ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

محمد مهدي السقال - المغربدراجــة أبــي

محمد المهدي السقال - المغرب


فتحت عيني على دراجة أبي غادياً ورائحاً , تقعدني أمي فوق العتبة , يد تساعده على تثبيت ما يشبه خرقة مكومة إلى الخلف , وأخرى على صدري , حذر الوقوع تسندني إلى الجدار . يتبادلان نظراتٍ متحركة , سأحاول العودة قبل العشاء اليوم , ما رأيته أبداً يقبلها بأي شكل من الأشكال , ثم يغيب في عمق الدرب. في الصباحات الصيفية كما في الصباحات الخريفية , باكراً يستيقظ على صياح ديك الجيران الرومي , يتسلل بين غبش الفجر المطل من كوة صغيرة , أرمق خياله المنسحب بقامته القصيرة , تخلص من الملاءة برفق , فضحه السعال , حاولتِ النهوض :

ـ دعيه ينام , ليست لديه مدرسة اليوم

أتظاهر بإغماض جفني , تماما كما يفعل التمساح في الرسوم المتحركة , متلصصاً جـرٌ خطواته المتئدة نحو المطبخ ,على غير عادته , أخلف موعده مع تفريغ مثانته , حيناً تظل بالفراش وعينها عليه , وأحياناً تقوم خلفه لإعداد ما تيسر من طعام غياب يوم بأكمله . 
ـ عييت ..  
ـ الله يعفو عليك من الخدمة مع النصارى

تنبها إلى استراقي السمع , أشار عليها بسبابته , ثم غير وجهته إلى المرحاض يسبقه كلام مبهم ,حين كبرت معي حاجتي إلى التخلص من السائل الصباحي , بدأت أتضايق من تأخر أبي بالدقائق , غير أني حين أتسمع غرغرة بطنه , والهواء منسحب تحت الضغط يخرج صفيرا متموجا , أعطف عليه , أنسى اشتداد حرقة التبول , ذات يوم , اضطررت إلى الخروج للدرب , هل رآني أحد ؟ التصقت نظراتي بعشب يركن زاوية الحائط , كان ذاويا , اجتمعت عليه الطبيعة بجفافها , والبشر بجفائهم, وددت لو اعتصر قطرات إضافية هذه المرة , لبعث النبتة من جديد , لم أر أحدا في الأفق .
ـ تعبت من التذلل كل يوم , أشعر أنني صرت حمارا غير مرغوب فيه ,

لا تشاركه حديث نفسه بصوت مرتفع , تسبقه الدراجة على إيقاع احتكاكِ الصدأ , يخرج ُ .  
ـ الله يجيب التيسير ,

 تشيعه إلى أن يغيب عن الدرب , مـرة , تعثرتْ عجلته الأولى فوقع , نفس النتوءات لا تزيد إلا اتساعاً , تعاقبت المجالس البلدية على نفس الدرب ,فشلت رغم تلونات أطيافها السياسية بين اليمين واليسار, في رص مساحة مائة متر,صار دربنا علامة إدانة في رقبة كل المسؤولين , قال أحد الرؤساء : هذا الدرب مسكون بالجنون , لا نغلق فتحة من الفتحات اللعينة هنا , حتى يطل الوادي الحار , ليعود ثانية وثالثة ورابعة هناك , مازالت الحفر تحضن ماء المطر كل موسم شتاء , ومازالت القنوات تأبى ترقيعات مواسم الانتخابات.

ـ الله يلعن أولاد الحرام . يقولون ما لا يفعلون . لا فرق بين حكام صغار وحكام كبار .  
يخترق الحوار الهادئ مسمعي , بل هناك فرق , يستمر الكبار كباراً بينما يبقى الصغار صغاراً , ليته كان يسمعني , ليعرف حجم الغضب الذي ورثته عنه . 
ـ أفٌ على هذا البلد ,  
تحسبني مستغرقاً في نومي , تسحب الغطاء إلى الأعلى , وجهي للجدار, أرسمُ عبرَهُ صورة لأبي فارساً يركب حصاناً أخضر , رغم مضي أربعين عاما , ما تزال العجلة الأمامية ماثلة في الذاكرة , يصل متعباً يلفه ثوبه الداكن ,يترجل قبل الوصول إلى فتحة الدرب الذي لم يزدد إلا ضيقاً , مغمغما بكلمات لم أستبنها في البداية , يفرك شعري بأصابعه المعروقة ,  
ـ الله يرضي عليك ,

ثم يحمل الدراجة على كتفيه , أعرف الباقي , سيقلب أسفلها إلى الأعلى , تتأرجح العجلتان نحو الدوران , تسليتي الوحيدة , اغتنام فرصة القلب تلك , لأدخل سبابتي اليسرى بين الأسلاك, تتحرك العجلة دورة أو دورتين , فتحدث أزيزا أشبه باحتكاك مفاصل مدخل البيت المهترئ ,  
ـ واش باغي تخسرها ؟ 
ـ خلي الدري يلعب , مالكِ أنتِ مع هذه الشقفة ؟ 
سألت أبي في سن العاشرة , عن السر في احتفاظه بنفس الدراجة , رغم الوهن الذي أصابها , مقودها لا يستقيم في اتجاه واحد , تعرضه للسقوط عند أبسط انحراف عن بثور الدرب المحكوم عليه بالإهمال إلى يوم الدين , يمسك برأسي إلى حضنه , أحاول أن أقرأ في عينيه قلق العمر الذي يضيع بين صبح ومساء , 
ـ عمي *عبد السلام* باع دراجته , اشترى له *موطور*  
لم يلتفت لكلامي , نظر إليها , ثم استغرق يصفها كعادته , عرفت فيما بعد , أنه كان قريبا مما يشبه الغزل في النساء , يستوفى متابعة أجزائها قطعـة قطعـة , كأنه يلامسها بكل مشاعره , لماذا لم يبادل أمي مثل هذا التعلق الذي ينساب في كلمات عشق جنوني ؟  مرة خطرت لي فكرة حساب الزمن الذي يقضيانه مع بعض , حين بدأت أعي شيئا اسمه العاطفة بين الرجل والمرأة , يخرج حوالي السادسة , بعد انتهاء شيخـنـا , من حديث الفجر حول آيات من القرآن عبر المذياع , لا تفارقني صيحاته المنذرة , *عباد الله* ...,

كأني به يقربنا من ساعة القيامة , يكررها لازمة بتفخيم اللاءات , ظلت تثير في رعشة الخوف من شيء ما , كان الشيخ قبل الاستقلال زعيم الوحدة والإصلاح , صار بعد الاستقلال , وزيراً الدولة بأكثر من قدم , قيل إنه كان متصوفا يسكر بالذكر وبغيره في مواضع شتى , وقيل إنه كان يعشق النساء , ظـل أبي يحترم الرجل , قال عنه إنـه أغمـط حقـه , ولا يعود أبي إلا بعد غروب الشمس إن كان الجو صحوا , أو قبيل صلاة العشاء في الفصول المطيرة , واحدة أيام الأسبوع بلا فرق سوى يوم الجمعة , يحلق الشارب ويعفي على اللحية المبرقشة بين أسود وأبيض , يذهب إلى حمام الحي البلدي , ألِفتُ أن أرى أمي صباحات يوم الجمعة أكثر نشاطا وحيوية , لكنني لم أدرك سر اغتباطها إلا بعد موته , تسللت إلى مسامعي أشياء من حياتهما الجنسية , يشبه بعضها ما قرأته في الروض العاطر في نزهة الخاطر , وما أن يرجع , حتى تبدأ الاستعدادات لصلاة الجمعة ...  
ـ كم أمضيا مع بعض ؟ بحساب غلاف زمن المعاشرة بينهما ,

انتهيت إلى أنهما لم يكونا مع بعض أو جنبا إلى جنب , إلا بمعدل خمسة في المائة , وأنجباني , وربياني ,  علق أحد أصدقائي على الحساب :  
ـ في البداية تكون النسبة عالية ,

