ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

من يسكب الهواء في رئة القمر

رواية شعرية

بشار عبد الله - العراق

 

القسم الأول

في زمن يضيع فيه كل شيء

لا بأس أن تضيع الفكرة

- 1 –

مشحوذة كَيَدِ موظف ضريبة هذه السنة ملأنا جيب حزيرانها بالموتى، ووشمناها بلحظة مرارة كانت تهرول خارج السياق. وشمناها وعدنا بها الى شِفاه السياق، ثم كضحكة وخطتها الحرب، انزلقنا الى ضغينة ظلت تفغر فضاءَ ها في فراغ المزولة.

والسبت ظل حاسر السماء؛ من فوديه تتدفق مصائر من بايعوا المعلم الصارم وملأوا بطنه بكلام لا يفقههه الحواة، كلام تتلاطم في احواضه تنبؤات التاروت العاقلة واستغاثات بحر ايجة الغاص الى العنق باحلام غريقة وعقلانيات ابن مسافر التي استقطرتها تجسداته الاربعة والستون من بذور التغيرات واسرت بها الى نهارات طاب لها المقام في صومعة السعد المحمولة على اكتاف اربعة معلمين: باباجي، سري يوكتسوار، كَورو ناناك والطوخي الفلكي.

حملوه ومضوا به خارج الكلام، غادروا به ليصير الكلام حطاما طافيا فوق امواج الشتائم، ايام كانت الشتائم انواعاً، منها العَمْ مودي و العنقودي وصمون الجيش المقفّى بالاجبان كلّها سوى الـ (كيري) الذي كان يخدش حياء الآريات ويحرج الفرسان الآريين في الربايا. ومن الشتائم المطعمة بامزجة مذيعات الاعلان وغنجهن المسكوب داخل عبوات الرطانات من شربت فرات ومينو والقائمة مفتوحة لتشمل نقيع التمر ونقيع النسيان والتناسي، هذا الى جانب شتائم الغاز الخام، والمنقى لتعبئة مقدحات المرَّة الواحدة، مع اعتذار الشتامين عن تلبية النداء القادم من مقدحة الافق المحمولة على كتفي سعد محمود وزاريه الملاك.

وكان يمكن ان تبتلع القائمة في طريقها ما يندفق من عبوات الكَلامور والغيرلين واخواتهما المتضاحكة على كل انج هانئٍ فوق نجوى كرم ولطيفة وانغام وديانا حداد وما يتصاعد من جيلهن خارج الحدود الاقليمية، وكذلك ما تعلمن ان يدلكنه على الطريقة العبرانية بين اثدائهن من النادرين، وعلى بطونهن من الزنبق، وعلى افخاذهن من اللوتس، وبين اوراكهن من النعناع والزعتر وعلى عصافيرهن من التوسيرام والليزر، العطر والسلاح، وعلى اقدامهن من البلسم، ولكن الشتائم وجدت لها ايضا ممرا عند سابع منعطف للكسوف جهة النهار، وبقي الحطام معلقا بين تعفف الطفو وشبق الموج.

ومد المعلّم يد غفلتِنا واقتلع بها من سماء السابعة عصرا اخر غَسَقٍِ حطَّ على زرقتها المحكوكة، جريا على صرعة اقتلاع الحطاطين على الجينز المحكوك ومؤخرات النساء المحكوكة على الظرفية لحظة يدمدمن: ما كان الفقر ليحط عندنا، لو لم يعرف اننا اكفاء في مهاجمته. لكن، لم تكن هناك خيول او بغال ولا حتى حمير. والبقر لم يتشابه علينا بعد ان تقمص ابقارهم جنون الموهومين بانتصار موانع التفكير ودشداشات شاكر المهفهفة فوق احذية البلدوزر.

كل شئ ممكن اذاً، ما دام في السنة شئ اسمه حزيران وخلفه الاف علامات الاستفهام. طابور الاسئلة كجيش الاسكندر لا ينتهي وكالأنكشارية لايفتح مسربا لأنطلاقة اجوبة.

***

يوم بلا غسق، وكاهن بلا اصابع يبحث عن وحي، أي وحي ليشهده على ولائه لابن مسافر الذي هبط ذات لثغة الى وادي الاحلام ولم يعد. هبط وغاص ولم يعد. بحث عن القميص المقدس بين ركام الحضارات الملطخة بدماء طواويس وحصافات ملائكة هادرة بين رغبتين لـ طيطفون•. هبط ولم يعد .. هبط ولم يعد .. هبط ولم يعد، وظل هاتف تي . في الشباب ذو الرقم 7791212 يتلقى هبط ولم يعد وينفخها في شريط الاغراء بجائزة كبرى لمن يعثر عليه. لكن كل شئ ذهب ادراج الكوابيس الثقيلة والخفيفة والنمساوية ذات الأنين وحتى المتمركنة في قوقعة الخوف وحاويات الضباع.

***

لم يبق في الحضرة من احد. كلهم سافروا .. السعد والصلاح ومحمد الفاتح واديبهم الوحيد .. كلهم .. كلهم .. كلهم .. سافروا وتركونا وحدنا الى جانب فكرةٍ صارَ من حقنا ان نفتح تاءها على الرطانة. كانوا كثرةً من الأب والأم والعم والعمة والأخوال الذين استقلوا مقبرة مسرعة كالضوء. مروا بالابراج الاثني عشر واكتشفوا ابراجا اخرى: برج التوسيرام والارقام المدقوقة واسمهان خوري، وروزي عبده، وحسرات اخرى مثل فاطمة بن حوحو ودليلة بن مراد، ونشوى، وليليان اندراوس، ورندة جدعون .. مرّوا بها وورموها بهموم الابناء الذين صارت خراطيمهم كالحبال تسحل في ساحات العرض الصباحي وفي خيبات البنات العوانس او الثيبات اللاتي وقعن في شرك بوصلة معطوبة او اللاتي قررن البحث عن ذواتهن خارج المزابل الآرية. ورّمونا نحن ايضا وأتموا رحلتهم الى هناك. وظلوا يسألون عن الـ هناك، وظلت المشكلة الاكبر تضرب باقدام ثقيلة وصارمة على ارض هواجسهم لتطلع ماء على نية العريف محمد جفال. لكن الماء بقي راكدا في قعر خيبة العريف، والمقبرة التي سافرت لم تعد. اين سندفن من تبقى اذا زارهم عزرائيل؟ وماذا لو حصل خطأ في النسخ وقرأها الجيل البريكي سهوا عزازيل؟

يوم بلا غسق، غاب في احراشه العريف، ونامت الخيبة، وتثاءب قعر الضرورات. وصاح به المعلم: فتحت كل شئ ورحلت وأبقيتني معها بلا نواميس او قواميس، لماذا لم تخبرها كما اخبرك المعلمون الاربعة، بأن المربع الحقيقي ليست له زوايا، وبأن بوابات الغيب تنفتح كلما اجهضت نفس رغبة. وانتِ لماذا لم تخبريه، كما اخبروك، بان المبالغة بشحذ السكين تثلم حدها القاطع، وبأن المبالغة في التداهي تقفل مداخل السماء وتكبل الاشكال بالصور والصور بالاشكال؟ وانتما معاً، لماذا لم تنتظرا حتى اقول لكما، كما قال لي المعلمون الاربعة، اصنعا للغرفة ابوابا ونوافذ، ولكن اعلما ان الفتحات هي التي تجعل السكن صالحا وان صلاحية السكن مرهونة بفراغ الغرفة لا بالجدران.

لماذا افترقتما قبل ان اقول لكما ان دهاء السلف هو الذي اباد قعر المعرفة وانه باجتناب القداسة والحكمة والاخلاق والرحمة تولد البداية المعقمة من اللصوص، وانتِ، لماذا تضعي اصابعك في اذانك كلما قلت: في البدء كان ثمة شئ، تشكل خلف بوابة اللغز الاكبر، وخرج قبل الطواويس والملائكة، وكان بابه بلا قفل، لأنه سبق الأسود والأبيض.

أنا العالم الذي تحسبين نفسك قادرة على تحسينه. ولا تعرفين انك ان حاولت، فستحيلينني الى خراب. اذا كيف؟ تعالي معي نبتعد عن الحروب والسنوات ذوات الألسنة اللاهثة خلف الحروب. ثم قلت لها: تعالي نجهض الفعل. نعم، نعمل، ولكن بلا فعل. هكذا المعلمون الأربعة علموني: "افعل الاقل فالاقل، حتى تستكمل اللا فعل، واذ لا تفعل شيئا فلن يبقى شئ غير مفعول، العالم يقوم على ترك الأمور لمجاريها، ولا يمكن ان يدار بالتدخل.•

وتسألينني: كيف؟ وأجيبك: هكذا .. تعالي نلعب. انا العب آدم وانت تلعبين حواء، ولكن هذه المرة بلا شجرة ولا شيطان ولا ثمرة. ولنبدأ من الحروب والجوع والجوع والجوع والجوع والجوع والجوع والجوع وكذلك من الجوع.

لم تستطع نسيان تلك النشأة الأولى. وانا كأي ادم جبت الأرض سبع مرات لأعود اليها بأول رغيف افلت من بين ايدينا، دون ان اجد لها اثرا، في كل مرة اعود الى تنورها الحجري.

هي ايضا دارت الارض سبع مرات لتعود بي الى تنورها الملتهب. وحين التقينا اعجبها ان تلعب فأرة وترغمني على ان العب قطاً. وكأي ادم مرغم على التقطط قلت لها:

- اقلقني ان لا اراك وانا اجوب الارض سبع مرات.

وكفأرة حاذقة تنوي نبش تنورها بدماثوغٍ، صارم اجابت:

- لكنني لم ابرح هذا التنور منذ انطلقت.

ادمع العمود وفار التنور اكثر. هل كتب عليًّ ان اتجسد خطاءً في كل مرة؟ هل كتب علي، في كل تجسدٍ، ان ادفع حواء الى حلق طيطفون؟

- طيطفون على الباب!

لكنها لم تجب. وافهمني دمعها ان النعمان كان متواطئا معه .. والا فكيف ضاعت المناذرة ؟!

ثم انها قرأت لي ورقة تاروت كان قد خمرها المعلم الصارم في كيس تبغه منذ تجسده الثلاثين:

لم يمت النعمان تحت اقدام الفيلة

قتل بعد اغتصابه طيطفونة

انتقاما للفحولة

وتمريغا لشرف بعلها الطيطفون

في اوحال

ظلت تتأسن داخل بصيرته

ثم درنا الارض معا سبع مرات اخرى؛ وكانت تستهويها في كل دورة فكرة ان نخبز رغيفا كي يفلت من بين ايدينا ويجري، فأحبّها اكثر. بينما اجرجرها انا الى مسالك لم تطأها اقدام حدسها؛ اخذتها الى الفكرة مفتوحة التاء على الرطانة،ودرت بها على السحاقيات اللاتي يلهثن في اتصال لا ينتهي خلف الستائر المواء الازلي لاباء وامهات يفعلون كل شئ مريع من القبلة والرفع والنصب الجر ودق الرقم وحتى الرعشة والشخير. ادمعت روحها وعطس التنور، وتوهج الكلام اكثر، وتجنح اللسان صوب الجوزاء الباردة كالازبري، وهي لاتعرف عن نكهات الشخير والمواء والرفع والنصب والجر الا في حدود ما وردت منه توصيفات بالتراسل والتخاطر المثلجين. ادمعتها روحها فانفجر الكلام وانغرست كبائر اللسان في كل محظور وانساحت الدفائن:

للسان الى جانب النطق

وظيفة تنطيق المثلثات السحرية

حين يفترشها ويلعق زواياها ويعطسها

لتقول اعجازات كتلك التي استوحى منها حمورابي

شكل مسلته الخالدة.

والا فكيف اهتدى الى تصميمها هكذا:

اسطوانة على رأسها حشفة

ثم كررت:

- تعالي نلعب. انا العب ادم وانت تلعبين حواء

- تعال نلعب. انا العب فأرة وانت تلعب قطاً

- ….. انا العب ادم وانت تلعبين فأرة

- ….. انا العب حواء وانت تلعب تفاحة

- ….. انا العب شيطاناً وانت تلعبين تفاحة

- ….. انت تلعب خبازا وانا العب جائعة

لماذا لم تفهمها وفتحت كل شئ، واجبرت المعلم على دخول برميله الى الابد؟؟

***

يوم اخر بلا غسق، وجوع يفتح فكيه ومطر، لكن من سلاحف وجدالات وازمنة ومثلثات فقدت سحرها وهضاب بديلة. فجأة تفاقم جدل بين العقال وبين السماء واذن مؤذن: ايتها الحروب، انكم لسارقون واذنت: ياحرباً او امرأةً جديدة او سرفات او قمحا يحترق او جوعا ينبت في الحقول، او …. لم تعد للدوال اهمية. وصحح للسماء المعلم:

منذ انقلب الدورق 

وساحت ذرية ادم

على مساء السابعة عصراً

منذ ان رجموا برنابا والاناجيل الثمانين

وجزوا عنق التوراة

منذ اغتسلوا بدمها الدافق على جسد التضاهرة

صار القلب زيارة عابرة في الجسد.

واذنت جوزاء المناذرة .. اغثني ياكاهناً بلا اصابع من الاصفار ومطابخ اهوائهم فاغرة القدور والصحون والابخرة، وعمِّد احلامي المتبقية من غواية امنا المقدسة. اغثني، انا حفيدة المعلم الاول الذي دخل الزير ولم يخرج وتعقبوه في تجسداتهم كلها، بينما سرحوا نواياهم المبيتة خلفي. انى اتجهت فثمة نية تبصبص وام مقدسة تصفح وجهها كي لا يأخذوه. ياعمر الدفاتر والمخطوطات قبل الكتب اغثني من اصالهم المتقهقرة وافرش تحت بصيرتي افاق اليقين. ثم انها اضافت الى حاشية اذانها المعنون الى ظمأ المدن المعوقة هذا الهامش:

كنت تقول لي اسرجي نبض الجواد الجرئ لمن طالبوك بدليل العذرية، لكنك خذلتني وقدمت لهم اوجاع من طالبوك بالفرح باقةً من نجوم الاغلفة المحاصرة الى ابراجهم السقيمة. وكنت كلما قلت (آه) تترجمها لهم " دم في رداء دخان " بدلا من "دم نافر في عروق مسلة ".. واذاً فقد عرفت كيف تحز رقبة الغيب وتصب ملح كوابيسه فوق حلمي الجريح ونسيت انك من سميتني " السيدة جداً "

وصاح المعلم: ها انت ذا فتحت كل شئ ورحلت وابقيتني معها بلا نواقيس قبالة

برميل اعزل .. يا انت يا من طفحت سماواته الى العنق بماء النسيان والتناسي، هل لي بكأسٍ من نقيع الشمس؟ هل لي بعبرانيةٍ، اراميةٍ، فرعونيةٍ، كنعانيةٍ، آريةٍ – تتناول جبنة الكيري بلا تحفظ – كلدانيةٍ، خلاسيةٍ، تدمريةٍ، باريسيةٍ، ويلزيةٍ، دايانيةٍ في تنور سيدةٍ جداً كي اعلفه دفعة واحدة واستريح.

***

-2-

لو كنت اعلم بما ستفتحه علي بوابات قرطاج التي دخلتها جوزاء المناذرة بعدي، لملأت بها احشاء سياق اخر لا يتماس مع تأثيرات الكواكب المكتنزة بالنساء العاديات المتألهات في سماوات السذج وهن يتطلعن الى جدران الفناجين بحثا عن المجونات السيالة في غرف الزوجية وهن المتعثرات دوما بحتميات الواجب والسأم واجترار لازمة عمر الطالب التي لدغتها الحية، وآية حية‍!!

انا المحتال الذي بالت على ثيابه اللهفةُ الى ليندا هاملتون وصوفي مارسو ودايانا الاميرة وهوليا ازرق ازرق ونبيلة عبيد السيدة جدا جدا جدا، ومن حبيباتي الى الخيبات الاربع اللاتي كانت سكين طالعي امضى من خلواتهن الشرعية، انا المحتال يا جوزاءهم، كما تحللين بنيات ما فصله الراوي وارتداه المروي له، احلل بلا خجل ملابس هذه الرغبة المختنقة تحت الوسائد الدينية، واسافر الى خصر السؤال الوحيد عن معنى هذه الوسائد التي تحول بصري الى ما يتثاءب من كسل وتهاون واسترجال بين الفخذين، بينما تلمحين انت هذا الذي اسميه تحليلا وتسمينه انذهالا، واراه رغيفا يركض ولا تقوى على اللحاق به هذه الرغبات، وترينه سببا لانتصار فأرة، يتبع سببا من خلفه سبب ومن بين يديه اسباب، وانا لازلت اجوب الارض سبعا سبعا وانت خلفي تدورين وتعلفين التنور فلماذا اذا كل هذه الوسائد وليس في الطريق من عمود يفاوض؟ لماذا تطفئين ماكنة غفلتي كلما فاوضت تنورا تجلسينه بين الفخذين وتتوجينه بصرة دامعة؟ لماذا تعليفنه دون ان تفكري في تنظيف تلك الرغبة على الطريقة المصرية؟ لماذا تفضلينها مشعرة على طريقة العبرانيات؟ هل جربت ان تقذفي بالدغل خارج ذلك الذعر لتدركي كفرعونية، ولو للحظة واحدة مفعول الزينة والعطور والالوان على ادم سيخبزك يوما لا محالة اسطورةً فضولية الطبع يعرف انها لن تشي بارقام حظها الا لمومياء او لفكرة انتحار تهمس لها من خلف ستائر الحكمة.

