|
أقلِّي النوم عن جفـن الرقـاد
وقومي وانظري رمم الجمـاد |
أصيخي واسمعي قد قال حقـا
نجاد الحق محمود النجـادي |
أحال الصمتَ أنوارا ونـورا
أماتَ الخوف في عين السهاد |
نضا التاريخ عن سفر عظيـم
لمجـد خطـه قلـم الجهـاد |
بلينا بالخدائع وهـي تـردي
ولم ترض الخدائـع بالرشـاد |
صبرنا والكواسـر تزدرينـا
وتنهبنا علـى مـرأى العبـاد |
جنحنـا للسـلام فـكـان ذلا
أمات العزمَ في الأمم الشـداد |
نجـاد وأيـن مثلـك للنجـاد
رميت حصون صناع الفسـاد |
ولم ترض المذمة كيف ترضى
لأمـة أحمـد بـاغ وعـادي |
فأنت لأمـة الإسـلام رمـز
وإن غاب الرموز فمن ننادي؟ |
قد اتضحت نوايا الغدر جهرا
فهيئ ما استطعت من العتـاد |
ورتق بالدهاء جروح عصـر
يكاد يموت من طعن الـوداد |
أقلِّي اللوم عن صـاد وفـادي
وقومي والبسي ثوب السـواد |
فصوت الحق يقرع كل قلـب
ولـو أنـا كثيـر كالجـراد |
ونؤخذ غيلة ونمـوت قهـرا
ونار الغدر من تحت الرمـاد |
هو البغض المدجج بالدواهـي
سيشعل ثأر موجـوع الفـؤاد |
نجاد وأنت في القمم العوالـي
لعلك ديمة تغـري الغـوادي |
فينعم في ندى الإسلام عصـر
ويشرق من سنا الإسلام هادي |
|
البيت الأول:
أقلِّي النوم عن جفن الرقاد
وقومي وانظري رمم الجماد |
إن الشاعر في ذلك البيت أرسل جنود أفكاره هنا وهناك.. بل وجنّد في رعايتها
وطاعتها أفكارنا نحن الآخرين.. وكيف لا؟!.. وإنه قد وظّفَ الكلمات بتقنية يجد فيها
ابنُ كل طبقة من طبقات القراء ما يسعفه..
إن الكلمة هنا وفي هذا البيت بالذات منسوجة بحرفيّة عالية وأبعاد ممتدّة في
اتجاهات كثيرة جدا.. مؤكدة أنه احتراف غير عادي في معاملة الكلمة، وتربيتها في ذهن
الشاعر..
فأول ما يطالعنا –بامتداد تأثيراته المعنوية والصوتية بامتداد القصيدة- ذلك
الانسجام التراثي النابع من جرس الكلمتين التي اعتدنا موسيقاهما في الشعر العربيّ
الأوّل (أقلي النوم..)؛ إنهما بمجرد القراءة وبغير تفكير عميق ولا صعوبةٍ في تحليلٍ
تستدعيانِ تراثيّات فوارسِ الشعراء القدامى وأصحاب القيم النبيلة حين كانوا يبدءون
قصائدهم كما بدأ عروة بن الورد:
أَقِلِّي علـيّ اللَّـوْمَ يـا بِنـتَ مُنـذِرِ
ونامي ، و إن لم تشتَهي النَّومَ فاسْهري |
وفي البدء.. فإن الأداة الأولى التي سوف تسعفنا في ممارسة تحليل العلاقة بين ذلك
الشطر الماثل بمدلولاته أمامنا، وبين ما بثّه كبار أجدادنا الأوائل من حيوات في صوت
الكلمة -هي الأداة الوحيدة التي يمكننا التوصل بها إلى ما نود إثباته من علاقات
رائعة في النص، ألا وهي بعض آليات المدارس النفسية في التحليل والتفسير- في جلسة
ساخنة مع كلمات القصيدة التي أمامنا، إن هناك الكثير والكثير جدا من الكلمات التي
ترتبط في حياتنا بمواقف معينة.. وبمجرد نطق/سماع هذه الكلمات تحضرنا مشاعر تلك
المواقف المرتبطة بها حزناً أو فرحاً، وكذلك بمجرّد تشابهِ مواقفَ نعيشها في حاضرنا
للموقف المؤثّرِ فينا قديماً.. تستدعي ذاكرتنا بعض الكلمات المرتبطة.. وزيادة هنا
أن الأمر ليس مجرد عاطفة تنتجها لنا جلسة من التداعي غير المدروس، ولكنه فكر وأدب
جاد، وإذا أردنا اختصار القصد، فهو شعر أهم صفاته الفطنة كأصل لغوي لكلمة الشعر
ذاتها.