ثم تأخذ في الانخفاض مع توالي انكسارات الحياة , أمك محظوظة بهذه النسبة , لا أظن أن حظ أمي كان أوفر , هجر البلاد والعباد بعد الزواج مباشرة , كل إخوتي ولدوا في شهر معلوم , عرفنا فيما بعد , أن مجيئه بين العامين في أحسن الأحوال , هو الفرصة الوحيدة التي تتاح للتلقيح , تصور أنني كنت أنسى صورته بعد طول غياب . لمحت في قسمات وجهه تقلصا لا ينم إلا عن رغبة في الانطلاق ثانية للحكي عن دراجته العجيبة , أظنه كان يسهو , فقد ردد على مسامعي ألف مرة ومرة , قصة شرائها , هي كل ما تبقى في ذاكرتي من أجمل حكاياه . أثناء فترة الاستعمار , أو ما وصفها معلم التاريخ بعهد الحماية , رق قلب *الموسيو بلانشارد* , لما رآه من معاناة أبي مع الطريق بين البيت والمزرعة , تأخذ منه الأربعة أميال ساعة ونصفها , عرض عليه شراء دراجة, وعده بالمساهمة في ثمنها , عاد أبي ذلك المساء لا تسعه فرحة , أذكر أنه دخل مبتهجا يدور حول أمي كطفل فرح بلعبته .  
ـ انظري , اشترى لي دراجة , هل ترين لونها ؟ إنها خضراء ,  
يحاول أن يعرضها لمدخل الضوء الوحيد من الباب ,

- الأخضر لون السعد ,

تمنتْ له أن لا يستفيق من لحظة انتشائه , كأني بها تقول له :

وهل اشتراها لك من أجل سواد عينيك ؟,

لم أفكر في حيلة *الميسيو بلانشارد* إلا بعد عشر سنوات , قولي له بأن الغريب إنما فعل ذلك , لكي يربح من زاد العمر الذي كان يهرق عرقا بين رجليه , ليته كان هنا, تدخل الشيباني الذي ظل يفتخر بالازدياد في المغرب , ليكون القسط المؤدى أسبوعيا , مناسبا لأجر أبي , لكن ولاءه لفرنسا أرضا واعتقادا وهوية كان الأقوى ,  اضطرت أمي لإدخال تغييرات جوهرية على مصروف العيش , تقلصت وجبة الفطور إلى شاي وزيتون مرة , وشاي و زبدة مرة أخرى , الخبز والماء وحدهما لم يطرأ عليهما تغيير ,

كانت خالتي ترسل حق أمي من حصتها في بلاد * الجموع * بالبادية , لم أعرف لمسقط رأسها موقعا جغرافيا لحد الآن , تقوم أمي بتنقية حصة الأسبوع من الحبوب ,

أحمله خلفها إلى الطاحونة , لعل *المعلم* النزق كان يغازل أمي , يد على الكيس , وعين على وجهها الملثم إلى النصف , تعود منفرجة الأسارير زائغة الحاجبين , وأنا خلفها أنوء بحمل *الخنشة* , و أبي , في كل أسبوع يؤدي قسطا معلوما بين البائع اليهودي والمشتري الفرنسي ,

ـ هل احتفل بنهاية الخصم ؟  
وظل بنفس العمل , يصل مبكرا إلى المزرعة , يعود مهدودا يتلقفه الفراش , بعد مكابدة واجب الوضوء والصلاة , كثيرا ما كان ينام من غير عشاء , لاحظت الجارة *خدوج* قبل أمي , ملامح العياء على أبي , قالت بأنه يدخل الدرب منهوك القوى كالقادم من هزيمة حرب , لكنه لا يلبث أن يجاهد في الصمود كلما اقترب من الباب ,تأكدت أمي من الحكاية بنفسها ذات مساء , تكومت خلف ثقب المفتاح في انتظار وصوله ,  
ـ هل جاء ؟  
ـ مازال .  
تستريح قليلا ثم تتكوم ,  
ـ ها هو . معها الحق , نزل عن دراجته , أمسك بالمقود كي لا يسبقها إلى الوقوع ,

يتقدم بخطوات وئيدة , يدنو , يقترب , لعله يسترجع أنفاسه للاستقامة قبل بلوغ العتبة ,  
ـ أريد أن أرى

صورة أبي محزنة , نفس الثوب الأزرق الداكن , لكنه لم يكن يركب دراجته كالفارس الذي كان .

 

 

www.sikal.probb.fr

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

1-

omar erkiouak - المغرب

omarai@hotmail.fr
Tuesday, May 4, 2010 9:44 PM

لقد نقلنا محمد المهدي سقال من خلال قصته :< دراجة أبي> على مجمل من القضايا <دينية؛ سياسية؛ إجتماعية....> بحيت عندما نقرأ القصة نحسُّ أننا نعيشها /وما اتارني فيها هو إعتماد الكاتب دراجة في سرد الواقع بلمحة فنية كبيرة / هذا فخرٌ لنا ... باستادنا محمد لمهدي سقال/ عمر ارقيوق

ضع إعلانك هنا