هل كتب علي ان اتجسد مومياءا او فكرة انتحار لعوب كي انسيها سفر الوسائد المتشابهة ووهم الرغيف الاول؟

لماذا لا تأتين فنلعب انا العب علافا وانت تلعبين تنوراً؟

***

على طاولة مجاورة ثمة صفر يفاوض ثيباً او بنتاً. قلت:

- تعالي نلعب. انا العب ادم وانت تلعبين حواء

- تعال نلعب انا العب فأرة وانت تلعب قطاً

• بدأ الصفر في اخذ وجهها

- تعالي نلعب انا العب ادم وانت تلعبين فأرة

• اخذ وجهها

- تعالي نلعب انا العب علافا وانت تلعبين تنورا

- انا العب فما وانت تلعب حسرة

• شخر الصفر

- انا العب شيطانا وانت تلعبين حواء

• تسلم اول تحويل مصرفي عن نصيبه من حزيران

- انا العب حواء وانت تلعب تفاحة

• جلست الى جواره ثيب اخرى او بنت.

صرخت بالطاولة وهي تهبط سلالم قرطاج:

- تعالي نلعب انت تلعبين حزيران وانا العب صفراً

• هبطا. غادرت. انا الوحيد بلا طاولة صار من حقي ان اطلب ليندا هاملتون بزي قروية منصوبة على الشرقية وهوليا ازرق ازرق مبنية على التخصيص ونبيلة السيدة جدا جدا جدا

- تعالوا نلعب انا العب وحشا وانتن تلعبن كاثرين

وفارت تنانير وامتلأت قرطاج بالحجاج، يهتفون:

لك وحشة ياطحين الصفر

ويا دهن الراعي ويازيت البنت المقدس

وياشخاط الامين

ولك الاجر على الصبر

ياطحين الحصة التموينية

بالقوة صيروك توأما للسمك

مأكولا ومذموما ثم بالقوة نضدوك

سطور استنفار

في افتتاحيات الصحف المحاصرة

وفي حكايات سمراء دار السلام

التي قال عنها هدهد المناذرة:

" في عروقها تهدر تجليات السلف الصالح من كونفوشيوس ولاوتز ومينشيوس وبوذا وسعد محمود ومعلميه الاربعة حاملي صومعته التي يجري من تحتها هدير الابدية، وانتهاءأً ببرمهانسا يوجنندا وابن مسافر وحفيدته ذات الاحزان الخالدة "

واضاف الهدهد:

"في السابعة من ذلك السبت حاسر السماء استمكنت ماسورة الغضب العبراني حكاياتها، لكن اجدادها حضروا دفعة واحدة واجبروا قائد التحالف على ان يصرخ:

- لا تطلقوا النار. انها قلعة اور!

وحضر لتحية اجدادها ابراهيم ووقع معهم مذكرة تفاهم خاصة بالحكايات السمراوات لقاء وجهات نظر محايدة تحفظ حق دايانا ودودي في خلوة شرعية لا يصل اليها الكاميريون. وقال لهم ابراهيم في لحظة الوداع:

- لن يكف العبرانيون عن محاولاتهم في تهريب (آور) الى التيه بعد ان اخفقت في لم اطرافه (شليم) "

وحين خلونا لبعضنا قالت :

- ما رأيك ان نلعب. انت تلعب اور وانا العب شليم

- لكنني لااحب الحروب. احب معاشرة حواء جدا في مكان ليس فيه شجرة ولا شيطان ولا ثمرة. ما رأيك ان نلعب النصف الاخر لمشهد قطعته سكين الصحافة السريعة. انا العب دودي وانت تلعبين دايانا.

كان خوفها من ان يعلم الامير ويكسر عينها على الطريقة اليزيدية اقوى حتى من تجسدها التاسع والتسعين عندما وقفت في وجه (ياه) شخصيا ومسحت بشرفه بلاط بيت الدعارة الذي انشأته لصقا بمعبد العبرانيين الكبير، ولتضمه فيما بعد جناحا مترفا بملذاتها الخاصة بالشذوذات الفرنسية والاشورية والاكدية والارية المهجنة بابتكارات وجودية. وكانت تعرف ان الصواعق الثلاثين التي رطمت جسده قد خلفته عنينا. يا ياه العنين الان فقط صار بوسعنا ان نتعرى ونكتشف سحر السنة التنور امام رجال لا يضعون الدشاديش في افواههم ولا يسرحون خراطيمهم الرطبة الباردة على شرارة الزناد يا ياه اللعين، انظر الينا على محراب قدسيتك النافقة حيث نفور وحيث تغص انت بحقيقة اننا لم نكن باردات كالازبري. هل بقيت بك حاجة يا ياه الى ذلك الخرطوم العاجز عن الرفع والنصب …

قالت ذلك كله بصوت مرتفع متحدٍ وعلى مرأى الناس والملائكة والجن والعفاريت والاصفار. هل بقي شئ لياه؟!

- ياسيدتي انلعب ام انصرف.

وسمرني صمتها على جسر يربط بين احتمالين. لكنني اغمضت عيني ونسفت الجسر. لعبت دودي وعلفت تنورا جدا جدا جدا دون ان اعرف ماذا كانت هي تلعب بالضبط.

***

في الصباح اطلقت التحية.

صباح الخير ياطحين الحصة، ياسكيني الغائرة في رقبة السكينة، يانظرتي الباردة حين تشطفين العواصف عن الافق. صباح الخير يا اخر قربان ربما اقدمه للصمت كي احرر البحر من سدود اسهامتها الخاملة واعلن : صدقيني ما كنت لاحتقر موج البلادة لو لم اكن مرفأ للعواصف السائبة. وها انا ذا للمرة السادسة والثلاثين اضع السكينة على رقبة السكين كلما اندلق لسانها نحوي وانسج من وجع الهواء المقرح قلقا اخر كي يتأرجح بين زجاج الروح والبراري الهاربة. ارحني يا شيئا يتغرغر بالسخرية كلما تعثر بزمن واقذف بهذه الحمى الى قاع الروح لئلا يعلق بها تتطلع ما وقل معي بفرح:

صباح الخير ياطحين الحصة

ياحماه التي تستقر كقدر وقضاء

تحت جلد الغد واحفاده

صباح الخير يا اقاويلنا المعلنة؛

نحن نفتعل كل هذه الشكوك

لحاجتنا الى عراف حمى

لا الى طبيب باطني.

ظلت تحدق وانا اقول لها:

○ بمخابثة كانت الحرب تجثم فوق خوذة مثقوبة وتعلن عن ترميم مشهد ظل ينبسط بين وردة الوقت وبين الرغبة بينما كانت تجلس تحت جدار الوقت المتأوه بحار دم وصراخ.

○ هل قلت لك في لحظة ما تدحرج ورك الظهيرة الى فم قنبلة جائعة، وضل السيد جوع طريقه بين خرائب الوجوه و الاسماء المخنوقة بالاضاليل.

○ هل قلت لك، كانت كل الاشياء تحدق ووحده الرعب يكمم فم الانتحاب عندما جثم القحط فوق ارتباكي وحولني الى محض رجاء في حضرة سعر مختال.

○ هل قلت لك، حين فرغ الوقت من مص الخامسة عصرا، صرخت به:

ايها الالم، ارقص على كتف الاشاعة الخاسرة وعلى النصل الدائخ،قبل ان يسمع هذا الجريح على النقالة الراكضة هدير طائر العذاب، قبل ان تهضمنا حوصلة الغفلة.

○ هل قلت لك انه الوحيد الذي كان يجذف في شفقك الملتطم، قاصدا رمل الاشاعة، عندما اعلن القط السعيد عن رحيل اسفه المتقمص حاءاً مزمنة.

○ وهل قلت لك انه جاء على اكتاف جنون راجل الى دائرة النفوس وعدل اسمه من قحط الى قط لتكون له سبعة ارواح يروح بها عن انحناءاته الغزيرة تحت ضغط الاسعار.

○ هل قلت لك انني انتقلت بعدها من بدائية النار الى اخر تقليعة للندم وفتحت مغالق الذهول بروحانيات لا عمل لها غير انتاج صمت لاجيال لما تزل مجمدة في نخاع الغيب.

○ هل قلت لك لا خف للذكريات وذاكرتي كثبان؟ فاتركي الفراغ يرقص تحت رفيف النسيان وساكتفي انا بسكب الهواء في رئة القمر اتركي الفراغ فاسماؤنا تبدأ بالدفن ولا تنتهي في النطف وهم يعرفون ويعرفون، ونحن نعرف سماءً واحدة في الاقل تسير على الرمال ولا تغوص.

○هل قلت لك اننا في لحظة جوع تتطاولنا على السماء واصطدنا سحابة قاصية واننا اعتدنا السحاب المسكوف.

○ هل قلت لك انني بقطنة مبتلة بالسكينة مسحت عضلة السماء وحقنتها بجرعة من مصل مضاد للطائرات ثم هدهدت ابنتي التي لم تأتِ بعد، نامي وانت ياامها التي قد تتزوجني نامي، كي تستعدي وتنجبي لي سماءً بلا طائرات.

○ هل قلت لك، في المنعرج المؤدي الى الغيب المطعون غفلة، تناهت الي نغمة:

- ماء

ماء

وبأن لحظة عجلى حملتني على بساط ارتباك واسقطتني مطرا على السماء

○ هل قلت لك ،

كنت مهدورا مثل هذه اللفافة، كل ليلة في فم حلم. هل قلت لك كل هذا؟

- !!!!!!!!!!!

- اذا ماذا عرفتي عني وانا لم اقل لك شيئا بعد؟!!

-3-

لسريري الذي ابقوه باردا عينان وفم وقلق. هذا المساء رأى وردة تطلع من عيون اليتامى والمساكين وابناء السبيل فانشد:

اللبلاب شيطان

مسكون بالسيدات

يطلع

من

عنق الليل

المرهون بتمرة

وينثرني

اواصراً

على

أ

ل

هـ

ب

ا

ء

.

كل شئ ينطفئ.

انطفأ ايضا نجمان. وبقي يبحث عني نجم مشدود الى لثغتك الصدوح. وكدت اسقط فوق دبابيس اول حرف اراد استراقه، فأنتشلتني مشدات الساعات الممطوطة الى اخرها. وهذا يحدث لاول مرة في الجغرافيا. لكنني لم ارد على هاتف الوقت. من يدري؟ قد تقفز الجاذبية نكاية بالنجوم، وعوض ذلك امتشقت سريرتي من غمد الرنين نفسه وحفرت على شاهدة الخليقة:

○ الضروري في حياتنا ابليس

○ النبوءة بمناشير الطين جاءت مثلجة لا فضل للشمس فيها على الظل.

○ والخطوات التي نفتني، نفتها احذية الزوال الى اول حلم معلق على قارعة السلام.

واصلت مقصات البرق تقليم لحية الليل النابتة من الموج الملتطم. كنا نصطاد بينما الاسماك تنتهز الفرصة لتثقب احلامنا وتدوزن الرعد قبل انفراط الزوبعة.

كل شئ ممكن اذا ما دام في السنة شئ اسمه حزيران. ثم بدأ ليل الماء يتعرى امام النار الراقصة قبالتنا هزيعا هزيعا وكلما سارت النبوءة يمينا حفر اليسار لها حفرة في لساني وبقينا نسأل: لماذا تشحذ الانهار شواطئها؟ ألتقطع اعتكاف الصيادين داخل اكواخهم؟ اذاً لماذا لا تشحذ الاكواخُ الصيادين فترد للموج اعتباره وللاسماك هيبتها؟

حتى البصيرة لم تعد تكفي لاحباط مخططات الايواكس وتصفية الحساب بين الخصوم. حتى الموجهة التي افردت لها اجنحة في غفلة من خطافات الوقت، لم يجدها التحليق الى ما وراء التقاويم. ترى ماذا سيفعل تاصياد وهو لم يعد يحظى بثقة الشواطئ؟

وصاح المعلم:

كل نسيان انا ما من احد ينفخ جاذبية في جيوب انفلاتي. هل سأبقى معلقا في عيونها وتبقى الرغبة المملحة تدمعني على منديل خيبة؟ اولم اخبرك بان قطرة الدم الان تأخذ شكل مكعب من المرايا؟ اذاً فأنظري ها نحن نجذف في انعكاساتنا المتلاطمة صوب اول رغيف. ها .. والان من سيمجد لعاب الشفرة المتلمظة الى حلكة تتهارش في احشائها النهارات، ومن سيمكنه نقع هذا الخوف في ضحكة طارئة كي يفرش افاقه الكتمانُ وتحلب نحيباتها المراثي؟ قولي لي من غيرنا؟ ام كتب علينا ان نعيش لنسأل شهقتنا الخافرة في عمر الدفاتر وطالع المفاوضات الهادر بين صلصالين. وانت مثلي تعرفين انها عارية الصدر سنواتنا المختبئة في الحراب. والاسرار التي خمرناها تتقمص الان شهقةً في اتجاه المدونات التي رممت سرفات الموت وامهلت الابدية، و رقت اوجاعنا المفجوجة فوق حذر المناديل. يا مناديلنا المطوية في جوارير الفضائح. لنا اخطاؤنا التي سنحقنها في الزهور، لنا شروقاتنا التي سنعطلها في الاجنة .. ولنا جوعنا الذي اوثقناه الى عمود الحكمة كي ترى البطون اليابسة لسانه المندلق تحت الشمس. لنا ولنا ولنا .. ولنا تجهم المطبات في طريقنا الى البعثرة يا مناديلنا ياوداعة الشراك امكري بالالهة مقلدة الاحلام وعظمي العناد المتقهقر ما بين الجلد واللحم كي ننسى خطافات تلك الليالي المقامرة ونمضي الى حيث الازمنة العابرة تتعفن في براميل الهندسة ولننشد معا:

هذا زمن لبرية تطيح بالهندسة

وتشيد من قرميد الاصياف المندثرة

متاحف للجفاف والفطام.

ثم انك مثلي تعرفين ان دمعة العالم على مرثية الضحك تتكئ وتعرفين ان الضحك بلا اجنحة والتحليق ملحاح والدمع ساهد خارج العزلة، والسكائر تلفظ ارواحها ولا تحترق وتعرفين ايضا ان الحذر بدأ ينقطنا نبضة نبضة في فم الطلق ليسحب من بين فخذي قلقنا سماءً او بعض سماء بلا طائرات.

افيقي ياجوزائي الباردة وفوقيني قبل ان يتوقف بياض القطب عند غسق النبوءة ويتأمل البطاريق، قبل ان يضطر ايرين باباس ان تعذب البط ثانية مع كاهن نبتت له اصابع. افيقي فقد غادر الذباب افكاره وفتحت لنا بواباتها الاشاعةُ. هل سندخل؟

***

في غفلة من سلالم قرطاج وحيطان قرطاج وطاولات قرطاج المشدوهة بهاجس ظل عالقا في غراء الشكوك، تسللنا كدمعتين، اذ ارتفعت شمس رغبتي وامطر صمتها عيونا دافئة ونبيذا وخيولا واسئلة. هذا هو الطريق، عمري المنضد على سطر غفلة ووهمي الذي لايليق بما تشتهيه الاسفار فلما رأتني ساطعا قالت هذا ربي. ولكنني علفا لماكنة الاوهام صيرتني المعرفة. انظري كيف ادون في صفحة النسيان هذه الحقائق فلما رأتني ساطعا اكثر، امطرت أيائل وبرارٍ وينابيع وملائكة: هذا هداي. كنت وحدي ارى حواء او دايانة ويلزية او صوفي مارسو باريسية ا و ليندا هاملتون هوليوودية واصالة نصري آرية شرط ان لا تمنع جبنة الكيري من الصرف، يخرج من كتفها الايسر رجل لا يشبهني. يشبه من؟ "فلما احدودبت فوقنا العزلة، ارتفعت الشمس اكثر اكثر اكثر، وامطر صمتنا كؤوسا وشفاهاً وسروجا وسنابل وقبلاً. فلما رأتني ساطعا اكثر اكثر اكثر اكثر، قالت: هذا خلاصي. " للسماء التي تحدق بلا كلل ارسم وفقا واعلقه حول عنق دعاء: الهي .. انا من طوحته المواقيت مازلت اتدلى من كتفٍ ايسر تسميه مدينة او سديما او امرأة، وحين افتح مظروف وهمي لا ارى لي ضلعا اعوجا " لماذا انكسر ظهر العزلة بدمعة تقمصها فاتحوك، وابتلع جبينك غروب الشمس قبل انبلاج الرغبة. لماذا دخلنا اذا؟ هل دخلنا؟

انا المستقر على شفة الحكمة، ما زلت امتشق من عطر الليزر مساء الاشاعة واخرجُ حاملاً على كتفيَّ انقاض عُزلة البط .. طار .. ريق وبريد الوهم .. أسير في شوارع تخرج لي السنتها ساخرة، بينما اواصل انا نشر وهمي على موجة متوسطة .. هل من اذاعة تفتح ذراعيها لأنواء الوهم المسافرة من لغتي الى نقرة لم تصادق عليها الطبول؟ يا خيول الحقيقة هذا وهم الحضائر وهذه اسوار السراب تنهض في بصمات الهواجس وتنادي: يا ايها الوهم، قل ايَّ وهم و لا تتهالك على جسم لحظةٍ تتأمل.

يا جوزائي الباردة. اعذريني لم يعلمني سعد محمود ولا المعلمون الاربعة حاملي صومعته بأن الحلول يمكن ان يرتدي جسم دمعة. وانا ما بلغت فاتحيك قصدا ليظلّ ملحُهُم فوق لساني. و أنا ما دفعت لساني في متاهة الليزر كي تتفكك الاسرار وتهتف: يا محاقا أوقَدَ شمسَ ذاكراهم، أدخل في برميل النسيان الى الابد.

يامجد هذا الوهم، قرِّب جناحيك من صفحة الماء، ماءِ السماء، ماءِ الارض، ماءِ الصُلب والترائب، و لقّنّي أبجدية المجذوبين بسر البصائر كي اصل الى الدَرَك .. يا مجد هذا الوهم. هل انا انا، هل انا هو، هل انا انت، هل انا هم، أم انا هل؟ و أسئلة الوهم اكثر من تفاصيل تلك الدمعة .. ياحبر العيون المكتملة بالوهم، ويا عيون الوهم الغارقة في حبر الرؤيا .. اريد حقيقة كي اصلي!

***

عبر ممر من الضوء يمر انبياء .. هل امر على الضوء وأقرأ تحت هدير التاروت هذه النبوءة .. على كتف اول حرف يثب عصفور ضوء ويرف على قبلتي، بينما تورق على قبلة مرتدة اسفارُ ما اسميه حقيقةً ويعيشونه وهما ؟

انا المحلق في طبقات اللااوزون، للمرة الالف انذر ارضي من عروس فتحت قميص اوزونها ودلقت ثدييها في فم الهلع .. يا خياطي الحقائق، من يرفو قميصها .. يافرسان الحروب من يفصلني عن كتفها الايسر .. يا منضدي الكوارث من يرسمني امضاءً في ذيل الارض، ارضة السلام، وانت يادمعة حلم ما، هل ادخل، وأنا الذي بمقص الذكريات افتح لك كل ليلة ثغرة في فراغ الكلام وانفخ وهمي. انا الوهم المنتشر كدم ادم في ثياب البشر. انا دودي .. دودي .. دودي فأعيدي الي الحقائق ياساعتي المستنكرة وهمي، اعيدي دقائقي وخذي ساعاتك الصاخبة.

***

بحران وما زال عندي متسع من العوم. والعقارب تدور في فراغ الوقت، والوقت يمارس هواياته، تارة يرسم وهمي، واخرى يسير معي فوق سلك التردد. الوقت البهلوان وانا وانت ثلاث علامات في الطريق الى ضاحية الوهم. اما المخططون في سماء اللغز، فانهم يستعجلون بريد الضوء والمجرات تسعى كأفعوان. ترى كم سننتظر قبل ان تنطوي جريدة الصبر في يد الوهم. ياللوهم .. لا يمل قراءة الدوريات والجرائد الصابرة، بينما اسمع وانا من بعيد همس الصافرة التي ايقظها الشرطي.

حاشية للسماء .. هامش للارض .. هذيان للرقص .. وظلام يمشط شعر النهار كلما مد صبح لسانه الى قوقعة ليل. في غفلة من كل هذا مات شئ على السرير اسمه دودي، وانتصر بردها الهادر في عروق الوقت. الى اين؟ والقطار يتزحلق خارج الكلمات وصفارة التيتي في فم القلق وصفارة الإنذار تطلقنا اوجاعا في اوردة النهار. الى اين والسؤال ينقط اسئلة؟ الى اين والجواب ينقط اسئلة؟ الى اين يانفسي المهملة؟ الى اين والجسر يتجاسر على انقصاف الرغبة والقطار يتزحلق الى فم السؤال يامعدة الاجوبة.

في الجرارالتي دفنها الغابرون تحت الارض، ثمة اوهام معقمة وعتاقة ووصايا نجوم. كلها تناديني ان اترك هذه الصور الملونة وأبدأ من جديد في الجرار التي دفنها الغابرون تحت الارض.

في الجرار رأيت امي ورأيت الشتاء. اماه .. انظري الى هذا الشتاء الموسِر واكياسه الطافحة بمفاتيح الثلج، يمر فوق اكواخ الايام ويهيؤها للانطلاق بفرشاته البيضاء. انظريه اماه كيف يمضي بصولجانه وموكبه ثلاثة شهور في السنة دون ان يتنفس الرتابة. وانا الذي اراه يثور ويكسر السماء ويمزق جيوب الله بحثا عن الالوان السبعة ليقوسها فوق موكبه الجاري فينا مجرى البرد. اماه اصرخي معي: أيتها الأيام ما أحوجك، وأنت تحملين الزنابيل وتتسولين الثلج، إلى طبيب صيفي يخلصك من عقدة القطب.

حتى الفصول الدائخة لا تدري لماذا هي مصابة بانيميا الألوان السبعة والمطر ولا تدري لماذا يترجل هذا المختال بكنوزه ويتخطى المنازل حتى اخر خطوة من حزيران ولا يدري لماذا تزل قدمه هناك ويتكسر. هكذا علمتني الجرار التي دفنها الغابرون تحت الارض:

تبقى الودائع كلها للقطب

وللمحيط شرف الانجماد

وفي الجرار التي دفنها الغابرون امر على المعلمين الاربعة حاملي صومعة السعد وارى الله، كلما مرقت طائرة، يجمع اطراف المدن ويعقدها مثل صرة الى طرف عصاه، ثم يغمرها في مياه رؤاه وينشفها بحرير السكينة، ينظر الله الى عقدة ويشير الى البئر الذي اودعونيه فانتفخ كما الفرقعة في رغبة بالون منفجر. ينظر الله اليها التي وقتها من نجوم الافلام المستوردة؛ لا تستجيب للمكتوب وتترك الطوالع تنهمر، وتنهمر معها في فم ليل يتلمظ الى طبق متبل بالنهار. أماه .. حتى السيد كالفينو حلم بقلعة المصائر المتوازية وسبقني إليها على صهوة جرح عتيق لكن مصائره تقاطعت واحترقت في يده أوراق التاروت ونامت على أوجاعها القلعة. لماذا لم تخبريه أماه بان فكرة الربيع دوما تنبت في صحراء الشتاء حيث الرمال تركل الدمع قبل ان يشربنا. كم تمنيت اماه ان قول لك خارج الجرار التي دفنها الغابرون تحت الأرض:

بشراك، في الربيع القادم

سترين عمري في حالة توازن!

-4-

ماذا فعلت بي؟ أجلسك على طاولة قرطاجية تحلم بعاشقين وسيف يقطع اعتكاف العواصف ولا أدرك انك نصبت لعمري فخا على نهدك الأيسر، ولم يدر في خلدي انك تخبئين في التنور الهامد هدهداً ليحيط بما لا تحيطين به علما.

قال جئتك من رأسه بنبأ عظيم. إني وجدته اعسرا. والآن تسألينني لماذا اخترت ان أكون يمينيا دون تمهيد وأبقيتك في أقصى اليسار، بلا جدوى تنتظرين المعلم الذي دخل البرميل ولم يخرج. اوكان برميل حكمة أم برميل حكة يا ميم المعلم؟ ثم بالوقاحة نفسها تسألين:

- لماذا غرست في ارضي السنابك

وبقيت تنتظر حصاد الصهيل؟

ماذا فعلت بي يا ايستر بولونسكي، او يا ايمان الطوخي او ان شئت يا ايستر الطوخي، مادمت تمتلكين قلبا تتسابق فيه الدلافين بحرية خارج الماراثونات والصروح. ماذا فعلت بي؟ لماذا قطعت علي الطريق المفضي الى صهيل إلهكِ الشائخ؟ هل كان آريا إلهك فخفت على لكنته من لطمات البرق؟ وانت يا إلهاها، اين كنت عندما جف حلق الكلام وانا احدثها عن العقل ساعة يحلق عاليا في سماوات العقد ويقطف من افلاكها حكمة الاوهام. اين كنت عندما تكور على خجله الخجل وهو يحدثها عن الظلمات السبع المتدفئة بين وركي المعرفة؟ ام كنت تسبح هناك، في نبع أولئك الذين وخطوا الموت بالفناء واحتجزوا الابدية في حصالاتهم؟ ها انت ذا ترانا نغطي وجه الخلود بشمس حارقة وقمر خجول وجهل معبود دون ان ندري الى اين ستفضي بنا خرائط الكتمان.

ماذا فعلت بي ياسليلة الوهم؟ سافرت كثيرا بدونك، سافرت في الانفاس المتصاعدة من افواه الهة واشباه الهة وحكماء كانوا لما يزالوا في النطف. هناك التقيتك في غفلة من شلالات الذهب، هناك قلت له كن امواجا فكان. كن بلون التمر الذي اصبحت له في السنوات الاخيرة فوائد حميدة وحقائق مريدة، منها انه يملأ الجوف بمضادات بكتريا الجوع ويزيد حماوة العشق ويثري خيال الباه. ومنه انه ينتج جيوشا لحروب مقبلة، فكان. كن يا وجهها المجذوب بقوة الاحزان حصالة للفرح، ويا عينيها الناعستين كونا حصالتين لصوري المهدورة في نياسم الطاولة، ويافمها التوت كن حصالة لاسمي المكرور على السنة القوالين .. يا كلها كن هناك وهناك وهناك حيث لا تسافر العيون والاذان والانوف، هناك بين جدران اربعة وسرير يتراقص تحت الليزر – السلاح والعطر – يفهمني ولا افهمه. اين كنت يا يقظتي التي عجزت عن التشبث بحوافها، والدلافين وحدها تسبح في قلبك بحرية وتتسابق .. اعيدي ياذات القلب الآري ربع حريتي كي اعيد اليك جميع الآلهة. اعيدي الي اهلي الذين سافروا في مقبرة الى نفس اللغز، كي اعيد للطاووس يقينه وللآلهة شكوكها القديمة. والان سأطلب الكثير من الجهل فلا تسأليني عن العجلات والرقص والغناء والحياة والقبل. والان اخبريني ايتها الساخنة كهذه الاحداث اين ذهبوا؟ واين حطت المقبرة؟ هل في الفضيلة حطت، هل في الحكمة، هل في الفشل؟؟؟

اناديك انت العارفة بالوهم والموهومين، الواحدة المسكونة بأله ليس له موطئ قدم بين الدلافين المتسابقة الى موتها. اناديك ياقلبها الذي لا يموت ولا يحيا، انا الحائر بين قاتل وبين مقتول. هل ستأخذني من جسدي .. هل ستأخذ مني عمر الفناء؟ هل ستخضني في زجاجة التجسد وتصبني دفا في يد صوفي او حكمة على لسان طائش، او حكة على مثلث شبق، او متعة بين جسدين مجذوبين بقوة العطر .. يا عطرها الذي اطعمني النبل وافرغ في فمي عصير البصائر، افق وفوقها كي تفهم اللذة التي تركض على شفرة كالصراط بينما اصابعها غائرة في لحم السراب. يايقظة الاشكال والالوان والاذواق والعطور والصور، يا سبات الحكمة والبصيرة والحدوس، افيقي جميعا في تلك الرغبات النائمة كي نعبر معا الى ما وراء الخدود والنار والريح والسعادة افيقي واقرأينا، نحن الدفاتر، التي ما تزال ثمارنا في القاع وجذورنا في اعلى سماوات الوهم وما بينهما انا احبك، وانت خائفة من سياط الصواعق ودبابيس اليوغا الكاوية. كيف سأدركك اذاً بلا يوغا، والكلام كثير والعقل مفرغ منذ سنين لاستقبال شحنات الدواء والغذاء التي قد تأتي، والبصر مخطوف بمشاهد الفيديو كليب، حيث وحدك تتحركين داخل براويزها وتتغنجين، ووحدك تجمعين بسلة من خوص اوهامك زهور الحقيقة، وحدك وحدك وعلى شفتيك اغنية طائرين التقيا على غصن صدفة؛ كانا حزينين، ينظر اليهما رب مغتبط، عارف بالطيور والاغصان والعشاق واطواق الحزن. شاهدناه معا يمارس المحبة اللائقة بنقائص اولئك الشهود المتوزعين بين المطابخ والمنصات الحكومية وكذلك المتوزعين بين الاصفار وبين الممنوعة عقولهم عن التفكير والصرف، والسائبة حبالهم كحيات العرفاء في ساحات العرض الصباحي بعد وجبة التمر الوحيدة. وانا اخاف عليك من حبالهم الدامعة بالنظر او بالكلام. وهم يعبدون الرغبات المتراصفة مع طوابير السيارات في محطات البنزين على طول الطريق من انفاسك وحتى اخر خطوة تضعينها على الرصيف المقابل. ونحن نحن كنا الرائين، العراة من الانفعال والافعال، المتسربلين بهدوء الفجر وورع الكاهن الذي قطع باهه واصابعه ليلقم بها فم الخطيئة. هم قالوا قطعه تكفيرا عن خطيئة جرجرته اليها كاهنة مدسوسة من اورشليم. وانا وحدي اعرف السبب. اولم اقل لك ان الموانع المطاطية لم تجدي في استقطار الشعر. وانا لا امتلك غير هذا الباه، وسط جمهرة من الخطيئات الجائعات. ماذا افعل؟ هل اتركها تسقطه عن قلعة مجده الوحيدة قبل ان اشيد له تمثالا قبالة ياه العنين.

وظل السؤال كقلعة ينهض بيننا. هل انت التلميذة؟ هل انا المعلم؟ هل ستظلين غافية تحت ظل اله آري يتربع على سبت من حجر؟ هل كانت ضغينة تلك اللحظات التي فتحت نوافذها على مخطوطاته، الفاتح الوحيد الذي اشترى منصب وضاح اليمن بعشرة آلهة وطاووس بلا ملائكة؟ وهل وجد في بلورتها السابقة للخلق غير تلك الرغبة في الافتراق جاثمةً على دهور لا تحصى؟ وهل وجد يقينه قبالة إلهها الآري قبل ان تستغفله الجبال والربايا؟

وانت التي اختطفتك اصابع الغفلة من بين سطور برنابا ازلية بيضاء كي تكوني آية للذين اسرفوا على انفسهم، وليكون ظهرك المتورد نغصة في حلق النعمان الاسود، وما زلت تحبين الجلوس معي الى طاولة يتربع عليها طاووس، لتقنعيني بوجود وجه ثالث للعملة. ومازلت احب الجلوس معك دون ثالث، وان كان لابد، فليكن ذلك الهدهد في ذلك التنور الهامد والمترفع عن صغائر الوقودات. وانت انت التي تذكرين .. ناديته من وراء الظلمات، ياتنورها المبتل برذاذ العزلة والسكينة والانعتاق اغثني. وانت انت التي تذكرين " قدمت لساني له وسبابتي نذرين فتقبل اللسان واعاد الى راحتي السبابة محترقة بخيبتها. لماذا كتبت على سبابتي ان تغوص في جهلها من جديد وتندفق في كارما قد لا تنتهي؟ وانت انت التي تذكرين كيف اسرها في نفسه الهك الآري وكيف اغتال ضحكتي وقطعها ستا وثلاثين قطعة، فرقها في البلاد وانت التي طفت البلاد، وكنت كلما عثرت على قطعة منها دفنتها واقمت عليها معبد في غفلة من عيون العرفاء والاصفار والموانع المطاطية وكنت وحدك تعرفين اني غريق تتلاطمني الاسعار في بحر الفواتير الخضر بعد ان فصلوا الرجاء الصالح عن رأسي، وكنت تعرفين بأنني سأخرج مرة اخرى واخرى واخرى واخرى واخرى واخرى واخرى من جذور المعابد و الاديان لاتم تمظهراتي المحتومة؛ مرة فأسا في نية ابراهيم ومرة غصة في ضمير البعل المنحوت من حجر السبت، ثم ينفتح المشهد بلا خجل كي اخرج من الاعدادية الشرقية، من المكتبة الشرقية، ثم من المرأة الشرقية كحمار يقرأ اسفارا ويفهم. من سمى الفهيم بهيما واسقط النقطة عن خاء الخمار؟

كان خمارا يحتظن المعرفة والحدوس اعتمر البيرية وانزلق كأبزيم بسطاله في الحرب. وهناك خلع البيرية وحشر رأسه في خوذة، ثم حشر الحرب في رؤوس امانيه.

- ما اسمك؟

- خمار!

قال العريف: اقطعوا خاءه ودقوا مكانها حاء الحرب.

والآن، كرر العريف:

- ما أسمك؟

- حمار الرب!

هل كنت معي في الشرقيات الثلاث اذ سألني امينها:

- ما الانعتاق؟

- انا اعرف الحرب والحرب والحرب وما بينها من الافتراق الى الوثاق!

كحمار يقرأ اسفارا وينادي .. اخذت مني ستا وثلاثين سنة واعطيتني علب البكاء والحسرة والفزع. اخذت مني سواد شعري واعطيتني فراغك المنفوخ كلهفة هذا الفانوس النافق الى ليل لا تنقطع فيه الكهرباء اخذت مني الفاتح الذي فتح كل شئ وتركني بلا اثام اقترفها. كيف اذاً سأطلب الغفران؟

***

من يد حرب الى يد حرب .. وكنت اصر على الذوبان في قارورة الجراح، لعلي اخرج من عنقها الملاك الذي تنتظرين. ماذا لو تركتني غارقا في المواعيد .. ماذا لوّات كثيرة و الليل لا يقفل صنابيره الهادرة في فم الانتظار، وجيوب الفقر في رأسي لا ترقع ثقوبها، وحسرات الكوابيس لا تكف عن سكبنا فوق أرصفة اليقظة.

من يد حرب الى يد حرب، وكنت في ربيع الدهشة تصرين على ان تشردي الآفاق من خطوطها الحمر وان تنفضي الحرب عن خوذتي وتسألين لماذا تقاعس العمود وطفح بهزيمته التنور. ثم تحمليني اثم العباد واثم الخطوة التي بدأناها بلا ياه ولا شجرة ولا شيطان في شكل باه ولا ثمرة، اذ انزلقت الى حلق شتيمة كان مقدرا عليها ان تدور الارض سبع مرات خلفنا، ونحن في المنعرج المؤدي إلى لهاث ياه وخلائقه المتهدلة كقنوط باه عجوز في ليلة تعج بالكعاب. نملأ السلال بالانتظار ونحبس القط والفأرة معا في جرة من تلك الجرار التي دفنها الغابرون تحت الأرض. تدور الشتيمة وأنت لا تكفين عن الأسئلة، وخلف الشتيمة يدور حزيران وجيوبه المنتفخة، والأصفار وطحين الصفر، كلهم يدورون ونحن في ذات المنعرج نعالج بطن الصدفة التي جمعتنا كي نُخرِج من ظلماتها اجنة صبر وننشأها على ضجيج الجيل البريكي وهدير الجوع والحسرة وشر الحسد من قبل ان تقوم من مقامها الساعة المثلجة وتغادر البلادة خشب الطاولة.

من يد حرب الى يد حرب ، وانت تصرين وانا ما اردت غير شبرين واربعة اصابع في تلك المقبرة التي سافرت ومعها سافروا جميعا وتركوني بلا انواء، تتهارش على عظام امنياتي النوايا المشحوذة في كل مكان: في السماء، في الارض، في البرق، في الرعد، في الماء، في الهاوية، في دوافعك المحشورة داخل شقوق الاثير، في الفيدا والاوبانيشاد، في الايتشنغ، في النيرفانا، في التوراة، في الاناجيل الثمانين، في حاويات الزيت المقدس، في فقه السنة وفقه الكلام وفقه المرُاباة، في الفراغ الذي نبت من نهايات اصابعه المبتورة، في الابراج الصينية والعربية والغربية، في سر الزهرة الذهبية، في لهيب الرمل والزايرجات السرية جدا جدا، في فنادق الدرجة الداعرة، في الصفد، وفي صومعة السعد المحمولة على اكتاف اربعة معلمين، وفي الجرار التي دفنها الغابرون تحت الارض وفي وفي وفي وفي وفي، ثم في الحوار الوحيد بين الرب والطاووس. اولم اقل لك ان الطاووس كان ينظر الى الرب يُعمِل ازميله ومطرقته في الفراغ. سبعة ايام، الطاووس يراقب والرب يطرق ويصقل وينفخ .. سبعة ايام. ما هذا؟ لماذا كل هذا النحت؟ وعندما اكتملتُ، صرخ الطاووس بدهشة:

- يارب، كيف عرفت ان حمارا يوجد في هذا الفراغ.

هل عرفت الان لماذا ابتدأت من هنا اول حرب؟ هل عرفت لماذا اجتمعنا؟ لماذا افترقنا؟ لماذا سنجتمع ونفترق؟ هل سنفترق؟ طبعا انت لا تريدين ولا انا، ولكن اللغز والطاووس والرب، هذا المثلث العجيب هو الذي يريد، ويريد كل شئ ليبقى مثلثا.

-5-

في ذلك السبت، انتزع الربّ من حلق الطاووس جذور الكلام وشتلها في حلقي. تكلم الآن يا حمار. فتكلمت. و انت يا طاووس استشفّ وانهق. فصار شفيفا يمخُرُ الأثير .. يطير ويحط على الضمائر ويخترق السرائر ويملأ بنهيقه الحدوس. ولكنه، في لقائنا الأول، حطَّ على لساني فكان الكلام سائغا يخرج مني. تشربين وتريدين المزيد. ولِمَ لا!! وأسقيك .. وتشربين. المزيد .. المزيد. وتشربين .. وأنا الم تفكري بي؟ الست حمارا؟ الا يشرب الحمار؟ ثم اني بقيت اقرأ وافهم كأي حمار يقرأ ويفهم .. وبقيت انت انت، اذا اوحى الطاووس اليك بان جوهر المعرفة هو عدم المعرفة. لماذا لم تنصحيني وقتها؟ اذاً لكنت انهدرت في البحر من اول جولة وطلقت الحروب الى الابد.

وفي ذلك السبت نفسه، الذي من حَجَر، امتلأت الأرض بمسحاء كذبة ومُريدين كذبة وطواويس كذبة، وانفتقت سماء الوهم لتصب على الرؤوس سماوات حقيقية .. أكنت يومها باردة كأزبري الجزيرة، أم ساخنة كاحتراقات بلال وأنا أدس في رأسه صكوك الأبجدية الانكليزية. لماذا باعوك انت بالذات؟ ولماذا لم يبذرك الشاري على طريقة آنّى شئيتم المنفتحة على التآويل؟ وفي ساعة الحصاد كيف كانت نظرة الرب؟ واسئلة مثيرة كضباء الهند السوداء تتقافز، ولا اجابات. انت وانا، كنا – عندما لم تكن في الارض قرطاجات ومطابخ ومنصات. لكن الكتب لم تنبأ بطاووس. كان الهدهد مركز النبوءة. هل الهدهد طاووس؟ هل الهدهد متاهة؟ هل المتاهة انت؟ هل المتاهة فيك؟ واسئلة مغرية كمتاهتك الدامعة امام اندهاش اللسان. وظلت ترقع أحلامها المتاهة، وتضخ تحديقاتها في لعاب الأمنية الوحيدة، وهي تتمطى وتمد اصابعها المختالة كي، تدغدغ المستحيل الذي على اسواره، علّق الزمن عملته، بوجه لبلقيس، ووجه للفاتح الوحيد، وثمة وجه ثالث ممسوح صار علّي ان انهدر فيه بجدارة اللعاب الدافق من تلك الأمنية، و أن أمحو الوجهين السابقين. بانحناءات متكررة في الركوع والسجود وتقبيل قدم الحقيقة الوحيدة، البيضاء، الصامتة وسط ثرثرة العطور وشبق الستائر ودهاء المرآة الأزلية التي فتحت فخذيها وأغرقت المستحيل بمصائر ونهارات وعرق خيول.

كل شئ كانت له اطلالة نبي على زهو المحاولة وهي تتوضأ بحرارة اللهفة كي تنحر صبرها على مذبح 11/10/1997 بعد ان سفحنا 6/10/1997 معا واجبرنا الانتظار على المغادرة.

كل شئ له اطلالة نبي، تمرة واحدة اغدو بعدها اطنان سكر فوق شفاه تلك المتاهة الوردية والمتكاسلة فوق سريرة بيضاء اخذت نصف كرة واحاطت بالمثلثات كلها. انا المهووس منذ اول سطر، لم يكن امامي الا ان اغسل حذر الورد واطلق الجرأة في منطاد مجنون، واصرخ: وداعا يا صهوة النهر الذي قطعت انفاسه الدلافينُ .. وداعا ياعمري الذي على رهافته تخثر الندى، وداعا يا حوار المستنقعات . كيف؟ اعرف شيئا واحدا قد يصلح لولبا لصامولة كيف. انت التي على خرائطك الدامعة انقلبتُ الى مرآة كي نتصالح بلا استعارات ونُغرِق السراب في دم الصمت ونسحب الله من بحيرة اليقين. ثم اننا نمنا. الم ننم؟ وقامت لتتمكيج الخرائط الدامعة امام ابتسامة المرآة. ثم نمنا. هل نمنا؟ اذاً من جاء بطاولة قرطاج ودقها في قلب النهر؟ هل عرفت الان لماذا لم نصل؟ الم اسخر الانواء والسفن والموانئ؟ فلماذا لم تصلي؟ ثم لماذا دفعتني في احضان الوصول؟ لاصل؟ لنصل؟ كيف؟ كيف وبيننا يزحف حطام الانواء ولهاث الموانئ؟ فلماذا لم تصلي؟ ثم لماذا دفعتني في احضان الوصول؟ لاصل؟ لنصل؟ كيف؟ كيف وبيننا يزحف حطام الانواء ولهاث الموانئ، والدلافين من سماوات الجرح تُخرِج انوفها ولا تتنفس. وما كنت لديها اذ اشرق امامها قلب الحقيقة الدامي؛ كانت كأزهار تموت، تومئ تارة الى اليمن، وتارة الى هناك. وما كنت لدينا اذ صرخت: اريد ظهر الحقيقة قبل وجهها. وما كنت لدينا اذ توزعت النوايا الغفيرة حول المتاهة الدامعة واخرجت خراطيمها المنتصبة كمسلات بني جان.

هل كنت استحق كل هذا العناء، وانت تحملين نفسك كشهقة على كف خريف وتأتين الى الطاولة نفسها. كيف سننجب الولد الذي نريد؟ هل سننجبه من رحم الطاولة التي على بلادتها سفحنا ارتباك 6/10/1997 مع القهوة ورماد السكائر والعبارات المبتورة؟

- سيدتي انلعب ام انصرف؟

- نلعب …..

- اذاً، دجني معي ارتباك الطاولة .. وقولي معي: " اثبتي ايتها الطاولة، فأن عليك شهقة واخضرار ودمعة "

واذن مؤذن: ايتها الطاولات انكم لمتلصصون، بصاصون كالاصفار التي فوقكم. انتم تشربون كل شئ وانا اشرب دمعها واقضم خجلها باسنان خجلي الجائع الى جرأة ومكان وزمان.

والان انا الذي احمل شهقتي على كف خريف، وارغو كالنزيف الهادر من اسلاك المخابرين، بينما تطفئين انت الليل نجما نجما وتشعلين الشمس قبل وصول النهار. " شمس وليل "؟ ماذا فعلت ايها الفاتح؟ لماذا رحلت وابقيتني في نهار بلا شمس؟ لماذا تبخرت من الطريق وتخثرت في الذكرى وتجذرت في اليقين. وانت يا نهاري المسكون بالليزر والفراغ والنغصة، دعيني اشعل الطاولة المستديرة كي تكون لنهاري شمس، كي نصل، كي نصل، كي نصل قبل ان يرحل الصيف الى سريرة التذكار وينهار علينا ثلج الساعة المحدقة، قبل ان تنهار القباب كلها في معدة الخيبة، الخيبة التي على اكتافها اطل محصورا بين فارزتين،قبل ان تنهار الظلال التي تمد خلفي اقداما كاذبة.

الىاين يا من تصرين على ترقيع ذلك الفتق في سماء الحوار الوحيد او المناوشة الوحيدة بين الله والطاووس؟ الى اين؟ وعندي سيان ان اجبت او لم تجيبي، مادمتُ لا ازرع ولا احصد ولا انتظر مطر الله، ومادمتِ لا تغلقين ابواب السماء ولا تأمرين متاهتك ان تبلع ماءها.

تصرين. ومعا نعبر شتاء الخصومة، نخوض الى الركب في همهمات الليل ندعك الجهات الاربعة في ثرثرة الاذاعات وفي دم جيهان نصر الخفيف، ونسألها لماذا لا تمرضين وفي دمك كل هذا السكر، اكشفي لنا كلمة السر لندخل الى دمك الخفيف، اكشفي لنا السر لنرسم معا المربع الحقيقي الذي ليست له زوايا.

***

لم تنفتح عينا جيهان نصر. لم ينفتح أي سر. وبقي الحلم مفتوحا على اخر نقطة يمكن ان ينهدر منها سراب وينغرس شيخٌ في صبى جديد. وقال الطاووس لما قضي الامر اغلقوا نوافذ القمر ودعوني اسجد لمن؟ لكن السؤال بقي كمصير مجهول يتدلى من سقف الترقب وبقي الشيخ مصرا على ان يبقيها كـ "ود الريس " فوق ماسورة مدفعه الانكليزي مشبوحة حتى اذان الفجر، ثم لا ينام حتى يفيق ديك الصباح ويُجلِس الشمس على ماسورة عيعيعيعي ويبقيها مشبوحة حتى اذان المغرب، وما بين المغرب والعشاء ثمة كلمات وملائكة يدونون ويلقمون كارما الشيخ بتفاصيل جديدة من كبائر وتطلعات ما تلبث ان تفرغه في حلق صبى جديد، بينما تصنع هي نقيع تمر بنسيان جديد لليلة مقبلة ينام في اثنائها ويحلم سدى بالانعتاق زنادُ التناسخ وذيله المثقل بطواويس على مد السمع والابصار، بملائكة يصعدون وملائكة يهبطون، بأنس وجان ونيازك وحشرات وحشرجات، بحجابات ونقاط حدودية وحروب وقمر رجيم يُخرِج لسانه ويلعق وهم الظلام كلما واقعته سِنَةُ نوم ليصرخ شيخ ما:

الهي المستوي على العرش

بكيفية الفضل واللطف

اغثني، انا الغريق في غمر الجسد

انا بشار عبد الله الذي أقرئ العالم

السلام والمحبة

ما زلت اغوي الشفاه والنهود والمتاهات

التي تورث العمى

وتملأ بالحصى منطاد الروح

وتزرع في المربع زوايا الأسف

الهي،بك أسألك ان تنزل معي

الى القبر

كي اعبر واغرق في أمرك الخفي.

-6-

بريد بين قبرين

-آ-

الهي ليس الهك. الهك الهي. لماذا؟ الى اين؟ وماذا؟ لماذا ظلت الالهة تسأل، ولماذا لم نجبها وثبتنا التاج على الطاووس؟ لماذا اشعلنا فتيل الحرب وفتحنا جراح الملائكة؟ لماذا لم ينحن الطاووس في ذلك السبت الحجر؟ اذاً، لما كنا افترقنا. لماذا تجاهلنا الدموع و وقّتنا الباه على ساعة الشيخ المهدور دوما الى صباه؟ لماذا تركت الاسئلة المتشابهة تفلت من جيوبي المثقوبة وتغوص في رمال الاشاعة الخاسرة؟

تمرين على اللِّماذات والسنوات .. تمرين على الثلاثين من السلم المستند الى النبضة الخالدة، حيث تهبط ردهة الأعوام، والأعوام مكللة بقش ا لمعرفة، تملأ معدة الظروف بساعات غادرتها العقارب واستوطنتها أرانب كاسرة. تمرين على الجنون والكلمة وتمطرينهما عسلا في عيون الوهم. وأنا كم احب الوهم يا قارورة وهمي. هل اخبرتك باننا نمتلك الان مجرات من الوهم والاناشيد والامتعة والمواعيد والاحمال والجحيم والاسئلة والاجوبة وهذا النشيد:

ايتها الايام، ايتها الاوهام

تكاتفي معنا واحملي لافتاتنا

الى حيث الافواه مزمومة

بانتظار ان تحط النقاط

على

القبل.

ثم لما سفحتنا الدروب على عتبة فرح ما، هل كنت معي، وعندما لَملَمَنا دمُنا رغم انف الجرادل، هل كنت معي وعندما اعلنت:

ما كان الحَجَّاج

غير ضحية عراف

انبأه سهوا بدنو افتتاح

مصارف

للدم

بل كنت كنت .. وكنا معا نسدد للفنادق الداعرة ضربةً محسوبة على معداد الملل، اذ انفتحت عبر مسام القصف نافذة القطار السريع واختطفت في طريقها المشهد الاتي:

والتفاحة كانت مراهقة لما تزل عندما من حقيبتها اخرجت مرآة وتأنقت قبل مراودة الفم الذي اصطفت. وكانت المرآة عابثة. لم تصطبر، واختطفت من عمق المشهد نملة قاصية. الم اقل لك يومها .. مشكلة النملة الان البطالة والتسكع وخطيئة التفاحة اعظم من خطيئة امي لانها فطرت صائما قبل رفع الاذان بنملة واحدة 

بل كنت كنت .. ومعي كنت عندما همست في اذن قبرها .. اماه، ينام الجوع على رغيف الشعير ليستدعي تنورك الحجري المفقود. اماه، هل يعرف الجوع ان دمي يتضور حربا، وان ثلاثين سلاما في الدقيقة لا تكفي لكنس الظلام عن زنبقتي القاحلة، لا تكفي لتحرير الحصاد المخبوء في سنبله لسنوات قادمة ولا تكفي لان نُقَدّر المطر منازلا.

بل كنت كنت .. وكنت اريدك سيدة جدا جدا جدا كنبيلة عبيد التي كالشموع تدير ظهرها للكهرباء والحضارة وتنهدر معي في الخطوات السائبة الى نيسم المعاني والمثاليات الصامتة على طريقة انى شئتم بمعنييها كيف شئتم و اين شئتم وقلت لي سأكون الجدا جدا جدا التي تريد ماذا افعل؟ كان علي اولا ان اتأهب لتقدير حجم رثائي اليومي لهم، وهم يدخنون خيباتهم خارج موسم راهنوا عليه. كان علي ان افعل اشياء كثيرة كثيرة، عندما ارتطمت عيناي بغيمة عظيمة من عصافير ما لبثت ان تساقطت دما على الدروب والمصائر. قلت لك لابد من تسجيل هذا الانقلاب المرعب في المناخ ولكن ليس على الورق بل على رقيم طيني لنتجاوز اخطاء السلف ونفوت على النيران فرصة الوليمة. ثم اسود الصبح وغمز نجم باقصى الشمال ثم انطفأ. ربما لم يكن نجما، هل كان دمعة؟ ثم كبّت السماء براكينها وجفت الارض وسكن كل شئ ما خلا زير متقشف الطلاء ظل يفور فيه نبيذ ودم ومعلم، مغطى برغيف اسود. قد يبدأ التاريخ من هنا، قلت، وربما من هذه اللحظة المصلوبة على جوعها والمرفوعة على اسنة روحانياتها الحالمة تقرأ الجراح والصمت: كان هنا على الدوام عشاق وشجر وعصافير وخرير ومطر وانت ايضا كنت هنا وكان لي معك رغيف ابيض ابتلعته قذيفة فافترقنا. انتظرتك طويلا .. توقعتك تأتين مع امطار ايار والا فلماذا تمطر في ايار؟ قلت، قد تأتي مع ضباب اذار لاحق فجاءة مختنقا بدخان المطبوخين في قزان الصبر. لم اقنط وانتظرتك في ايارات لاحقة بلا مطر .. توسلت الى معرفة موقعك في المجرة بالشتاءات المطيرة ، بمخطوطات الروحانين، برقى الصوفيين، باوفاق العارفين، بعقد النفاثات العجائز ، بشياطين سنوني كلهم.

ثم أنكِ صرتِ أجمل من السيدةِ جداً جداً جداً وأنتِ تُفلّين شعَركِ الفاحم، السائبةُ رغباتهُ مثل دمي تحت شمس خضراء.. والى جواركِ قلبٌ مشطور الى ربيعين، وقدحُ ذهب فيه قطرةٌ من قدري. هكذا إحدى العارفاتُ بالمرايا أرتنيك، وأنا أدسُّ في يدها آخر درهمٍ درهم طافح بمصائر رُماة الطوالع . ثم سحبت مرآتها الثانية: سُفنٌ رأسيةٌ بصوارٍ ممزقةّ فوق ربوة .. حيتان ويقطينات بلا أنبياء، تُظلّلهُا رايةّ حمراء. ثم في المرآة الثالثة: شوارع متزمّلةٌ برائحة انقراض.. عرباتُ بلا باعة، رجال بلا طفولات... فتياتُ هزيلات يقتفين آثار جنود ٍمرّوا من هنا ولم يعودوا .. يقتفينهُم من رائحة القصعة الضارب كافورها في الجفاف وفي الرابعة من موقعٍ غائم، تتلين عباراتٍ مدعوكةً بهدير الكاز -66، وتنطفئين مع انكساف الشمس الخضراء.. وأراد المشهد أن يكتمل لحظة اقتحم المرآة غرابٌ غاز. كان متأهباً للأنقضاض على قطرة قدري في قدحِ الذهب. واسودَّ الحلمُ أيضاً .. وغمز بأقصى الجنوب نجمُ ثم أنطفأ. كانت معي دمعتان وحروف متوهجةً بكينونتي عندما أهيلَ عليّ التراب، ونزل الله معي الى القبر لأعبرُ، دون أن أراك سيدةً جداً جداً جداً!

-ب-

تحت شجرة دايانا

دفنت ثيابكَ لأستريح

هُمُ الذين خططوا لسلخي في عيدٍ زُحلي ليقدموني نيئةً أمام مُترفي المدينة الجائعة.. أما المتلصصون الغرباء، فكانوا يقتفون نظرتكَ نحوي إنجاً .. إنجاً.. ويرفعون سماءً من حقد فوق أحلامِك الدافقة كنبع.

تدورُ دواليبً الهباء وتغريني بالدورانِ معها، حتى وجدتني بينكم موتاً .. قتيلي دائماً مُجرمُ وقاتلي نبي . مرّةً نبّأتني الراياتُ السود، إذ ضربتُ تختاً في رمل الحيرة: ثمة حلمً سيستقر بين رأسكِ ورقبةِ الغيب.. هل كان علَّي أن أضحيّ بدموعي. إذاً ، كيف سأكون الجداً جداً جداً. كم مرةّ ومرّة، حاولت اللجوء الى جسدي لأداعبَ متروكاتهِ ريثما تعود. أنت عند الساتر وأنا هنا. وما بيننا طوالع متقاطعة. وكم كان في ودّي أن يرتدي غضبي عليهم ثياب حرب كي أُرسِلهُ مدَداً اليك، أو أن انقلبَ الى رَجلٍ لئلاّ أشعرّ بخسارةِ جسدي. كيف لا وأنا التي آثرتُ الاحتفاظ بودائع فحولتِكَ حتى تعود.

هُم الذين أصابوا وردتي بالعين .. ورشقوني بجرادل الجوع .. لم يتركوا لي شفةً أقّبلُكَ بها. وكان هَمهّم الأوحد أن يزرعوني في طريق تكرهُ السير فيها، هكذا .. فقط لينفجر لغمُ حيرتِك وليَضيئوا الشوارع المعتمة بأحزاني وأسمعُ حفيف قلقِك : أجملُ ما فيك أحزانكِ .. وأجملُ ما فيَّ عشقي التشرد خارج الوضعيات. هل تعرف أنني فكّرتُ مرّةً بأقتناءِ هيكل عظمي أو ربما جثة لِمَ لا .. ما دامتا السلعتان الأرخص بميزان العرض والطلب. وكانت خطتي أن أُدخلها خلسة الى حُجرتي و ... فلماذا قُلت لي: إذهبي الى الصمت وتركتني معّلقة في أنشوطة الحيرة على أيّ تعليقٍ هو الأدق على مصيرٍ فهتَ به . لماذا ؟ لماذا؟

- جـ -

في قبضةِ المنسى

تستيقظُ زُرقةُ المناديل

وتولدين من جديد

تحت ظلالِ الحرب.

تذكّرتُكِ كثيراً وأنتِ تعنفينني على سلالم الهندسة. أنا دودي ... دودي .. دودي .. ومع ذلك كانت الغرامةُ أن أدفعَ حُضرةَ أياّمي لكائن الحرب الشره أبداً .. هذا ما أعلنتهُ أيضاً للزنابق البرّية، إذ وجدتُ من المستحيل أن أعيش الحُزنَ وحيداً، وحين تلفّتُ حولي، إثر دويًّ غريب، فتحت لي المتاهةُ بوّاباتها ونوافذِها ودعتني للدخول.

ساقاي أوهنُ من رغبتي .. وكانت تُلحَّ في رأسِ الخوف فكرة الاحتماء بيقطينة بعيدة عن جبال لا تتوب. ليس فزعاً مما هو آتٍ، بل رغبة في متابعة المهزلة، مع أنني كنتُ أخبرتكِ في ذات متاهة وحب بعيدين بأننا وريثوا ذلك الفتى الآشوري الأسمر بقوة الجينات. أيتها السيدةُ جداً جداً جداً ... لماذا نموت .. وقد أصبحتِ جداً جداً جداً؟ لماذا نحن بالذات ؟ ثم أني سئمت الأنشطارات والجهات .. يوماً ما لا بدّ أن أبوح لعزرائيل في لحظة الغرغرة بسري، نعم بسرّي الذي تعمدتُ كتمانهُ في حياتي لأبقى..

لاأدري إن كنتِ نائمة الآن على قلقي، أو كعادتكِ تطاردين أنصاف أحلامٍ بترها أزيزٌ خبيث كثيراً ما رأيتني دمعةً تنزلقُ من خدّكِ المحتقن الى السماء. لماذا أنامُ وحيداً، وتضاجعين أنتِ أعوامكِ العجاف، وتُضمِّدين اخر يوم ضمنا قبل ان تلقمي به فم بورصوي مُراءٍ لقاء رغيفٍ يابس. لماذا؟ وأنت التي تُرددين: :"كوخ صغير يكفي" كُلما ضّمنا حُلمُ داخل برواز رغبة؟ أعرف أننا كنا لسنوات نرسم معاً خارطة الحلم على ورقةٍ، بكلِّ ملحقاتهِ من الإبتسامة إلى عبّاد الشمس. لكن البرد كان قاسياً، صدقيني، وكان الجوعُ أقسى .. لم يكن أمامي خيار سوى أن أأكل نصف الخارطة وأحرق نصفها الآخر لأتدّفأ. أعذريني فانا لم أرِد أن أموت. ولكن ظلّ قلقُ حتى الساعة يثقبني هذه الطائرات لا تسقُط. لذلك سأشربُ الليلة زجاجةُ كاملة من العرق المحلي كي أرى الطائرات تسقُط.

-د-

لن أغفر لك أيها القادم

من صحراء الألفة بكذبةٍ فضفاضة

لتعُلّق طفولتي المتأججّة على جدار الغروب.

مَن أيقظني وأفسدَ كُلَّ شيء. كنتُ قد أعدتُ الضمادة وضفرتُ الأقحوان .. ها أنتم دائماً تفسدون عليّ لذتي قبل أن تبلغَ الحُلُم، وأصير جداً جداً جداً ، مَن سيُضمّدُ هذه الفرس المعُطلة ومن سيُزيّنُ رقبة النخلة التي تظلَّلها، بقلادةِ أقحوان؟

رأيتً صغيرتي التي كان يُمكنُ أن أنجبها منك، لم تقرأُ قصيدةً لصديقك الحمار وتضحك: ماما .. أريدُ مقبرة ! ماذا تُسمّي هذا ؟ لماذا لم نُفكرّ في أخفاءِ أحلامنا الكثيرة داخل عش لقلق ؟ سنقول : خفنا عليها من الطائرات وأقول لماذا لم نفكر في حفرها على مسلةٍ نختمُها بقبلةٍ مشتركة، أو ندفنها معاً في الجناح الرابع من مقبرتهِ ؟

ها .. قد نفذتُ خطتي رُغم أنف الجميع .. وصرتُ كما أردتُ .. بلا جذور .. سيدةُ جداً جداً جداً وجداً أخرى لتسقط نبيلة عبيد عن منصةِ تطلُّعِك. حتى مسوّدات أحلامي أودعتها قلب تلك الجثة الحاملة أسمي، قبل أن أضرم فيها النار. أفكرُ الآن في الكتابة. ما يُحيُرني تحت أي أسمٍ أنشرُ قصصي ؟ أأنشُرها بأسم جندي مجهول أم بأسم درويش ويلزي، أم بأسمِ كافرة ؟

وحدك المسؤول عن موتي. غرست في عُمري الهديل وبقيت تنتظر حصاد الحمام، وكان عليك أن تكتفي بالمرور، بدلاً من أن تلقي اللوم على قذيفةٍ بلعت رغيفاً وشرّدتنا ..

أحياناً كثيرة أكرهك .. قاسٍ أنت .. لا تستريحُ الا علىّ قلقي. وحين اتعب. تبعثُ قلبك في مُهمةٍ تُسميها رسميةٍ لتكونً مُسوّغةً خُطوتُك اللاحقة، وأنا على كتفك كحقيبةٍ مدرسية : هيا لأطأكٍ! لماذا لا تبحثُ في قواميس العشق عن مُفردةٍ بديله ؟ ٍأعترفُ بأنك ذكي وبأني طيبةّ. ولن أقول أنك نصف خبيث وأني داهية. لكنني لكثرةِ ماضاجعتني الفصول والعقول والاحزان لا أجد إلا أن أُحِبَّك . كنتُ في طفولتي أسمعُ صوت انفجارات في داخلي. أهيَ بالونات تغزو جوفها شتاءاتُك؟ وحين كبرتُ، عرفتُ أنها امنيات أكبر من هذا العالم، لذِلك آثرت الموت هناك كابنتنا المستعصية على الخروج.

أيها السّيدُ جداً، في نفسي مقابرُ لضحايا لم يبقِ الحصارُ منها سوى هياكل وهمية، تحومُ جماجِمها الأليفة المعذّبة حول روحي في الليل .. يا سيدي جداً جداً، لن أرتاح حتى أُطلقِكَ من ماسورةِ عُريي، الأطلاقةَ الأخيرة في رأسِ هذه الفوضى.

حتى أنت الذي تصورَّتك كاهناً يقطعُ أصابعهُ قرباناً لأنعتاقي، حاصرتني بسورٍ من أكاذيبك وهكذا ..بين ليلة واختها ،صارت الصبية عجوزا تتعكز على حلم لم تبق منه الارضة غير قبضته المعقوفة تحت اصابع رغبة ابدية خلف القضبان .

-هـ –

سماء تتوسد لثغة طفلة

كيف لا اقذف بروحي

في زجاجة انعتاق !!

تصفّحتُ أسفار عدداً .. عدداً، مُنذ أختفائِكِ، وكثيراً ما توقفتُ عند باب الأفوه الأودي أقرأه حرفاً حرفاً ، وأقلبُ الصفحة الثانية لأتكّهن صورتها في المربع الفارغ..

هل ستأتين من طبقاته المضغوطة برعد كبير .. كبير حقاً ؟

تضحكين ضحكتكِ الباردة كالآزبري، أذ ترين تيار الليزر يتشكّل حبّةً حًبةً ويُطِّوقُ عُنق الشوق الى ظهر جداً جداً جداً يواجه الكهرباء والحضارة بلا مُبالاة .. تضحكين لأنهُ يُفاجئُك بغتةً بأن "نَصكِ" ليس قصةُ، ليس قصيدةً .. ليس ليس ولا ليس، ولا يعرفُ أنكِ "قُصاصةٌ" جداً جداً جداً وبالفطرة . ومع ذلك تحبينهُ .. لأنهُ هو هكذا ..حمارً مُضرَّجً بدم الآلهة، الى يمينه تمثالُ يأس، والى يسارهِ تمثالُ مطرّ نَحتهُ سبعينيٌ مغبون.

أسيرُ بين خرائب الأعشاش التي عبثت بها قطةٌ خؤون وبال على سمائِها الخواء .. أسيرُ مع باشلار باحثاً عن رغبةٍ في اقتراح تعاويذ بديلة وألوان بديلة لُحلمِ لحظةٍ ستجمعُنا كان يُمكن أن أنتصر على الآلهة واحتكر الشُعلة لخليقةٍ مُقبلة ... لولا صرخُتكِ ولولاها لأكمل ذلك الفتى الأشوري الأسمر روايته الجديدة المتوقفة خوختها على أنفاس الطبري. ومع ذلك سأبقى أفتشُ لك عن أعذار ، إذ ما جدوى أن أكون إلهاً ..

إهدئي .. واُسلخي رغبتي عن الأشياء لتنعتق، عندها لن أحتاج الى ساعةٍ فوق جدار الضجيج، أهدئي كي أُعقلن أنتشاري في جَسدِك المجنون.

-و-

للحارس النابتة خطيئتهُ

من مقارنة الليل

بقروية حزيران الأجرب،

أقول بلا تردُّد

حذارِ. إنّ فراستي مُصفّحة.

يضاجعُني الجميعُ في أحلامهم، إلاّ أنت، أيُّها السيد جداً، تريدُني طبقاً من جنون تُعالجُ بهِ شفاه عَوزٍ فيك. تريدُني ، عاريةُ مستنفرة النهدين، ليشبع جُوعك العاقل. المحك دائماً تتلصص الى فخذيَّ البيضاوين وتتحسرّ. ياللسُّخرية. جزيرة يزحف نحوها بُحر عذاب ويرتجف. أليس هذه جريمة الجغرافيا. لا أكرهك .. ولكنني أعشقُ جنوني والمجانين حولي. أُمُّ المجانين أنا .. سأهتَكُ رزانتكَ المصطنعة وأمضي الى الليل في ساعة القمر أغويه بساقيَّ مقابل أن يكُبَّ محبرَتَهُ فوق بياض سريرتك. لماذا أنتَ خام هكذا؟

سمعت مشورتك يومها، وذهبتُ الى سنوني. قلتُ لهمُ الكلُّ يضاجعني في الأحلام إلاّ هو. فردّ شيطان مقتدر : حُلمهُ أن يطأكِ في الحيض. فرحتُ قلتُ، أذاً، فقد خطا خطوتين الى الجنون. لماذا لم تفعل . باعدت بين ساقي حلُمُي وأريتُك الوردةَ الجداً الجداً جداً .. فلماذا عزفت؟ لماذا استعنت بالماء المُثلج نكاية بالوردي المُتأهّب المُلتهب؟ لماذا .. يا من تحاورُ الحائط بدلاً منيّ .. لا لشيء إلاّ لتُقنعني بأن النسور طيور أليفة .. هكذا ؟ لتحشُر في رماد الورد بعض مراثيك ؟ !!

- ز –

هذه الليلة، سأشِعلُ سيكارتي المائة، وأعبُّ زجاجة العرق المحلّي ذات الرقم (36) قبل أن أبدأ. فالمغامرةُ تتطلبُ عقلاً منعتقاً وقلباً مُحزماً بسيور الأمل. أما عن المهمة التي أنا بصددها، فأنها تبدأ بأعصار حقبي. ماذا أفعل، وقد شهّرتِ بي أمام الجميع وأظهرتني في صورة العاقل .. من منحكِ حق اعتلاء الجنون واعلان الوصايا على رعيتي؟ كان ذنبي الوحيد هو جلدي لك جلدةً في كل هزيع .. وها أنتِ كعُميرةَ أفسدتِ العرش. أكلّ هذا الذي تفعلين، لأنني أكلتُ نصف خارطةٍ رسمناها معاً، وأحرقتُ النصف الآخر لأتدفّأ؟ كم مّرةّ أعتذرت وقلتُ كان دافعي برئ : لا أريد أن

أمو و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و و تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- ح -

أصرُخي أيتها الياء

لنُحطمَّ معاً

دكتاتورية الأبجدية والنبجدية

في حضيرة الأوهام المدرسية

الآن ، سأفشي لك سِراً :

عندما جاءني في ذلك الليل الأياري الذي أمطر صبحُهُ عصافيرَ ميتة، نَفضَ حُلمَهُ ثُمَّ علَّقهُ قَربَ النافذة. ليجفُّ؟ كان مُتعباً. غلبهُ النوم . مرّاتٍ ومرّات حاولتُ معه. أيُّها الجداً جداً جداً، أقف وفوّقني .. لكن شخيره ظلّ أكثر بلادة من ذلك الدبوس الذي اخفقت أنت في انتزاعهِ من قميصي الحريري. وحين دسستُ يدي في جيوبِ حُلمِهِ العشر المنتفخة كجيوب مُزارعٍ في حُزيران، لم أجد غير عشرة رغباتٍ في النوم. أيّها الجداً .. سأقتلُك. لم يكن لي خيار بعد أن تجاهلني في حُلمه. وفي غصون لحظة سال دمهُ الابيض على السرير وانسرب.

***

قد يحجبُ غربالُ عنيدٌ فحولة القمرَ

ويطارد النجوم من بحر الله

لكنّ عود العاشق

لن يكُفَّ عن الثغاء ..

....... وكنت في السنوات البكر تُطلُّ وتختفي مثل أُغنية لم تتفق عليها ذائقة جيلين. شجّعتني على الهرب. إشتعل قلبي وأنا أراك في حلقة الدراويش والمعلِّمين تُدَوزِنُ غرائزهمُ وتمدُّ جسوراً طويلةً طويلةً طويلةً، تبدأ من أعماقي ولا تنتهي بنهديِّ المنتصبين. لم كلّ هذا؟ وتُعلن في الملأ، أنك تحملُ الصحراء من أجلي. أي صحراء هذه التي لا تشطُفُها المحيطات ؟!

ألمحُ في عينيك على الدوام رغبةً تومض. دائماً هي أنا . تنفضُ ربيعي مثلما تنفضُ ريحٌ خريف الشَجَر. لماذا تحُبني في الخريف؟ تحملُني على أكفِّ من شوك وتُقطّعُ ابتسامتي لأن دمها يُغريك. أعرف أنك وعدت نبيلة أو أصالة أو أمرأةً جداً جداً جداً بقلادة من ابتساماتي. كم مرّةً أتيتك أشكي حُلماً تجاوزك في منتصف الطريق الى نومي، وألقاك تتطلَّعُ إليَّ من حُفرةِ لحنٍ ناشز. حقدتُ عليك حدَّ أن رأيتني أكنِسُ البلاط تحت سريري. كُنت لي جناحاً، ولو أردتَ، لصرت لك المشارق والمغارب، تحبُّ منذ عرفتك أن تُنافسَ إلهاً ... لم لا ... وكنت تُريدُني رابعة .. ولم لا تقفُ خلف النافذة وتأمر بـ نامي . وأنام تعرّي. سمعاً. عودي كما كنتِ .. طاعةً .. خفّفي كوب عرقي بدموعٍ حقيقية .. إذاً إجلدني لأبكي بحرقة .... أقسى، ويمتلئ كوبُك وتسيح الدموع وتمتلئ الغرفة الى العنق.. أغرق .. وتبقى خلف النافذة تتلمظ الى مشهد غريب. تعبُّ عرقك الممزوج بي وتفتح النافذة لا لتُنقذني، بل لتخُذلَ الموت في ذروة الأنتصار.

- ط –

تجنيت عليّ. لم أُشجعك إلا على الجنون. أنتِ التي إخترت ان تكوني وحيدة أطفأتِ جمرَ بدايتي على سُلَّم الهندسة وتركتِ الأصغاء عارياً في شتاء النداء. وبرغم ذلك، بقيت، أنتظرُ النهارات المرسلة ببريد الليالي .... ثُم أنتقلت من طاولةٍ الى طاولة حتى وصلت بريد النهار. أمّا عن الدموع والسياط والعّرق، فتلك من مستلزمات الجنون الناجح أم تراكِ قادرةً على تصور مجنون لا يضرب ولا يِعدً حبيباته - وكُلُّهن سيدات جداً جداً جداً. . ،بقلائد من ابتسامات عاقلة؟ اليست أعناقُ الجداً جداً جداً أحق بها من مداسات الأحذية الثقيلة.

مِثلهم أنتِ … لا تحبين المجانين . تفزعين إذا حمل اليك أحُدهم زنبيلاً طافحاً بالوعيد . كم كان في ودّي أن تُصفّقي لي، إذ تنهالُ أمنيتي بالسوط على فخذيك .. آه لو تعلمين كم أكره الأبيض الصفر.. أجلدِهُما لأبثّ فيهما الوردي المفُضّل لرجولتي ولأبعد عنهما نظرات البورصويين المتخمين بالخبز الأبيض الصفر. أعيدُ لهما الهيبة، وإذا بك في الصباح تسجلين ضدّي عند أقرب مركز شرطة دعوى بتهمةِ آكل لحم البشر.

يا للفظاعة .. أحدِّثُك عن الفتى الآشوري الذي كان يضاجع مائة امرأة جداً في ساعة واحدة، فتحدثينني عن أقلامٍ تريدين إنجابها، لماذا أنتِ عاقلة؟‍

-ي-

أشقُّ طريقي في فكرة الموت التي تخشاها، وأتذكرُّ كل شيء .. دودي الأول، ولهفتي عليه في نفق باريسي، وأستعيد مشهد لُعابكُ السيّال تحت أقدامهمّ الجداً جداً جداً .. صوفي مارسو، أسمهان خوري، روزي عبده، فاطمة بن حوحو، دليلة بن مراد، نجوى كرم، لطيفة، رندة جدعون ، نبيلة عبيد جداً جداً جداً وآخر العنقود جيهان نصر.. ما الذي أبقيت لأصالتِك .. لي .. أنا أصالة ... دايانا ... و ...

دعني أتعرّى الآن وأريك الجداً جداً جداً وجداً ..

***

تأتي وفي أعماقك حُزمةُ رياحٍ مربوطةُ بخيط دم، لتُعلن في آخر لحظة أنك وجدتني جداً جداً جداً .. وحين أصدُّك بدافع التدلُّل، تقطع الخيط وتقضي عليّ بالنفي الى ما وراء الحكمة. لماذا لم تولد مجنوناً مثلي ؟ لماذا تُذلّني. ألانّي عودتك على النزق ؟ أسحب الغيوم ساعة البرق وأضعُها فوق رأسِك وأتضرع للرعد أن يثقُبها لُتمطر . ماذا تريدُ أكثر .. وأنت تُصرّ على جمع خراجك دون عناء ! ماذا لو حملت الربيع مرةً واحدةً معك؟ مرّة واحدة، وزِّعهُ في جيوبك واصغ الى يدي المحترقة بألسنة الرغيف الجائع، بدلَ أن تُدثرني بمعطفِكَ العسكري ذي الجيوب الكثيرة المثقوبة وتتركني عند الطرف الثاني من الجسر في ساعة القصف لئلا أعود.

 

-ك-

عند بوّابة جسر عتيق. أنطفاء هو الوقت. ومن حيث لم أتصّور، تخرجين عليّ بقوانين كلاميةٍ لا يفهمها السواد. لماذا ؟ تُحدثينني عن أناسِ مًسخوا ديكةً، فيغصَّ الجسر بالمناقير مناقيرُها، تقولين، طويلة تتراوح بين المتر وبين السبابة، فتحاصرني مسافات مُدببةٌ من كل جهة. وتصّرين على إرسال كاهن بلا أصابع خلفي ليقاطعني : ليس من حق المجانين بث الأشاعات. سألقّنُك درساً في الضبط العقلي يقدِّم لي طبقاً فيه دفاتر تذاكر بوضع الأستعداد تقف، وتذكرةً تقطعُ لكل عابر.

وهمُ يُمرون .. بعضُهم يتملّص .. بينما تتخذين مع أجتيازهم صمتَ متعبِّدٍ من أزمنةٍ ما يزال بعضها سابتاً في ضمير المخطوطات، وتلتحفين نوادر شتاءاتي. أنبهُك : قد يُهرَّبُ أحدُهم كاميرا مفخخةً بالصلافة، وعوض أن تساعديني، أراكِ تعدينهمُ واحداً واحداً .. تقطعين تذاكر بعددهم وتدسينها في جيبي الأيمن ثم تخرجين من الأيسر دراهم ثلاثة صرت تجيدين رميها في قعر النيّة المُبيتة. ثم باشارةٍ منك أدخلُ. ما هذا ؟ بوابة مبنى قريب . جمهرةٌ وممر طويل طويل باتجاه حجرتين. في الأولى جمهرة ديكةٍ يتناقرون. وثمة ثلاثة ديكةٍ ، في الجمرة الثانية، غنادير بربطات عنقٍ حريرية في طابور صارم الى يمينه معقدٌ شاغر يدعوني: إجلس . وأجلسُ إستجابةً لأيماءة ثانيةٍ من منقارِ جاد.

كل ذلك حدث فجأةً. وحين التفتُ لأسألكِ تفسير ما يجري مرقت غيمة سوداء وابتلعت المشهد. أين أنتِ؟ وصرختُ: أريدُ سِلاحاً لأرى

أما عن الجسر، فقد ظلّ مضاءً بذوائب آخر كلمةٍ لم تنطقيها. كنتُ وحيداً تلفحُ وجهي نوادرُ دافئة وتتقافز .. وتتقافز حولي أصواتٌ هرستها طواحين التاريخ، تماماً مثل جنيّاتٍ رُشقت عيونُها بتراب نار. خمّنتُ أنها لجنودٍ بطرابيش، وآخرين بعمامات تعلوها الريش.

كل شيء خرج مع أوّل زفرةٍ ولم يعد. يا سيكارة عمري التي تحترقُ ويخرجُ من شفتيها خيط دم طويل .. يا دايانا وجيهان جداً جداً، إنطفئي الآن، فقد بلغتُ الطرف الآخر، والنهرُ تحتي على غير العادة يجري، في اتجاه معاكس، حاملاً وجهكِ المختوم بقرار الرحيل الى أزمنته، ليتركني مُعلَّقاً فوق الجسر بلا زمن.

 

القسم الثاني .. عبد آبق وقسيسة وسيدة

-1-

من قلعة المصائر المتقاطعة خرج الفارس الموشى بالحظوظ حائرا، كما دخلها أول مرة قبل تسعة وثلاثين عصرا، يسبقه الى أبوابها الأربعين رفيف الوصايا المرتبك في رؤوس نواياه.

كان ذلك عندما اختلف مع سيدة الكؤوس حول منقذ العالم من الضلال. يومها احتارا من أية باب يدخلان بحثا عن حكيم أوحد قيل إن مفتاح السر مودع في قلبه. أربعون بابا، والسؤال واضح، والحكمة مخبوءة في مكان خمره التناسي بالعزلة. خرج حين طالت به الأسفار ولم يجنِ غير ثقل السؤال والحيرة، لا الأقدار المزروعة في أوراق التاروت تفصح، لا الهواء المحقون بسحر سيدة الكؤوس، لا المقابر الطافية على امواج السكون، لا الدوار المضفور بالزنابق. كل شيء ظل منغرسا في اوحال اللغز الاول الذي ما كان لينفتح الا على نهارات تحتج وليال تتمون بصلوات مبتورة وسكارى وخفراء وصمت.

بدا كل شيء على حاله، ومن قلب الضجيج النافر انطلقت شاحنات فجر له صرير.

كان المشاة على الجانبين يقضمون الاميال الممتدة امامهم كأفاع امسكت باذيالها قنافذ ماكرة، وثمة شاحنة عجوز تنبعث منها رائحة موتى تجر خلفها ثلاثين محاولة لاقتحام العجاجة الكبرى، حيث اليافطات معلقة في سماء السؤال العتيد: متى سننتهي من كل هذا؟، وحيث الظهيرة تواصل انتفاخها كجثة جواب متروكة على قارعة الرغبة في خلاص ما، أي خلاص يمكن ان يفتح للساعات المتململة مسربا ولعَرقِها الدافق كمصائر المحاربين نحو شاهدات لم تزرع بعد.

كانت ارضا بورا يرصف الموتى فوقها احلاما مبتورة ومؤطرة بشاشات حساب عسير، ثم ينظرون الى الرصاص يمر لاهثا، وكانت الشاهدات تنبت في حقول لا حاجة بها الى فزاعات وتتأمل النسوة عند طرف النهر الاخر وهن يغرفن منه ويضعنه احمرا ادكنا على شفاه فقدت ذاكرتها وتقمصها صمت نافق تماما كصمت الرصاص في الجثث. وكان الرصاص يمر: مطر الهداية المرسلة عبر بريد الموت، والكل يتساءل: لماذا لا تشيخ الحرب؟ ولماذا تغرف النسوة والأطفال والاماسي الواهنة دخان الحيرة واللهاث وراء السلام؟ والكل تساءل: من ترى يكون هذا السلام الذي يلبسونه ثوب نبي مات في الثالثة والثلاثين، ويغرسون أخباره في كل مكان، ويشعلون له الشموع في الطرقات وعلى الشرفات المستفزة على الدوام، ولا يأتي.

كانت السماء لما تزل مختومة أبوابها والملائكة على عتباتها صفا لا يتكلمون والأدعية تنطلق نحوها عبر مواسير الصبر النافذ وتصدم، لتخر على اعقابها وتتهشم. وكانت الشاحنات تمر، والمشاة يأكلون الاميال ويلعقون ما تكدس فوقها من ذرور الادعية الخائبة في الجبال والضواحي والصحارى والانهار، كل شيء يتكلم بلغة واحدة ساعة تمر الطائرات عبر شوارع مبلطة في سماء لايزدحم فيها مرور ولا تعمل صفارة الشرطي.

بالساعة الرابعة بعد الدفن، انفجرت اول قنبلة خانها ذكاؤها فتهشم السكون في قلوب الدفانين، وهم يجمعون اخر ما تبقى لديهم من حنكة في اصطياد ولو ساعة نوم من بحر الارق، تعاونهم نساء كاثولكيات كنا يحملن على كواهلهن اطنان من الهلع المعلم بـ ((يا امنا العذراء)) نكاية بحياة فقدت بكارتها في المراهقة وارتدت احمرها وفتحت ذراعيها للجنائز. كانت الخطوات المتأنية بين جموع المعزين تفضي بالفارس الموشى بالحظوظ والسيدة الى فضاءات هادرة وجدران غاضبة وطقوس مزاجية وامطار ملجمة. قالت له في همس: مكتوب في الكتب انه المعزي وقال لها بل في الكتب هو المُنحَمَنّا او البرقليطس ((هذا الذي يرسله الله اليكم، اذ لا بد من ان تتم الكلمة التي في الناموس)) ثم اشار الى المعجمين اليوناني والرومي والمحايدين، وجال بها على الدراويش والتكايا وأهل المدد والأنبياء الذين سبقوا ولادة ذلك الجدل، لكنها دست أصابعها في آذانها وأغمضت عيونها وبصيرتها ليظل الاسم المتمم للكلمة مرفرفا في الاثير والمعجمان رازحين تحت إصر التجاهل. وحين سوي الملايين بالتراب وتفرقت الحشود، طلبت إليه ان يحتكما للقبور. وسألها: أفانت مسمعه من في القبور؟ وأكدت له بأنها فاعلة.

كانت سماء المقبرة قد نسجت في الحال بطيور وحشة فاحتجبت الشمس وتعالى صرح من الصمت ملفع برعب واختناق. نادتهم: يا أهل القبور: لكن أحدا منهم لم يرد. كان الملائكة قد سبقوها وانطلقوا بهم الى السماء، كلاً طائره في عنقه وتراصفوا جميعا امام ابي البشر الذي تقبل منهم عند باب الحفظة من تقبل على مرأى من ظروب الملائكة، ورد الباقين فأفلتوا كما يفلت حجر ليستقروا في قبروهم.

كررت السيدة نداءها: يا اهل القبور: هل من يحكم بيننا؟ المعزي منقذنا ام المُنحمنا؟

كان الموتى منشغلين في ردود صعبة ازاء ملكين مريعين رأساهما في السماء وقدماهما في القبر، ودَّ واحدهم لو يخرج من قبره لحظة ليقول لها الحقيقة او ليسأل عن الحقيقة الدامغة قبل ان يجيب.

***

دائما يجد القلق ثقباً يتسلل منه ويلتهم ما يطفو من فقاعات ترقص على سطح النعاس. كان القصف ثقيلا وكل شيء يرتجف سوى السقوف صرخ الفارس ايتها السقوف الست خائفة؟ لماذا، اذا ترتجف تحتكِ الجدران؟ امن هول السؤال الوحيد المكرور على اهل القبور؟ ماذا لو سقطت الان طائرة؟ وكان ثمة صوت هامس من قلب المقبرة الكبرى يرد عليه: لتسقط اولا، لتسقط وليكن بعدها ما يكون.

كانت الاشاعات تغادر الزوايا وتقتحم عزلة الاذان المسترخية وتبعثر وشيشها بين العلب الفارغة والنفايات. لحظة، لحظتان وتكتظ الندوب فوق الذاكرة الماكرة، وتهز اكتافها الصور التي جمدها البرد ليال. وانت يانافذة الفارس من سيجيء اليه بالوطن محمولا على هودج مصفح ضد الرصاص والحسد والخلافات التي لن تحسمها سوى حكمة وحيدة ضائعة، ومن يحشر بين وسطاه وسبابته لفافة من اخر ورقة تبغ اقتطفت قبل الحرب ليرتب على ايقاع دخانها ما تشابك من اقاويل واشاعات ووقائع لم تمهله المحن في عزلها وتبويبها لعصور لاحقة كان يدرك كم ستحتاج اليها لتقفز عبر جريها السريع فوق موانع الزمن باقل ما يمكن من كبوات، وعندما انتبه اثر دوي بعيد بعيد، وجد منزله في الشمال وقدميه في الوسط ومصيره رهن حلقة حمراء على خارطة عانس.

لم تكن بينه وبين القادمين ستائر رغم ما تصاعد من سواتر وما امتد من حقول الغام. وكانت العصور تمرق من امامه وتستجير، ولا مجير، والفارس ينظر من مزغل ينفتح كعين حسود، ويسأل عن الرصاص وعن السيدة الممتحنة في البعيد. لا نقود ولا خبز ولا يقين، ثم يفكر بالصفح اذ يرى الاضرحة تنهض فوق براري الروح وتفتح بواباتها الامنة للارامل والثكالى، وتملأ جيوبهن بحلوى الغائبين عن الليالي والاسرة الباردة قبالة صور النجوم المعلقة على الحيطان؛ مايكل جاكسون المعشوق قبالة سريره في البيت، وقبالته في الملجأ تقف شارلستون كما ولدتها امها دون ان يعلم بهما احد، ولا حتى الصبايا اللاتي كنَّ يضرعنَّ الشوارع والاسواق باجساد اشبه بحقول الغام ما تلمسها حتى تلعلع في فراغ السؤال عن الفحولة والنسل والامان.

من قلب المزغل المتيقظ، رأى الفارس اعوامه الجوف تدخل الكهوف الرطبة وتخرج بدليل مضاف على دوام الصحة والرجولة المؤجلتين. كان قد نجا من زلازل كثيرة عبر الاجازات، ولكن الزلازل التي سَرَّبَها كانت اكثرٍٍ.. وكانت جميعهن تجري نحو كروشهن المنتفخة واعناقهن المطوقة بحلي رخيصة وبأخر صيحات التنهد والمواء القادمين اليهن عبر اقراص الليزر؛ يضطجعن واذرعهن تحت رؤوس تضجُّ بالديون وصرخات الاطفال الجياع وجُباة الايجار، والازواج العاكفين خلف المزاغل من اجل استقبال الوطن سالما غانما مدفوعا عنه البلاء والغلاء.

كُنَّ مازلنّ يلتقين في صالات الاستقبال؛ يدٌ تُشعل سيكارة واخرى تملأُ كأسا جديدة لتشعل بها العمر المحصور بين سبابة الغيب ووسطاه، والعينان تواصلان نحت العابرين. وكان العابرون يحملون زنابيل صبر وحرب واختناق. مضى زمن على حملهم زنابيل الخضار والخبز والحب والرغبة في الجري الى الحقيقة. كان الفارسُ قد عَمَّر مدفعه الى العنق لحظة سحبت ملابسها، وحين رأى التجاعيد على الكتفين والندوب على الفخذين والظهر، ارخى المدفع وأطلقها خارج الاحداثيات. هل يدري كم أصاب ومن أصاب؟ وانطلقت الاسئلة على شفرتي لسانه الطويلتين كقطار آهل بالجنود لا تستوقفه المحطات ولا يأبه به احد سوى العُزلة. ماذا يمكن ان تنتظر منه سوى كفاف يومها! ماذا ينتظر من الدنيا بأسرها غير الجريدة، ليقرأها ثم يقتطع منها صور الجميلات العاريات ليطلي بشبقهن حائط الملجأ علَّهُ يحترق! هل ستدوم هذه الحرب ايضا؟ هل سيسند اليها –هي- رأسه في اجازة قادمة؟ ولكن ماذا لو دخل قبرا اعزلا ووجدها هناك؟ لو كانت معه دمعة واحدة او قطرة دم مدخرة لقوَّس بها ظَهرَ الحقل الذي صارت تنبت فيه الألغاز والشاهدات. والاولاد المختبئون خلف العناوين البارزة في صحف الحرب، من ترى سيمسح وجوههم الخائفة بمناديل دافئة ويلف ارواحهم بحذر الحقائق. يوما ما سيفقهون الكثير عندما يرون ثوب الصبح الممزق وجسده المحترق والموتى وهم يستيقظون تحت زخات المطر.

لو لم يجلس خلف هذا المزغل، من تُرى سيصدق كم هو دافق فراغ المحارب وكم هو مكسَّرٌ على صخور الوحدة. مَن سيصدق انه محض رجل يذرع الارض، عين على الساتر وعين على الصور العارية، وقلبه محصور في ذات اللغز الموشى بأحلام لم ترسُمها له يدٌ من لحم ودم. بل مَن سيصدق انه هو نفسه محض حلم في رأس العزلة النائمة. ربما سيجد من يتذكره حين يتقاعد عن النبض والألم الذي تجرعه داخل الجرّة المصوبة تحت وابل النار. كانت المسألة مسألة يقين بانبعاث الاصدقاء المدرسيين والعشاق الذين يمضون لياليهم من أجل ان يدوّنوا على مئات الصفحات الخائبة كلمة واحدة تلبي رغبة القلب واللسان والباه، فينتهي بهم المطاف الى الغرق في أبحر من الهلوسات ومدامع الروح المضاءة بعيدا بعيدا عن عتمة الغائبين.

أمّا هي فكانت تحتفظ به على الدوام طازجا كرغيف في زمن جوع وعوز وكوارث. قالت له شأنك وما تفعل، انا ايضا عندي معجزاتي الكثيرة وقاراتي التي لا تغيب عنها الشمس ولا يماطلها مماطل. انا القادمة على قارب لم تقوَ على ملاطمته العصور واقوام الدود المتناسلة وراء فكرة العوم ضد التيار والمعابد والكتب والانبياء. أمُدّ يدا وأغيبُ الشمس عن المدينة البعيدة وأمسح بيد منزلنا القديم فأحيله محض صومعة في منتصف الطريق بين مكة والشام وافتحُ فمي وأطلق الحروف:

بـ … ح … ي … ر … ه، ومع ذلك ستبقى خلف مزغلك لا تستجيب للنداء. لماذا؟ ألأنّ يديك مُلطختان. ثم أعادت الكرّة: بَحيرة … بَحيرة … أينك يا بَحيرة؟ هل من لغة ثانية اناديك بها؟ هل من ساحات جميلة التقيك عندها؟ والاطفال هل سيقدّرُ لهم ان يقرؤوك مع سارتر ونيرودا وفوكز؟ ايها الفارس، نادته، في عينيك تعوم كل الاشياء التي تخيلتُ في الصبى كيف يتربع فوقها الله.

كان الفارس لمّا يزل مصوّبا مدفعه بانتظار ان يحين زمن الحمى ليتغير قبل ان تحتضر الخيول في مدينته الغارقة في دمها، وبقي السؤال لماذا لم يُغادر مكانه يومها؟ ولماذا لم يلتقيا خلف اسوار الحوار ليضُمّها في الحقيقة وتضمه؛ كانت تعي صعوبة الحب في تلك الايام، وتعي شدّة الحر وشحة الصدق كما الرزق.

كانت عينا الفارس الموشى بالحظوظ تتلقى الصور عبر المزغل المرير، وجثة السؤال المحمولة على اكتاف التخمين تشي بالغابات التي تنتحر داخلها الاجوبة الخُدّج قبل وصول الحاضنات وتثاؤب الكلام على ايقاع الموت. محض هراء .. اطفال يرحلون عبر السنوات ولا يكبرون ..

فجأة انتبه الى قامته القصيرة وراء المدفع العملاق. يا الهي مازلت كما انا. لكنه تذكر انه لم يعد يرغب في مغادرة مكانه. ربما لهذا السبب توقف عن النمو!

-2-

نادته ابواب القلعة الاربعون المشرعة، لكنه اختار بابا واحدة ودخل منها ناسيا نصيحة الشيخ الضرير. كانت راحلته اللغة وقبلته النساء اللاتي لم يمشطن شعورهن البتة. كانت شعورا برية، وعند وعند المنعطفات جلست عجائز تضرب رملا. لن تفهم ايها الفارس الموشى بالحظوظ ابدا حتى وان فغرت روحك. لم يعد ثمة شيء يجدي. حتى اليوميات التي صار يدوّنها على جدران الصومعة غابت خلف الصور الملونة لنجمات هوليوود وباريس ولندن، وها هو يرى السلام ينكث وعوده والحرب تواصِل دفن اسرارها. ماذا ستجدي الثرثرة، وهو منهمك في مراقبة الجراد القادم من الشرق. وأوعز لنفسه بالصمت بدل الجدل والمكابرة. اصمت وانت تستند الى مدفعك من وراء المزغل. اصمت واصغ … انها الطائرات … هل تسمع …. كان يعرف انها طائرات ويعرف انها ليست كالطائرات.بكى المزغلُ كثيرا …… وانكفأت على احزانها وخوفها اكياس الرمل.. لا .. لا …. لم تكن كالطائرات … هو الي رأى كل شيء .. الارض تستحيل مقابر من انين وجراحا ومصائر. كانت كل شيء ولم تكن …. وهو الذي تركها هناك وعاد يحمل جسده في المرة السابقة، وخرطومه الظامئ يلهث ليصير لقمة ساغة في كهوف كثيرة شريدة وجائعة. لماذا الآن تتشرد الكهوف؟ وانطلق لسانه من مداره متحديا: ايتها السماء، او لم تكوني سماءً عندما استمطرت الارض ولا مطر؟ لماذا كلّ هذه السياط؟ أيتُطِلعَ ماءً على نيّةٍ مُبيّنة؟ وفكّر هل كان كل ذلك محض تمرين عضلي لذراعي السماء؟ ثم فكر كم مرة استبدل سماواته بجدول او غار قد يصبأ داخله. وقد يصبأ .. ويصبأ ويأتيه النذير ولا يبالي. وتلوَّنَ البكاء بعدها، وصارت الدهور تكدُّ وتكدح واحيانا تهان، ولنفس الخطأ المطبعي في شريط المؤمنين بالمدرسة القدرية صار ينوء تحت إصرٍ بحجم العصور التي غبرت والشريط هو هو يدور على المدن والامم والفتن المغيبة في منافي الشكوك.

اربعون عصرا على كاهله والمناخ وخيم. لا بلل، لا همس، لا نسيم .. بعدها عاد كل شيء وانتفض الفارس، لكن المغارة كانت قد توهجت، بعد ان كان كل الطعام حلاًّ عليهم إلاّ ما حرّمته على نفسه نبع الاسباط، الاسباط الذين استجابوا لرغبة الشيخ الضرير ودخلوا القلعة من ابوابها الاربعين ليصححوا جزءً من خطأ قديم.

يومها ظلَّ يسأل أين الحرام وأين الحلال يا سماء السموات؟ ما كان الفارس ليخلع تاجا ثبته على رأسها وإن زاحمتها الطائرات. كانت خارطة مجنونة غيَّرَ الجوع تضاريسها، فأنزلق العمر الى فم رغبة وحيدة من قبل ان تزرع السنونوات سقسقاتها في قلب العاصفة المهاجرة من الصحراء. وكانت هي كعادتها وحيدة تجلس قبالة الشجرة الفانية، تصغي الى حوار الغصن ونقار الخشب ولا تفهم والفارس يقف حائرا وسط حظوظه والمعنى المجمد في لحظة الغرغرة المؤجلة والقصة المُكمن في رغبة الصياد.

وحدها الشمس كانت تدلك صدر الظهيرة وتغمرُهُ بزيتها الحزين. كان مُقدساً، ولم يعد غير فرامل تكبح جنون المحاولات لتحرر الفارس من قبضة الهوان. وكان الفارس يصرخ وسط العجائز والاشجار الفانية ونقاري الخشب: ايتها العجرفة، ايها العناء، كونا معي في العمر المزمن وفي الفقاعة المنتفخة على لسان القرن الجديد، اما انت ايتها الحكمة الضائعة فانضمي الى قبائل الفم المفتوح على الهباء. وكان اذا ما غربت الشمس يكفر بنورها ويغمر في الحوض الطافح بالليل اوراقه البيض ويراقب الهراء يتمظهر رويدا رويدا، ويرى الصخور تلهث فوق السطور المحتضرة: الهي .. يقولون عنك كلاما عجيبا. يقولون ان الطريق اليك ملغوم بالبغايا والمرايا المراهقة وان خطوط يديك مسكونة بالتغيرات وانك وحدك المسؤول عن عاصفة الجرياويين بعد بادلوا مطرك بالخمور المستوردة وقطعوا رأس الحول قبل انبلاج الزكاة.

***

دارت العصور

كان الفارس يدخل مع كل دورة ويخرج من القلعة دون ان يحظى بلمعة من تاج سيدة الكؤوس .. وهي وحدها تعرف انه ما نَصَّبَها سيدة إلاّ بعد لأيٍ وعقوبات يدخل في قائمتها الطويلة تجويع قسري وتسهير حتى الصباح في صالات الكهوف الراقية. سيدة الكؤوس، وهل فكّرت هي كيف كان يقضي هذا العبد الآبق لياليه في الحجرات الباذخة وحده، ولا تفصله عنها سوى اطنان الصوان والحذر؟ هل كانت تعرف السماء كيف يستوحي مفاتنها ويزرح الليل بطوله تحت ثقل السؤال: أهو المعزّي ام المُنحَمنّا؟ هل فكرت السيدة يوماً بأن تفتح جيوب البحار وتشطف حيرة الحائرين؟ وصاح بسماواتها: لماذا فتحوا عين المُعِزّ وصيروه مُعزّياً؟ أولم تكوني انت انت رسالتي الخالدة وعروسي المصفدة بالعهود؟ بل انت انت، ومازلت عصية على جرّات الاقلام ورُقى المكر وشياطين القوبيا.

كانت عصورها المشبوهة هي السبب وراء صمته المصفر وعصوره المنزلقة في السؤال؛ كل عصر باعصار، وكل اعصار بسماء، وكل سماء بوباء، وكل وباء بهراء، وكل هراء بهباء، وكل هباء بثغاء وكل ثغاء بسماء، وهو وحده فوق زلاجات العصور يتزحلق ويقطف عبر الجري المنزلق من على الجانبين ما تيسرَ له من تآويل، وحين بلغها كانت يده تعضُّ على باقة من تآويل وبرارٍ ملفوفة صار عليه ان يفرشها مل سجادة تحت اقدام الحوار الجاد الذي أجلته الحروب، كي يهويا من حدودهما. هل كانت يومها اقل من وطن؟ يومها شدت الرحال وراء العناقيد واحلام الليموزين والأواني التي كانت ترفضها مستطرقة، وحين انهدر في اوانيها استطرقت، ووجد كل العناء والفراديس الضائعة فصاح بها: لماذا لم نتلطخ معا ولو مرة واحدة بذلك الشيء الذي حرمه على نفسه الشيخ الضرير.

***

في حجرة الصحافة السريعة استجمع الفارس كل ما يسمونه جُرأةً وتسميه سيدة الكؤوس وقاحة ثم اجبر قميصها الأزلي ان ينفلت فيجحظ نهداه. وسألها: أولم تفهمي الدرس؟

كان يريده مثلثا من عبد آبق وسيدة وقسيسة، فأذا بها تدلق محبرة الخنوع على خطوط الخارطة الخارجة على كل قانون قبل التأكد من صلاحيتها لعصر جديد؛ عصر ربما تمادى في تأجيله قدر شريد.

وكانت في الحجرة ذاتها تكسر كل الخطوط الخضر وتترك العبد الآبق عند خطِّهِ وخطِّه المحمَرّين مع قسيسة لا تكفي وحدها لطمس الليل في بئر النهار، والسيدة تعرف ان يداً واحدة لا تصفق، وان يداً ونصف يد لا تطلقان الصفقة من قبضة القلب. ومع ذلك كانت ترفض ان تكون نصف اليد الآخر، وتضحك مثل أم البشر إذ تراه يدقُّ بيده الهواء ويسلخه طبقة طبقة لينتزع من بينها اكوانا آهلة بالغابرين، بينما ينتحب لحم الأثير ويصرخ (( لا مِساس )) ويتجرع الصبر حتى لا يعود في حلق الصبر ريق. هكذا ارتضى الفارس ان يضع عمره المكتظ بالاكوان في عربة بزلاجتين ويدفعها الى رغبتها الاخيرة، حيث الاسرار تدلق السنتها تحت مطر البوح وجياد الموت توغل في براري اللغز، والكؤوس تلهث خلف يقين ما، وراء الزغاريه والجراح المعولة مع الدقائق، وكانت هي تعرف ان الخصام جُمِعَ لها مع المحبة وانهما سافرا معا في ربيع الحوار والصرخة والشحوب بحثا عن الصرخة ذاتها وعن رزمة الأجوبة عن: أهي الكوابيس استحمت في الجحيم ام الفضائح، ام انها الريح أفزعتنا في جُعَب الكلام؟

كا ن المساء الموجع يُفصِحُ عن الأسماء ويُمسِّدُ رأس الليل الذي صار الخفير يقشرُ أحاجيه اللعينة ويسحب من احشائها سماوات مُضمّخةٍ بالهديل.

-3-

من باب القلعة التاسع والثلاثين خرج الفارس، ولكن هذه المرة بلا حظوظه، إذ قرر ان يرهنها لدى عجوز كانت تجلس عند منعطف الرؤيا. قال لها اشياء غامضة، ما تلبث كل كلمة تخرج منه ان تستحيل عاصفة في مرآتها الحاذقة. أربعون عاصفة يا الهي، تذكر عندها نصيحة الشيخ الضرير: لا تدخل من باب واحدة وادخل من ابواب متفرقة. كانت واوا الجماعة قد سقطتا سهوا من بين اصابع الناسخ، واحتار الفارس كيف يقسم نفسه مقذوفا خارجها موشً كما دخل بحظوظه ولم ينتبه الى انها قد كلحت.

عند الساعة المُرهقة بعد الدفن دعته الباب الاربعون الى حيث المصائر تتقاطع عند قراءة تارويته لا يفقهها غير حكيم واحد ولد من بئر مهجورة عند منتصف الطريق بين فلسطين وارض الكنانة، فراودته التي هو في بيتها عن نفسه، وقطعت النسوة ايديهن انبهارا، وقرض السجن منه عشرة سنين. هل السجن أحب من النسوة والنهود والعطور والشخير حتى الضحى بين احضان لذة تغيب واخرى تشرق؟ قال لها سأدخل من هذه الباب وأودعها كل شيء سوى فكرة ظلت تتشبث برأسه: لابد من مداولة مع الحكيم الاوحد.

كان يعرف ان دخوله خيانة، وبدا له وهو يمخر عباب الحيرة والسؤال ان اشياء كثيرة بدأت تغرب وراء الصور القديمة: رجل في الثالثة والثلاثين يحمل صليبه ويصعد الجبل، رجلٌ في السبعين يصب صهير الحديد في فم جبل تساقطت كل اسنانه بمعاول همجية. كان يتساءل وهو يوغل في الممر المفضي ربما الى الحكيم الاوحد، ما نفع الحكمة والمدافع معولة من صوب، والطائرات والموت؛ وتذكرّ في الحال يوم انطوت على ابنائها ارض سدوم و أفزعتهم لعنة مدروسة ملحا في البحر الصغير. تحير الناجون. أكانت لعنة على القوم أم على البحر الذي مات. كان هو وحده من بين الناجين، ينبش في شرفه بحثا عن متنفس، فوجدها هناك. تلك التي من عينيها تندفق السنوات ومن قدميها تتدحرج الطرقات ومن قلبها العواصف وعنف الجياد والصافنات. كان يومها جالسا تحت شجرة معمرة حفرت عليها الريح تقاويم شعوب وامم شهدتها وشهدت لها وعليها. حاورها وكانت تسرد له بثقة رسوخها فصول تاريخ البشر منذ آدم حتى اخلافه الذين يستلذون في ذبح الخيال من قبل ان يتحرك على شاشات العقول النابضة.