من الواضح جدا، والسهل الاستنتاج هنا أن شاعرنا أُشْرِبَ قلبُه وفكرُه الشعريُّ
شخصياتِ القصائد القديمة فصار أمام القارئ العادي طريقان:
الأولى: أنه بدأ القصيدة بداية أشبهت بدايةَ قصائدِ بعضِ أجدادِنا الشعراء، وذكرنا
عروة..
الثانية: أنه استخدم بمهارة جرسية (أقلي اللوم) تلك التي تكرّرتْ عند شاعرنا عروة.
في أول قصيدته، وعند شاعرنا حاتم الطائي في:
مهلا نوار أقلي اللوم والعذلا
ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
كان هذا أمام العيان..، أو لنقُل أمام القارئ السريع..
أما على المستوى الخاص، والذي لا أحسب أن يبلغه الكثيرون من قراء الشعر فهو
استدعاء حِرَفيّ تماماً. هذا الاستدعاء التراثي لمعانٍ معينة أرادها شاعرنا الذي
نزفته لنا شخصية الشعر في أصالتها ومجدها باتصال حاضرنا بماضينا..
إنه -وبلا شكّ قبل أي بداية- يحيلنا إلى مضامين تلك القصائد الأولى، ويوجّهنا بنوع
من الخطاب غير العاديّ إلى أطراف كثيرة منها:
1- شخصية الشاعر
-2 التحولات الزمنية في المخاطبة.. الموجه إليها الخطاب في القصيدة..
- 3الممد䃠ح..
شخصية الشاعر///
عروة بن الورد كان الشاعر الفارس الذي يقرّرُ أن يمضيَ في حياتِهِ بالأسلوب
الذي يحفظ عليه كرامته، ويورد نفسه موارد الخطر: خطر السفر والسيف والحرب، وتأبى
شيمُ الفارس المقدام إلا أن يسعى في عرض الأرض وطولها باحثاً عمّا يسدّ به رمقَ
أسرته، ولا تطيقُ نفسُهُ أن يجلس في خدر زوجته، وهو يعلم أن الإنسان غيرُ خالدٍ،
وأنه لا يبقى سوى الذكر الحميد؛ لذلك فلن يخشى المنيّة، وَقَدْ افتدى سمعتَه
بروحِهِ وَدَمِهِ، فَلَنْ يقعد عن الغزو وبطنُه خاويةٌ ولن يعدم أسباب الرزق فارسٌ
همامٌ يجيد فنونَ القتال يطاعن بالقنا ويضرب بالسيف، فإن يلْقَ المنيّةَ يكنْ
حَمِيداً، وإلا فَإِنَّه سيحقّق مُرَاده، ويغنمُ ما يغنيه عن سؤال الناس، ويشرعُ
أبوابَهُ للضيوفِ، شاعر هذه القصيدة عروة بن الورد فارسٌ من فرسان الجاهليّة، كان
شاعراً ذا شخصيّة محبّبةٍ لمَا تمتَّع به من مناقبَ عربيّة تتجلّى في كل صنائعه.
والشاعر حاتم الطائي.. من لا يعرف عن كرمه وأخلاقه العربية الحميدة؟!؟!؟..
وأخيرا شاعرنا الذي يستدعي هذين الكبيرين من خلال أجراس الحروف.. وروابط
الكلمات بالمواقف.. ولا ينكر أحد قدْرَهُ في ذلك العصر الذي نعيشه بما قدم ويقدم..
وأنا عن نفسي لم أتشرّف بلقاء الشاعر شخصياً، ولكن كانت معرفتي بما تستنشقه الشبكة
الإلكترونية من أخبار أعانتني على تفهّم بعض جوانب عبقريته الأدبية..
لكن بَقِيَ أن الشاعر في ثُلاثيّتِهِ التي أرادها، أو أحسب أنه أرادها، باعتبار
ما أرساه علماء الأسلوب من مبدأ (طبيعة الكاتب) حيث تتماثل مخزونات لا شعورية أو
فطرية أو تلقائية من شخصية الشاعر في نصه، والتي أمكنني أن أقع عليها -تلك الثلاثية
في أركان القصائد الثلاثة.. (الشاعر – المخاطبة- الممدوح) بهذه الإمكانية التي تفرد
بها شاعرنا الآن نقول إنه قال في قصيدته كل شيء رغم أن كلماته التي قالت كل شيء لا
تتعدى شطراً من بيت شعر، وذلك إنجاز بالتأكيد وإنجاز غير مألوف بالنسبة لما استدعاه
من معان وصفات غزيرة غزارة مطر شتوي أثبتها في شخصه هو..
فالشاعر هنا رسم لنا ملامحه الشخصية في تلك القصيدة:
- العروبة الكاملة التي تتّضِحُ في قوّة الاستنطاق الصوتي، والاستدعاء التراثيّ
الذي ينمّ عن نشأةٍ واعيَةٍ رصينة في تشرّبِ وممارسة مثل هذا التراث العربي.
- صفات الفروسية التي آثرها عروة بن الورد.
- ما يقدمه حاكياً به كرم الطائي.
- أحقيته في النصح والإرشاد، وهنا لو استدعينا خطابي الشاعرين الأولين فنجد أن
هناك اختلافاً ما، يتضح في أن:
1- عروة بن الورد كان ينصح بشدة تبعتها -بغير فترة زمنيّة ولا قوليّة- جفاء الرجل
الحر حين يستنكر أمراً ما؛ فهو فارس حامٍ ساخن المشاعر ولا يخفى علينا أنه كان يحمل
حمية وحماسة طبقة الشعراء الصعاليك..
وشدته وعنف خطابه يكمن في بيته بصراحة تامة وواضحة:
أَقِلِّي عليّ اللَّوْمَ
يا بِنتَ مُنذِرِ،
ونامي، و إن لم تشتَهي النَّومَ فاسْهري
أقلي .. نامي .. أو اسهري.. المهم أن تصمتي فقط..
2- الرفق والرقّة في كلمة (مهلاً) وبالذات وهو موجِّهُهُ إلى امرأة..
وفوق هذا ترخيم الاسم وله معانٍ.. يحلو لي أن أقرأ الترخيم هنا كلغة من لغات
الترقيق والرقة، والتي تناسب عتاب المحب لحبيبه في حنو وحرص..
مهلا نوار أقلي اللوم
والعذلا
ولا تقولي لشيء فات ما
فعلا
فإن شاعرنا هنا يرسم لنفسه ملامح الإنسان/ الفارس/ الرقيق/ العنيف / الجاد/ المحب/
الحاني/ / / /
ولعله إن كان عروة من الصعاليك.. فالطائي رمزُ الكرم عند العرب..
إن هذا الرسم واعياً أو غيرَ واعٍ لشخصيّة الشاعر لنفسه جديدٌ كثيرا، أو قد يكون
موجوداً، ولكنه لم يحظ بحركة نقدية تسلّط عليه الضوء.
ولعل في هذا أيضا كثيرا من ملامح الممدوح مع اختلاف في طبيعة هذا الممدوح..
- وزيادة على ما سبق .. الحكمة التي أثمرها تفهُّمُ عروة والطائي لفلسفة الحياة..
وهذا أروع ما في الاتصال الثلاثي بين شعرائنا الثلاثة..
ثانياً الممدوح/
إن طبيعة الممدوح اختلفت بين شاعرينا الأولين وبين شاعرنا المعاصر.. هناك كانت
القيمة في حد ذاتها.. قيمة الكرامة والفروسية والكرم والمثابرة في كسب الرزق ومنال
المناقب الحسنة والخلال الطيبة عند عروة بن الورد، وكانت عند الطائيّ قيمةَ الكرم،
والأثرَ الحسنَ الذي تخلّده أفعالُ المرءِ الحسنة في حياته صلة الرحم بصفة خاصة
والوصل بصفة عامة الحكمة في تدبر وفهم أمر الدنيا وطبيعتها، وقيمة العبرة والاتعاظ
من أمر السابقين، الانتماء الكامل وافتداء الجماعة بأغلى ما يحبه المرء، عند الحزن
والبكاء على الأطلال، الصبر وقت الشدة والجهاد بحقه، معيار وجود الصديق أن يحفظ
العهد فإن خان فكما قال النبيّ: "التمس لأخيك..."، ولعل ذلك هو أصلح سبيل وأسرع
طريق لرجوع الخائن عن خيانته ولوم نفسه لنفسه..
إن الممدوح كان هو المعنى والقيمة عند شاعرينا من الأجداد، أما شاعرنا المعاصر
فالممدوح عنده ذات طبيعة مزدوجة فهو مجموعة من القيم التي يمثلها فرد بعينه هو شخص
النجادي كرمز لهذه القيم طبعاً، فإن انفصلا فلا مديح إلا للقيم .. فهي سبب مديح
الشاعر فيه، ومن الطبعيّ أنني أحب هذا المكان بسبب ذكرياتي الجميلة فيه، فإن لم يكن
لي ذكريات تشعرني باللذة فيه فلا حب..
ولعل في تجسيدِ تلك القيمِ في شخصٍ بعينِهِ ما يبرِّرُهُ لنا الدافع العامُّ أو
المعروفُ للتجسيدِ وهو تسهيل الفكرة وتوضيحها وتقريب المعقولِ وبخاصة إن كان في حكم
المجهول أو البعيد.. مما يؤكد كلامنا فيما بعد عن طبيعة الموقفين للشاعرين
الجاهليين، فكان الزمن يعترف بمثل هذه القيم بشكل كبير، أما في زمننا هذا فأصبح
الموقف صعباً في ظل غياب الشيم العربية الأصيلة، العرب وابتعادهم عن قيم حقيقية
كهذه التي لدى الشاعرين مما ألجأ شاعرنا المعاصر إلى التجسيد، وكذلك ألجأه إلى
(النوم / بدلا من/ اللوم...)
وحجتنا في رمزية الفرد للقيمة من قول شاعرنا
((فأنت لأمـة الإسـلام رمـز
وإن غاب الرموز فمن ننادي؟)
(أحال الصمتَ أنوارا ونـورا، أماتَ الخوف في عين السهاد)
بجهاده ومثابرته..
)نضا التاريخ عن سفر عظيـم لمجـد خطـه قلـم الجهـاد)
بسعيه في كسب مثل هذا الشرف، والمناقب الحسنة ، وفروسية أفعاله وأخلاقه..
(نجـاد وأيـن مثلـك للنجـاد) وهذا كان دأب عروة في اقتحام الأخطر والأصعب والمناسب
لقدره..إنها فروسية الفعل والقول..
)رميت حصون صناع الفسـاد( وهذا الغزو وما يحصل عنه من رفعة القدر والقدرة الذي نصح
به الطائي قومه. (ولم ترض المذمة كيف ترضى / لأمـة أحمـد بـاغ وعـادي/ واكفوا من
اتّكـلا) وهو مبدأ عروة فلا قعود في أحضان الذل وما يؤول إليه أمر الرجل من مذمة
بعد مذلة..
والإشارة الأخيرة (واكفوا من اتّكـلا) نفس إشارة الطائي إلى قومه.. (قد اتضحت نوايا
الغدر جهرا فهيئ ما استطعت من العتـاد) هنا تشابه في معنى ورد، واختلاف في مرجعياته
والحكم في عملية الغدر.. فالطائيّ يذكر خيانة الصديق، ويذكر صفات العدو كذلك. (نجاد
وأنت في القمم العوالـي لعلك ديمة تغـري الغـوادي)
(اغزوا بني ثعـل، فالغـزو حظكـمُ عُدّوا الرّوابي ولا تبكوا لمـن نكَـلا)
ويهـاً فداؤكـم أمـي ومـا ولـدتْ، حامُوا على مجدِكم، واكفوا من اتّكـلا
الغوادي/ الروابي - /القمم العوالي/ حاموا على مجدكم / من الطبعي أن صفات الممدوح
عند شاعرنا انتثرت في قصيدتي الشاعرين الجاهليين بما حدانا إلى أن استكملنا ملامح
شخصية الشاعر من قصيدتيهما كذلك..
شخصية المخاطبة //
ولا نبتعد إذا قلنا إنها المحور المركزي أو الرئيسيّ للقصيدة..
- عند الشاعرين الجاهليين ليست هناك ملامح كثيرة فقط هي العاتبة أو العاذلة للشاعر
على كرمه الزيادة وفروسيته التي قد تودي به..
فإن قعد عن الكرم نزل من مكانة الشرفاء المقصودين في الحاجة، وخلا بيته من زواره
وسكنت حركته فكان الجو أدعى للكسل والنوم بسكونه بعد صخب الفقراء والمساكين
القاصدين بيت الطائي أو منزل عروة أو مذهب الرئيس الإيراني..
وإن فرغ من صفات الفروسية فَقَدَ مكانته رجلاً شهماً شجاعاً وذل لهذا ومد يده لذلك
واتخذ رتماً محدّداً في حياته بارداً برود حياة السائل أو المرأة ربّة البيت..
وراحت الدنيا تتحكّم فيه كما يتحرّك غثاء السيل..
إن القصيدة عند عروة والطائي كانت تمثل صراعاً:
- بين الغريزة الأنانية والمتخوّفة من الحياة/المرأة الناعمة القلقة التي تفكر في
نفسها أكثر، وبين طباع العربيّ الأخلاقية.
- التصوّر العربيّ العامّ لنفسيّة المرأةِ وبين الرجل الشهم وقوامة رجولته والتصور
العربيّ العامّ لشخصيّةِ الرَّجُلِ ومكانتِهِ.
- بين سمو الروح وضعة النفس عند الصوفيين..
فكان الخطاب بين قوّتين طلبت القوة السامية من القومية الأنانية أن تقلل من لومها
وتنام.. وكلتاهما في الإنسان والقلب مرحلة بينهما كما قال الصوفيون، فإن مال ناحية
الروح سما وإن مال للنفس خسر..
والخطاب عند شاعرنا امتداد طويل للخطاب الجاهليّ.. والكلمةُ في الشعر مجازيّة، لا
يلزمها ملازمة الحقيقة المعجمية للكلمة.. فما يجوز -بعد ما أثبتناه من استلهام
تراثيّ- أن نقول إن النوم هنا شيء غير اللوم هناك..
من المحتمل أن تكون المخاطبة –في تصوّر الشاعر- قد أطاعت عروة الشديد في خطابه
ونامت، فلم تأبه لما يكون بعد ُ، ولأن هذه المخاطبة قد تكون امرأته وزوجته التي
أنجبت أولاده، والتي أطاعته ونامت أي لم تهتمّ، ولم تبال بالحدث الآتي كله، قد
أثّرَتْ لا مبالاتُها على أولادها نفسياً فخرج جيل عربي هو الذي نعاصره الآن من
النوم عن الانتصار للشيم العربية الحبيبة..، ومن المحتمل أنها استمرّتْ في
لومِها/نومها مع الطائي الرقيق الحاشية الذي يصبر على خيانة صديقه ويبقي على عهده،
ويفدي قبيلته ويصرّ على هذا مع أنه لا يذكر استجابة المخاطبة لرجائه الرقيق بأن
(مهلا نوار).
ولعل من إشارات التوحد في المعنى بين (اللوم/ النوم) استخدام مثل ذلك الفعل (أقلي)،
ففيه أكثر من إشارة أُثْبِتُ فيها واحدة الآن، وهي متمثلة في أنك حين توقظ إنساناً
لتخبره بفجيعة سبّبَها، أو وقعت أثناء نومه فلا تقول له قلِّلْ أو أقلّ من نومك،
ولكن تقول له: استيقظ؛ فقد وقع حادثة..
انظر..
إذن فكلمة (أقلي) أنسب للوم من النوم..
فلعله هنا يستنتج استجابة المرأة المخاطبة لأمر عروة ورجاء الطائي، تلك الاستجابة
التي تطورت عبر الأزمنة إلى (نوم/ لا مبالاة) فأثبت بحرفة البصير بعض ملامح شخصية
المرأة التي تكمل احتجاجها صمتاً بعد صوت..
فالشاعر هنا يستخدم مفردة واحدة ويستفيد من طاقاتها المعجمية والتراثية والصوتية في
توحيد عقلي لا يمكن إلا لذي احتراف وموهبة
أصيلة..
والتطوّرُ الزمني بين شعرائنا العرب وبين شاعرنا المعاصر يثبت نفسه في تغيير
(اللوم/ إلى / النوم) فالشاعر الأول كان ينهى المخاطبة أن تزيد في لومها حتى لا
يحدث كذا..
أما شاعرنا فيطلب منها أن تقل نومها/ لومها / عدم اكتراثها؛ لأنه قد حدث ال"كذا"..
وفي ذلك تبرير آخر لكلمة النوم بعد اللوم.. وعدم قطعية أنهما مختلفان.. فالأمر في
بدايته وبساطته تستخدم معه الكلمات العادية فلم يحدث الذل ولم .. ولم.. في حياة
الشاعرين الجاهليين ولذا فقللي لومك.. بينما حين نكون في رحى المذلة أو سخونة
الموقف نفسه والعرب في هذه المهانة وقلة الحيلة فيجب أن تزيد الكلمات من شحناتها
الانفعالية.. فأنت من الممكن أن تنادي شخصاً أخطأ خطأً ضايقك وتقول له: يا إنسان!!
ولكن حين يزيد ضغطُ فعلِهِ وتبلغ الإساءة مداها فإنك تضطر إلى تقريعه لا باللهجة
ولكن باللفظ كذلك..
((أقلي النوم))..
من إيحاءات ذلك الفعل المحتملة للقارئ أن يكون توظيفاً ذكياً لمواهب الشاعر على
المستوى السياسيّ.. فهو –من زاوية- يثبت أن تغيير الأمر يكون على مراحل.. كيف؟
إن محاولة التغيير عنده من النوم إلى تدبّر اليقظة تدرجت في (أقلي... وقومي....
وانظري... ومن ثم التدبر بعد الإفاقة برفق وخبرة سياسي محنك).. ولعل ذلك بسبب كونه
شاعراً وسياسياً في وقت واحد. وبذلك فإن البيت الشعري لم ينتهِ إلا وهناك إفاقة
كاملة ويقظة تامة ثبتت للمخاطبة..
ولا زلنا في تطورات العلاقة بين شاعرنا والتراث..
إنه يؤيد حسناته، ويعالج ما لا يرضاه في عصورنا الأولى.. أيّدَ حسناته في
شخصيّةِ الشاعر والممدوح قيمة أو شخصاً.. وعالج ما لم يرضه بأنْ طَوَّرَ الخطاب إلى
المرأة/القوة النفسية المتخوفة بأنانية/ النفس/ العروبة في بعض مظاهرها التي لا
ترضي المجد.
وهو الآن يطرح صراعاً من نوع جديد يتمكن من علاقته بالتراث..
ويبرر فيه كذلك تواجد كلمة (أقلي) أمام أعيننا.. فهو إضافة إلى أنه سياسي ويرغب في
التغيير التدريجي فهو كذلك ابن بار للتراث واحتجاجه في حضرة الجد يكون بأدب..
وتوضيح ذلك أنه عُرِفَ من إحدى الكنايات العربية كناية (نؤوم الضحى) وهي كناية
عن المرأة الناعمة التي تنام حتى الضحى؛ لأن هناك من يخدمها فلا تحتاج إلى نشاط
مبكر لتنجز أعمالها بنفسها، فالموقف له جذور قديمة وتغييره يستدعي فعلاً أن تقلِّلَ
أولاً لتتدرج إلى اليقظة التامة تلك التي يعلن فيها الأزمة المؤثّرة والتي بدورها
قد تقوم بدوام اليقظة في صورة (رمم الجماد/ ما يكون في القصيدة من بعد(
إنه يغير مبدأً حياتياً بالفعل في تلك الكلمة..
و((النوم)) إما أن تكون مصدراً أو تكون اسماً جمعاً..
ولعلنا نستغرب –ولا زالت طاقات الغرابة تتفتّح في كل كلمة نصادفها- لِمَ نعتبر
احتمالها أن تكون اسماً جمعاً رغم أن المصدرية والحدث هنا أقرب إلى التصور، ويناسب
ما سلف..
ونقول: أما مناسبته ما سلف فليس يحتكر الكلمة لمعنى محدد فالكلمة في قصيدةٍ ما
قد تعطيك أكثر من إيحاء وأكثر من اتجاه وأكثر من فضاء ولا يُؤْذِيها في حُضُورها
هذا، وإنما يزيدها بهاء وقدرة وقوة وغنى..
وأما قربه للتصور
فهذا أكيد إلا أنه بقي يشغلني الجار والمجرور.. (عن(
فقد يكون متعلقاً بالفعل (أقلي) فيكون الشاعر كعادته ضرب ألف عصفور بحجر إذ لا
أحسب أن الفعل (أقلي) يتعدى بحرف الجرِّ (عن..) ومن ثم يكون ضمّن الفعل (أقلِّي)
معنى الفعل (أزيحي/ انفضي) وهنا يكون انتهج حنكة السياسيّ في التدريج وحنكة اللغوي
في الإبانة عن كامل رغبته من فعل الأمر منذ أول كلمة..
أم ضمنه معنى (أبعدي / أزيحي) فكان طلبه أن تقلل نوّامها من أولاد زوجة عروة
الذين أثرت فيهم لا مبالاتها بالأمر.. ذلك الجيل الذي نعاصره الآن..
وقد يكون معمولاً لمصدر " النوم"..
وهنا أثبت معنى واحداً:
- هل يطلب أن تقلل نومها عن الأمر أي تقلل من عدم اهتمامها بالأمر فتهتم قليلاً....
نام عن أمره مثلا..
وقد يكون متعلقاً بمحذوف صفة لـ"ــلــنوم"..
- النوم المتسبب عن جفن الرقاد.. ولا يخفى عن أحد أن من معاني كلمة (جفن) ما يناسب
تلك السببية الواضحة لنا في هذا الاحتمال..
فالجفن بسكون الفاء هو الكرم أو ضرب من العنب ولا يبعد عن الذهن مجازية (العنب) في
التراث العربيّ عن الخمر.. فيكون المعنى .. أقلي وأزيحي ذلك النوم والنعاس الذي
سببه لك السكر وشرب الخمر فأذهب تدبرك لما حولنا من أحداث..
أو تكون ((جِفَن)) بكسر ففتح: وقد ورد في لسان العرب "والجَفْنة: معروفة، أَعظمُ ما
يكونُ من القِصاع، والجمع جِفانٌ وجِفَنٌ" ولا يخفى كذلك تداعيات استخدام هذه
الكلمة في التراث العربي من علاقتها بالطعام.. والطعام بكثرة ووفرة شديدة..
فيكون الشاعر حدّد أسباباً لأزمتنا العربية المعاصرة التي تمارسنا بعنف وقسوة..
فإننا :
- إما كسالى كسلَ النوم وغير نشطين.
- وإما راقدون رقود الموتى (قال من بعثنا من مرقدنا)، ولا إنكار أن الميت يحس بما
حوله ولكنه معدوم الاستجابة.
- وإما مستسلمون للانحراف الأخلاقي المتمثل في (الجفن/ الكرم/ الخمر
- وإما مستسلمون لشهوات الجسد من طعام وما يترتب عليه مما ذكر في الأثر عن القدماء
من أهل العبادة وما ذكره أهل الطب من أمراض كثرة الأكل..
- وإما محاربون لديهم يفتقدون إلى ذكر السيف.. وكل ما لديهم هو (الجفن) غمد السيف..
الذي صار مكاناً لرقاد السيف، فلعل الشاعر أراد إثبات وحشة القبر محل الرقاد لجفن
السيف المذكور هنا (المذكور هنا الجفن فقط لا السيف وهذا طبعي أن لا وجود للموتى في
الذاكرة)، ولعله أراد استدعاء المواقف القرآنية التي ذكرت هذه الكلمة فيمكنه
التأثير في المتدينين المتفقهين المعتبرين، وجاءت في موقف أهل الكهف..
فأراد أن يثبت موقف أهل الكهف تجاه عيوب الحاكم وقتها، وكيف حفظهم الله، بل
وخُلِّدَ ذكرهم في صحائف التاريخ والقرآن..
وجاءت (مرقدنا) في مواقف البعث، وتحسّر الإنسان: "يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا"...
وفي هذا الموقف معان وعظنا الله بها، وجزى شاعرنا خيرا عنا بتذكيرنا وجزاه خيراً عن
الشعر بتلك الموهبة الرنانة في استدعاء التراث باختلافه..
ولعل الشاعر في النهاية يكون قد أراد أن يقول قللي نومك وأزيحيه عن جفن رقادك.. (أي
جفنك، أو أراد تصوير الاضطجاع بإنسان له جفن لو استيقظ فأولى بالشخص المضّجع أن
يتبعه في الاستيقاظ) فأراد به غطاء العين من أعلى وأسفل.. وفي هذا دقة في تصوير
حركة المتيقظ وملاءمة لما أسمعه من كلام معاصر الآن حين يقول إنسان: (أنا مش قادر
أفتح عيني) ولعله يقصد قدرته على رفع الجفن.. من كسل أو إرهاق..
كاتب الدراسة/
أحمد حسن محمد حسن
السن/
25 سنة
رقم الهاتف/
0161179369
العنوان/
جمهورية مصر العربية –
محافظة
الشرقية مركز ديرب نجم –
قرية صافور