

وياصديقي شاعر سوهاج الكبير محمد الربيعي‏,‏ لم يعد مطرك عصيا‏,‏ لقد هطلت سحائبه‏,‏ وأينعت غراسه‏,‏ وفاضت ينابيعه وجداوله‏,‏ اترك لإبرة الشاعر ـ علي حد قولك ـ ان ترفو من أثوابنا البالية‏,‏ حتي نغير الجلد والثياب‏!

(نقلاً عن الأهرام 19/02/2006)

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا