فتحت عيني على دراجة أبي غادياً ورائحاً , تقعدني أمي فوق
العتبة , يد تساعده على تثبيت ما يشبه خرقة مكومة إلى
الخلف , وأخرى على صدري , حذر الوقوع تسندني إلى الجدار
. يتبادلان نظراتٍ متحركة , سأحاول العودة قبل العشاء
اليوم , ما رأيته أبداً يقبلها بأي شكل من الأشكال , ثم
يغيب في عمق الدرب. في الصباحات الصيفية كما في الصباحات
الخريفية , باكراً يستيقظ على صياح ديك الجيران الرومي ,
يتسلل بين غبش الفجر المطل من كوة صغيرة , أرمق خياله
المنسحب بقامته القصيرة , تخلص من الملاءة برفق , فضحه
السعال , حاولتِ النهوض :
ـ دعيه ينام , ليست لديه مدرسة اليوم
أتظاهر بإغماض جفني , تماما كما يفعل التمساح في الرسوم
المتحركة , متلصصاً جـرٌ خطواته المتئدة نحو المطبخ ,على
غير عادته , أخلف موعده مع تفريغ مثانته , حيناً تظل
بالفراش وعينها عليه , وأحياناً تقوم خلفه لإعداد ما تيسر
من طعام غياب يوم بأكمله .
ـ عييت ..
ـ الله يعفو
عليك من الخدمة مع النصارى
تنبها إلى استراقي السمع , أشار عليها بسبابته , ثم غير
وجهته إلى المرحاض يسبقه كلام مبهم ,حين كبرت معي حاجتي
إلى التخلص من السائل الصباحي , بدأت أتضايق من تأخر أبي
بالدقائق , غير أني حين أتسمع غرغرة بطنه , والهواء منسحب
تحت الضغط يخرج صفيرا متموجا , أعطف عليه , أنسى اشتداد
حرقة التبول , ذات يوم , اضطررت إلى الخروج للدرب , هل
رآني أحد ؟ التصقت نظراتي بعشب يركن زاوية الحائط , كان
ذاويا , اجتمعت عليه الطبيعة بجفافها , والبشر بجفائهم,
وددت لو اعتصر قطرات إضافية هذه المرة , لبعث النبتة من
جديد , لم أر أحدا في الأفق .
ـ تعبت من التذلل كل يوم
, أشعر أنني صرت حمارا غير مرغوب فيه ,
لا تشاركه حديث نفسه بصوت مرتفع , تسبقه الدراجة على إيقاع
احتكاكِ الصدأ , يخرج ُ .
ـ الله يجيب التيسير ,
تشيعه إلى أن يغيب عن الدرب , مـرة , تعثرتْ عجلته الأولى
فوقع , نفس النتوءات لا تزيد إلا اتساعاً , تعاقبت المجالس
البلدية على نفس الدرب ,فشلت رغم تلونات أطيافها السياسية
بين اليمين واليسار, في رص مساحة مائة متر,صار دربنا علامة
إدانة في رقبة كل المسؤولين , قال أحد الرؤساء : هذا الدرب
مسكون بالجنون , لا نغلق فتحة من الفتحات اللعينة هنا ,
حتى يطل الوادي الحار , ليعود ثانية وثالثة ورابعة هناك ,
مازالت الحفر تحضن ماء المطر كل موسم شتاء , ومازالت
القنوات تأبى ترقيعات مواسم الانتخابات.
ـ الله يلعن أولاد الحرام . يقولون ما لا يفعلون . لا فرق
بين حكام صغار وحكام كبار .
يخترق الحوار الهادئ
مسمعي , بل هناك فرق , يستمر الكبار كباراً بينما يبقى
الصغار صغاراً , ليته كان يسمعني , ليعرف حجم الغضب الذي
ورثته عنه .
