سوزان
عليوان المغتربة في الزمان
فاروق شوشة
- مصر
ما عاد لي رغبة في
أرض.. بلاد الله ما عادت واسعة, الأرواح ايضا ضاقت, كأحذية قديمة,
القارات, القري, القلوب, قبائل من القتلة والقتلي, الشمس جارحة, والليل ـ
خفاشا ـ ينهش لحم النجوم. الجثث هنا, أكثر من الزهور, وساقية الدم لاتكف عن
الدوران.
بهذه الكلمات العنيفة المحتجة, المتوهجة بشهادة علي المكان والزمان والبشر,
تفتتح الشاعرة سوزان عليوان مجموعتها الجديدة مصباح كفيف هذه المتمردة المغتربة
التي تحمل أصولا عراقية ولبنانية, والتي تعلمت في مصر( تخرجت في الجامعة
الأمريكية بالقاهرة) تحلق في مجموعتها الشعرية المتتابعة من فضاء إلي آخر,
وتنضج لغتها البسيطة جدا, الصعبة جدا, بالمزيد من التكثيف والشحن,
والاقتصاد, لتصبح لغة مكتنزة بالوعي والخبرة والسفر في الوجوه والأمكنة
والحياة, بكل تفاصيلها الشديدة الدقة, التي لاتلتفت اليها إلا عين لاقطة
كاشفة, وحساسية عارية مستنفرة, وليكون لنا ـ نحن قراءها ومتابعي مسيرتها
ومكتشفاتها ـ هذه المتعة الحلوة المرة,
وهذه الوقفات المتلاحقة أمام صدمات العبارة وجموح المعني, تقول سوزان عن الروح في
مصيدتها: أفترض فضاء وأدخل أدخل احتمال المكان, المكان الذي لايتسع لشجرة,
لطائر, لراحة يد, علي الكرسي نفسه, كل ليلة, والعالم من أمامي عابر,
الفأرة في كفي, الروح في مصيدتها, بلوح زجاجي, أبدلت حياتي, والشمس التي لم
تدم طويلا, بأيقونات مريم, كل ليلة, ومن الكرسي ذاته, أغادر جسمي, وصوتي
والذاكرة, أبتكر مخلوقات ناعمة, تبدد رتابة المربعات, تضيء في الزوايا
عزلتها: زهرة حائط, غزالة من عين الدمع تشرب, قرية من تراب وقناديل, لا
أحمل إلا عيني لأري لأتلمس في الظلام كائناته, أشعل قلبي, مصباحا كفيفا.
هذه لغة مفعمة بكيمياء الشعر, وسره العميق, نقية إلي أقصي حد, شديدة السلاسة
والعذوبة والتدفق, لا سدود ولا اصطناع لتغريب أو معاظلة, للإيهام بأن وراء
الكلام ما وراءه, كما يفعل كثير من شعارير هذا الزمان الذين لايعرفون لغتهم
أصلا, فضلا عن أن يبدعوا بها فنا, له جمالياته وتجلياته, وهي لغة لاتلحق
صاحبتها بأحد, ولاتجعلها تابعة لرائد أو زعيم قبيلة أو عشيرة, هي بنت نفسها,
وهي صنعة إبداعها وتشكيلها, لم تمتح ماء هويتها من أنهار الآخرين, ولم تنسج
خيوطها علي أنوالهم, ولم تدع لنفسها أكثر مما تمتلك, في زمن تطفو علي سطحه
ادعاءات كاذبة وأباطيل لم يعرفها تاريخ الشعر العربي منذ كان, تضحك أكثر مما
تبكي, ويطهرنا الضحك الساخر من كل مايخلفه البكاء.
تقول سوزان: ما الذي يعنيه أن نتحادث في خواء كهذا؟ أن نعيد إلي البياض صوته,
أن نعود إلينا.
وتقول تحت عنوان استعارات خادعة كل شيء مستعار هنا, الجدار والنافذة, ظلال
السقف, الباب الخادع بين فراغين اسهر ودمعة مصباحك.
وتقول عن نافذة ما: لنفترض أنها نافذة, من خشب محفور, وعصافير زجاج, الشاشة
الباردة, ومع نجوم, بين اسمينا, تجمد, لنفترض أنها جذور, هذه الأسلاك
الممتدة, منقلب الآله ـ إلي عروقنا, وأن أطرافنا عبر المفاتيح تتشابك,
أغصانا, عناقها الأبواب في مجموعتها الأخري, كائن اسمه الحب تبدع سوزان عليوان
عددا من اللوحات الشعرية الفاتنة, في قالب إلا بجراما الذي لايتقنه ـ عادة ـ إلا
من تسمح خبرته اللغوية والتعبيرية, وحسه النقدي الساخر, باقتناص المفارقة,
والدهشة, والغرابئية, ومكنون الدلالة المراوغة, والتركيز, تقول: كلما حط
علي كتفه طائر, تذكر الشجرة التي كأنها مقعد منسي في حديقة, شريطة في شعر طفلة
تحلم بأن تكون فراشة, فراشة تحلم بأن تكون شريطة في شعر طفلة: طفلة تحلم,
نغمة تعاتب الناي, لم لم تتركني مع العصفور؟ خفاش يسأل الليل: لماذا أنت قاس
هكذا, يا أبي؟ أذنه علي جدار الزنزانة, ينصت إلي نبض عصفور رسمه بأظفاره,
فنجان حزين جدا, كيف له ان يحضنها فيما تقبله, وله ذراع واحدة؟
مثل هذه اللوحات الخاطفة اللمح, والإبجرامات الآسرة لغة وحسا ومغزي, تعلن عن
مبدعة نضجت ملامحها وقسماتها واغنت رحلتها الشعرية بكنوز جديدة, ومنطلقات مدهشة
وهي في مجموعتيها الجديدتين: مصباح كفيف, وكأس اسمه الحب, تتجاوز ـ بكثير ـ
ما أنجزته في مجموعتها السابقة.
ويبدو أن الكوكب الأحمر الذي يظلها وان كانت تغترب عنه, قد نجح في أن يوفر
لفرشاتها مادة لونية بديعة سكبتها علي الورق, وخبرة حياتية عارمة ـ بالرغم من
عمرها الشاب ـ صبغتها بهذه الألوان, فكان هذا الفن الجميل المختلط القسوة
والمتعة, والنشوة والمعاناة.
(نقلاً عن الأهرام)
|