ـ أفٌ على هذا البلد ,
تحسبني
مستغرقاً في نومي , تسحب الغطاء إلى الأعلى , وجهي للجدار,
أرسمُ عبرَهُ صورة لأبي فارساً يركب حصاناً أخضر , رغم مضي
أربعين عاما , ما تزال العجلة الأمامية ماثلة في الذاكرة ,
يصل متعباً يلفه ثوبه الداكن ,يترجل قبل الوصول إلى فتحة
الدرب الذي لم يزدد إلا ضيقاً , مغمغما بكلمات لم أستبنها
في البداية , يفرك شعري بأصابعه المعروقة ,
ـ الله
يرضي عليك ,
ثم يحمل الدراجة على كتفيه , أعرف الباقي , سيقلب أسفلها
إلى الأعلى , تتأرجح العجلتان نحو الدوران , تسليتي
الوحيدة , اغتنام فرصة القلب تلك , لأدخل سبابتي اليسرى
بين الأسلاك, تتحرك العجلة دورة أو دورتين , فتحدث أزيزا
أشبه باحتكاك مفاصل مدخل البيت المهترئ ,
ـ واش باغي
تخسرها ؟
ـ خلي الدري يلعب , مالكِ أنتِ مع هذه الشقفة
؟
سألت أبي في سن العاشرة , عن السر في احتفاظه بنفس
الدراجة , رغم الوهن الذي أصابها , مقودها لا يستقيم في
اتجاه واحد , تعرضه للسقوط عند أبسط انحراف عن بثور الدرب
المحكوم عليه بالإهمال إلى يوم الدين , يمسك برأسي إلى
حضنه , أحاول أن أقرأ في عينيه قلق العمر الذي يضيع بين
صبح ومساء ,
ـ عمي *عبد السلام* باع دراجته , اشترى له
*موطور*
لم يلتفت لكلامي , نظر إليها , ثم استغرق
يصفها كعادته , عرفت فيما بعد , أنه كان قريبا مما يشبه
الغزل في النساء , يستوفى متابعة أجزائها قطعـة قطعـة ,
كأنه يلامسها بكل مشاعره , لماذا لم يبادل أمي مثل هذا
التعلق الذي ينساب في كلمات عشق جنوني ؟ مرة خطرت لي فكرة
حساب الزمن الذي يقضيانه مع بعض , حين بدأت أعي شيئا اسمه
العاطفة بين الرجل والمرأة , يخرج حوالي السادسة , بعد
انتهاء شيخـنـا , من حديث الفجر حول آيات من القرآن عبر
المذياع , لا تفارقني صيحاته المنذرة , *عباد الله* ...,
كأني به يقربنا من ساعة القيامة , يكررها لازمة بتفخيم
اللاءات , ظلت تثير في رعشة الخوف من شيء ما , كان الشيخ
قبل الاستقلال زعيم الوحدة والإصلاح , صار بعد الاستقلال ,
وزيراً الدولة بأكثر من قدم , قيل إنه كان متصوفا يسكر
بالذكر وبغيره في مواضع شتى , وقيل إنه كان يعشق النساء ,
ظـل أبي يحترم الرجل , قال عنه إنـه أغمـط حقـه , ولا يعود
أبي إلا بعد غروب الشمس إن كان الجو صحوا , أو قبيل صلاة
العشاء في الفصول المطيرة , واحدة أيام الأسبوع بلا فرق
سوى يوم الجمعة , يحلق الشارب ويعفي على اللحية المبرقشة
بين أسود وأبيض , يذهب إلى حمام الحي البلدي , ألِفتُ أن
أرى أمي صباحات يوم الجمعة أكثر نشاطا وحيوية , لكنني لم
أدرك سر اغتباطها إلا بعد موته , تسللت إلى مسامعي أشياء
من حياتهما الجنسية , يشبه بعضها ما قرأته في الروض العاطر
في نزهة الخاطر , وما أن يرجع , حتى تبدأ الاستعدادات
لصلاة الجمعة ...
ـ كم أمضيا مع بعض ؟ بحساب غلاف زمن
المعاشرة بينهما ,
انتهيت إلى أنهما لم يكونا مع بعض أو جنبا إلى جنب , إلا
بمعدل خمسة في المائة , وأنجباني , وربياني , علق أحد
أصدقائي على الحساب :
ـ في البداية تكون النسبة عالية
,
ثم تأخذ في الانخفاض مع توالي انكسارات الحياة , أمك
محظوظة بهذه النسبة , لا أظن أن حظ أمي كان أوفر , هجر
البلاد والعباد بعد الزواج مباشرة , كل إخوتي ولدوا في شهر
معلوم , عرفنا فيما بعد , أن مجيئه بين العامين في أحسن
الأحوال , هو الفرصة الوحيدة التي تتاح للتلقيح , تصور
أنني كنت أنسى صورته بعد طول غياب . لمحت في قسمات وجهه
تقلصا لا ينم إلا عن رغبة في الانطلاق ثانية للحكي عن
دراجته العجيبة , أظنه كان يسهو , فقد ردد على مسامعي ألف
مرة ومرة , قصة شرائها , هي كل ما تبقى في ذاكرتي من أجمل
حكاياه . أثناء فترة الاستعمار , أو ما وصفها معلم التاريخ
بعهد الحماية , رق قلب *الموسيو بلانشارد* , لما رآه من
معاناة أبي مع الطريق بين البيت والمزرعة , تأخذ منه
الأربعة أميال ساعة ونصفها , عرض عليه شراء دراجة, وعده
بالمساهمة في ثمنها , عاد أبي ذلك المساء لا تسعه فرحة ,
أذكر أنه دخل مبتهجا يدور حول أمي كطفل فرح بلعبته .
ـ انظري , اشترى لي دراجة , هل ترين لونها ؟ إنها خضراء ,
يحاول أن يعرضها لمدخل الضوء الوحيد من الباب ,
- الأخضر لون السعد ,
تمنتْ له أن لا يستفيق من لحظة انتشائه , كأني بها تقول له
:
وهل اشتراها لك من أجل سواد عينيك ؟,
لم أفكر في حيلة *الميسيو بلانشارد* إلا بعد عشر سنوات ,
قولي له بأن الغريب إنما فعل ذلك , لكي يربح من زاد العمر
الذي كان يهرق عرقا بين رجليه , ليته كان هنا, تدخل
الشيباني الذي ظل يفتخر بالازدياد في المغرب , ليكون القسط
المؤدى أسبوعيا , مناسبا لأجر أبي , لكن ولاءه لفرنسا أرضا
واعتقادا وهوية كان الأقوى , اضطرت أمي لإدخال تغييرات
جوهرية على مصروف العيش , تقلصت وجبة الفطور إلى شاي
وزيتون مرة , وشاي و زبدة مرة أخرى , الخبز والماء وحدهما
لم يطرأ عليهما تغيير ,
كانت خالتي ترسل حق أمي من حصتها في بلاد * الجموع *
بالبادية , لم أعرف لمسقط رأسها موقعا جغرافيا لحد الآن ,
تقوم أمي بتنقية حصة الأسبوع من الحبوب ,
أحمله خلفها إلى الطاحونة , لعل *المعلم* النزق كان يغازل
أمي , يد على الكيس , وعين على وجهها الملثم إلى النصف ,
تعود منفرجة الأسارير زائغة الحاجبين , وأنا خلفها أنوء
بحمل *الخنشة* , و أبي , في كل أسبوع يؤدي قسطا معلوما بين
البائع اليهودي والمشتري الفرنسي ,
ـ هل احتفل بنهاية الخصم ؟
وظل بنفس العمل , يصل
مبكرا إلى المزرعة , يعود مهدودا يتلقفه الفراش , بعد
مكابدة واجب الوضوء والصلاة , كثيرا ما كان ينام من غير
عشاء , لاحظت الجارة *خدوج* قبل أمي , ملامح العياء على
أبي , قالت بأنه يدخل الدرب منهوك القوى كالقادم من هزيمة
حرب , لكنه لا يلبث أن يجاهد في الصمود كلما اقترب من
الباب ,تأكدت أمي من الحكاية بنفسها ذات مساء , تكومت خلف
ثقب المفتاح في انتظار وصوله ,
ـ هل جاء ؟
ـ
مازال .
تستريح قليلا ثم تتكوم ,
ـ ها هو . معها
الحق , نزل عن دراجته , أمسك بالمقود كي لا يسبقها إلى
الوقوع ,
يتقدم بخطوات وئيدة , يدنو , يقترب , لعله يسترجع أنفاسه
للاستقامة قبل بلوغ العتبة ,
ـ أريد أن أرى
صورة أبي محزنة , نفس الثوب الأزرق الداكن , لكنه لم يكن
يركب دراجته كالفارس الذي كان .