وتحت الشجرة سأل نفسه: هل كانت محض احلام؟ محض هلوسات لشجرة طاعنة؟ نظر الى الجسر القديم – حديديا كان – وقد تقوس تحت اقدام الجيوش الجرارة وهي تمضي الى القلعة العتيدة ولا تدري ان مصائرها ستتقاطع في ممر ما تحرسه عجوز، تقرأ الطوالع بدقة وتشير باصابع طويلة ونحيلة الى ابراج كثيرة قابلتها. قالت له انها وريثة صومعة لم تصادق عليها الازمنة، وأنها تخلف وراءها كل يوم عانسا وثكلى وأرملة وبغي. وقال لها انه رجل يحمل بندقيته ويلازم سنواته خلف مزغل لا يمل النظر الى الأفق.

كانت الحرب قد عششت في الملاجئ عندما انسحبوا الى المدن ومزقوا الخاكي، وظلت هواجسهم تنمو هناك، وظلت الحرب تحضن بيضها وتفقسها فتمتلئ الملاجئ بأرواح شريرة وجن وعزلة. ويومها اكتمل القمر، وبدأ عصر الثأر. وكان الفارس الموشى بالحظوظ يهاجم الطواحين ويعض على ثقته بالنواجذ ويخرج منتصرا في كل مرة. وابتعد القمر، وظل الفارس يقلّب صفحات التقويم البابلي والسومري والصيني ويستنطق النبوءات ابتداءً من شق وسطيح وانتهاءً بنوستر آدموس وابراهيم حزبون والحروب تتوالى بلا شفقة، والفارس يعدو ويغلق ابواب القلعة بعد ان يغادرها، حتى إذا بلغ سلم الشيطان، تساءل اين تراهم ذهبوا بالحكمة؟ هل تقاسموها مع الغنائم. وأجابه الشيطان من مخدعه بالايجاب، ودعاه كي يلتقيا في ممر تشتبك عنده اشجار طاعنة وطافحة بالحكايات الخارقة، دعاه ليبوح له بسر ما حدث، لكن الفارس لم يستجب، وفضل مرافقة العجوز الذي قرر ان يشخر على القيدوم حتى يبلغ القارب وجهته.

هزه من كتفه: أفق ايها البحار لئلا تفوتنا اول سمكة. كانت السنانير تشخر ايضا وهي منكسة في اعماق تواصل انتحابها. اعتدل البحار العجوز وقال له: نحن لا نبحث عن السمكة، السمكة هي التي تبحث عنا. وعاد الى شخيره، وفي غمرة حيرته، رأى الفارس بعين بصيرته السمكة وقد اودع في بطنها مبلغ الجزية الذي استحق لدى جابي الخزائن، تعلو وتهبط على ذبذبات الشخير القادم من جهة القارب قاصدة رمال المعجزة. وفكّر في سلسلة المعجزات السابقة على عصور البحث. عبر تلك السلسلة التقيا، وعاشا الفيات كثيرة على قارب مماثل يراقبان الانواء والنجوم والليالي الباردة ساعة تنقضّ على نهاراتهما الساخنة وتفترسها من قبل ان يهبط ملاك بمظلة ويزرع في انوائها قراءة معتدلة. وكانا كلما انجبا على القارب نفسه اقواما بعدد امواج البحار، نشبت حروب بينها، وامتلأ البحر بالجثث، حتى اذا بلغا الفية جديدة، اتفقا على تحديد النسل حفاظا على البحر من نفايات الاحقاد والضغائن، لكن الحروب تناسلت والنفايات، وضاع حذر السنوات تحت ثرى العصور. وحين زحف الجفاف الى القارب العتيق فكرا في حفر بئر تمدّهُما بماء الحياة دون ان تهدد ما شيدا من سعادات وأقاويل، وكان الفارس كلما جرّ الحبل، صاح: يا بشرى هذا غلام، فتتلقفه السيدة المصون وتبني عليه حكاية تدور بها على السنة القوم والسجون والبلاطات دون ان يحصحص الحق امامها فتتوب.

كان القارب وقد انتشى بشخير البحار يحلم بالقرود والمتسولين والازواج المغفلين. في ذلك النهار حمل اقحوانة وزرعها في عروة الخريف، واختال الخريف في الممر الغريب وفي يده فانوس نكاية بأقفال الظلام. قال لقارئة الطوالع العجوز انه لا يكره الفلاسفة ولا الحمقى. كان القارب يغطس شيئا فشيئا تحت شخير البحار ولوعة الفارس الذي فغر فمه على المعركة. يحدِّق في الفانوس العجوز وهو يدمع روحه ولا ينطفئ. كل شيء بدأ في غمضة عين، الطائرات والمشاة والقذائف. والماء كان معتما كالليل، والطريق الى الحكيم الوحيد يدور عبر ممرات القلعة ومصائرها المتقاطعة. فكر الفارس ان يدخل معه كل شيء، حتى تعاويذه الملفوفة بضجيج انساب، كان يعرف انها انساب مأجورة لكنها ثقيلة في سوق الحبوب؛ كل نسب يضرب عميقا في فراغات تحلم، وتحلم في ان تستوطنها امكنة آهلة بمعجزات وحضارات وخفايا تنكمش امامها الأزمنة وتتقزم. كان ذلك عصر حبوب غادرت سنابلها وانزلقت نحو اهراءات وهراءات بحجم الأحزان المرفوعة في سماوات الاسئلة، وبثقل الدموع الهاطلة من سقوف الجوع. هناك رأى الفارس عمره في هيئة امرأة عجوز زرقاء لها انياب، يجرجرها اربعون الف كائن غريب الى هاوية عذاب اكبر، وهي تصرخ: اريد احبابي معي، ومع كل *** يهوي، ثمة طائرة تمرق وتكتب بالدخان على لوحة السماء آجال فانين انقضت، والفارس ينظر ويرمي خطوة اخرى على الطريق الضيق، شاهرا سيفه في وجه النبوءات التي بدأت تشرئب بأعناقها وتنفث في وجهه دخانا اسود ونذيرا بطوالع سيئة تنتظره. ربما يتلوى الحكيم في مكان ما قريب؟ يا للحكمة العظيمة حين تحاط بالمكاره، ويا للسفه حين يحاط بالملذات. وكان عليه ان يختار احد الطريقين.

كان البحار العجوز يواصل شخيره، والموج يعلو ويصطخب، وسواعد اللهفة تعلو وتهبط بمجاذيف لا يدري احد من اين هبطت على القارب الاعزل. أكانت معجزة؟ هناك في الأفق الأدكن تراصفت احلام وذكريات وسنوات حاول ان يغتالها النسيان، لكنها نجت بأعجوبة وواصلت الطرق على طبول ازلية، ومع كل طرقة ثمة نذير يتجسد في هيئة كتاب مقدس ومعبد ونبي لا يلتفت اليه احد، بل يتحلقون حوله والخناجر مسدّدة الى صدره، وليس بوسع احد ان يردِّد ((أتقتلون رجلا يقول ربي الله)) كي ينفضوا من حوله وتتلقفهم الهاوية كما يتلقف الطير الحبّة.

تأرجح القارب على صوت مهول. كان اربعون الف كائن مهيب يجرون نمر الجحيم من ذيله ولا يدري الفارس متى سيطلقونه وفي أي اتجاه؟

دق ناقوس الخطر في رأس البحار العجوز فأفاق على صخب جنود يتفحصون القارب ليصادروه، والفارس يضع ملءَ كفين من القارالساخن على فتحة لم يدر البحار متى اصابت قاربه، ولا من اين جاء الفارس بذلك القار الساخن، فأنتفض في وجوه الجنود المغادرين، وانهال بالشتائم على الفارس الذي أوشك ان يضع خطوة جديدة على ارضية الممر الضيق. فكرّ الفارس لحظتها: أولم أتصرف بحكمة؟ لماذا اذا كان اصراره على اقتحام عزلة الحكيم الأوحد؟ وكان البحر، امام كل فكرة تظهر في رأس الفارس، يشيخ تحت وطأة الشتائم المتوالدة من فم البحار العجوز.

كانت قارئة الطوالع قد أخبرته ايضا بشيخوخة البحر وأضافت: في نهار ما، سوف يمسخ* سكان هذه القلعة ملحاً يملأ قاع البحر، فلا تصل حينئذ عند سلسلة الجبال المقابلة لشواطئه. وسألها يومها ان كانت ارواحهم ستبقى حبيسة الملح المغمور ام ستنهدر في النبع الأزلي. أغمضت عينيها قبالة احدى الابواب الأربعين وتحسرت: لا يستعيد النبع دفقا اطلقه خارجه.

احتار الفارس اكثر. هل يمكن ان يضعه احد تجسداته القادمة في قلب تلك القرية. يا الهي، ما اصعب ان يتصور المرء نفسه ملحا، محض ملح في بحر يشيخ على الدوام. وعندما التفت ليطرح عليها السؤال الخالد، لم يجد غير صُرّة معقودة في مكانها. كانت العجوز قد تبخرت مع الحسرة والجواب، وبقيت الصرة تتخبط، والفارس مسمرا في خطوته التي غرسها في الممر، يلعن الذهب والفضة والغلمان والتلال المبللة بالدم. وحين لمح الظلال تحتشد في البقعة النائية، انتشل صرة العجوز وهبط نحوها ليستريح، تاركا القيادة للحمار المتهادي تحت شفق المعركة التي وهب الرجال لها انفسهم من اجل حقيقة ماتوا ولم يقعوا عليها. كان كل واحد منهم قد ترك فتاة تدندن في ظلام الكهوف: انت الضوء وانا القنديل فمن ذا سرق الفتيل•، وتدعك باللهفة نهدين متطلعين الى فم يموء او يجوع، وتنظر بعينين مغناطيسيتين الى المسافر الذي حمل على ظهره صرة مليئة بالمحاذير ولم يعد. كانت الاشباح قد اخذته بعيدا بعيدا ليصير خرافة على السنة العجائز في ليالي الشتاء، وهنّ يروينها للصبية فاغري الافواه امام اضافات لا تنتهي وتخرج مشوية على نار المواقد العامرة، تماما كأنفاسه التي كانت لمّا تزل ساخنة في الملجأ الذي تركها فيه مع الاحلام والهواجس وغادره دون ان يدري اية وجهة عليه ان يتخذ كي ينجو.

كانت الأرزاق قد وصلت عندما همّ الفارس الموشى بالحظوظ ان يرمي خطوة لاحقة نحوها وفي يده قصعة المحارب دون علم منه بأن كان لقمة سائغة في قصعة الله.

نادتهم: ايها الرجال، هل منكم من يأتيني به حيا، والوساوس تحوم حول رأسها كنسور جائعة، اذ كانت وحدها تعرف كم هو جسور حين يرمي بخطواته في الممرات الضيقة ونياسم التطلعات المهلكة من أجل ان يوقد أملاً ما في العثور على الحكمة الخالدة، المتسترة خلف عناوين شتى والقاب وجماجم ورؤى شاحبة في اوقات العصر، وشاردة من قبضة التاريخ، هناك فقط، يعترف الفارس بتعفن التطلعات تحت شموس جامحة في سماوات صافية لا تلوثها طيور حديدية ولا نجوم فضولية، هناك حيث غابات الروح خالية من الوحشة ومواطئ الاقدام والغرباء.

التفت الفارس ثالثة ورابعة و…… وعاشرة دون ان يجد البحار العجوز في الزمان الذي ظنه خاليا من الاشباح وعلامات الاستفهام والتعجب والرعب، وتساءل لماذا ولد وفيه رعب وافد من الرحم الذي هدهده في الشهور التسعة، واختار لنفسه جوابا وافداً من شيء غامض كان يهز في الجسد الاعزل والمنعزل؛ ربما لأن روحه لم ينفلت بعد من فخ تلك الخطيئة السابقة على الجسد. ثم انه قرر ان ينضي قدما الى عظامه المحطمة تحت مطارق الحكمة العتيقة ايام كان حكيمها منبطحا تحت شجرة التين الوحيدة وفمه المفتوح يتلقى نشارة المعرفة لحظة تمر مناشير الملأ الاعلى في خامة الغيب لتصمم عوالم مقبلة على خرائط سبقت خرائط الخطيئة العتيقة والتكوين والوحي.

كان الممر الضيق لا يُفضي بالفارس إلاّ الى عُزلةٍ فعزلة فعزلة، وبين عزلة وأخرى ثمة صورة طافحة بالحلوى تتدلى من أفق الرغبة في الخلاص، ولا خلاص، وفي العثور على البحّار العجوز قبل ان يتحول ملحاً ويستقر في قعر البحر الماضي في شيخوخته. هنا لم يعد الفارس يحتمل فصرخ: ايّها البحار على أي كرسي تراك الآن تشخر او على أي قيدوم. ايها البحار أفق، ولا تجعل صرختي تنقرُ جذع السماء المنتفخ بشخيرك الكتوم.

في بقعة عامرة بالخطايا في طرف الدنيا الآخر، كان البحّار العجوز ينبش رُقُم الموبقات التي كشفت عنها عصور المسخ بحثا عن سطر مفقود رُبما سبقه اليه الملح والتهمه. وتوالت عليه قوافل الاسئلة الغفيرة من كل صوب؛ كان سؤال بوزن الأرض ملحا، ولا جواب. ثم اشرقت الشمس وجاءهُ الطائر الذي كان قد ارسله يحمل في منقاره رقيماً غريباً .. أيكون رقيم نبوءة؟ وفكّر في الحال بالبحث عن ارض يقيم عليها منزلا ثم يشرع في تسوية خلافات عائلية قديمة. كانت الفجوات تتسع، والحيرة تمتد، وهو شاخص امام ممتلكاته، لديه متسعٌ من الملح والذكريات الوافدة من ايام التكوين، ولكن هل يردم الملح والذكريات فجوة يقف على طرفها المُنحَمّنا وعلى طرفها الآخر مُعزّيها؟ ثم انه لمح في البعيد امرأة قيل انها في الغابرين، فركض خلفها، وهو ينادي: انا فرصتك الوحيدة، لكنها لم تلتفت اليه واندمجت في كتلة الملح الهائلة وهو ينظر. وتساءل لماذا اختارت الملح؟ لبياضه؟ لضرورته؟ لنعومته؟ وبكى .. كثيراً بكى حتى ابيضت عيناه، عين على فراقها وعين على البحر الذي مات امامه.

كان القارب تحته، وقد دغدغه الموج وتملقته الريح، يترجرج، والجهات تعلو وتهبط حتى داخ في يده الإسطرلاب. هو الذي كان حاد البصر، لم يعد يميّز المصابيح المشتعلة من جلاميد الظلام المبعثرة على الملح، لكن قدميه كانتا مبصرتين، لا تخطئان الطريق الضيق الذي مرّ فيه تسعاً وثلاثين مرة رغم الضباب الجاثم على كتفيه الى جانب ملكين كتبا كل شيء في سجل لا تنطوي دفتاهُ حتى ينبلج الحتف. وكان الملكان، اذا ما غفا تبادلا الرأي في ذلك اللغز الذي لم تتضح خطوطه تحت كتل الضباب؛ لماذا تدور خلفه سيدة الكؤوس اينما سار؟ ولماذا لم يلتقيا؟ لكنهما تركا هامشا ليدونا فيه ما سيؤول اليه أمر الأثنين.

-4-

كانت سيدة الكؤوس الاربعين تفتش في جوارير حاستها السادسة عن خرائط قد تكون مطابقة لمساره. فهي التي عرفته لا يتوكأ على عكاز منذ أكلت الأرضة عكاز شيخه على مرأى الجن ومسمعهم، ولمّا هوى على الارض، طوى الملكان دفّة سجله الطافح وتقاعدا في القصر الباذخ، يبتكران التعاريف والبدايات الأولى لحوار منتظم أجلته سنوات التدوين العجيبة لسيرة شيخ حق له ان يعترف بأنه عاش. كيف لا وهو الذي ألمَّ بلغات الأنس والجن والهوام وفقهها، وملك الجياد والبشر والبقر وما تناسل عن أمّة الثقلين، بيد ان النغصة لم تفارقه وأبقته مؤرجحاً بين صلاة العصر التي فاتته ودم الجياد الصافنات التي ذبحت بأمر منه تكفيراً عن سهوه … هل كان للجياد ذنب لتؤخذ به؟ كان دمُها يتدفق على صفحات لوح أعلى، تارة يصهل وأخرى ينتحب لانقطاع اجله قبل ان يكتمل: يا عين الله التي لا تنام، أُخذنا بصلاةٍ سها عنها عبدُك ثم قضاها. يا عين الله التي لا تنام، هل تزرُ وازرةٌ وِزرَ أخرى؟

لم يكد الملكان المتقاعدان يفرغان من رفع قواعد الحوار الأزلي حتى تفاجئا بها تدخل القصر الباذخ وتحفر تحت العرش بحثا عن مفتاح الشيخ حسب وشاية شيطان محنك، لكنه أخطأ هذه المرة، فذهبت عبثا جهودها في الحفر. لم يكن امامها سوى ان تطلقها صرخة اهتزت لها قواعد القصر وتفتت البلاط البلوري وأخرجت الأرضية اثقالها، وفي طرفة عين رأى الفارس نفسه ماثلا امامها وحماره الى جانبه لم يتسنه، وكانت الصرة لمّا تزل معقودة الى طرف عصاه، تتخبط داخلها الطوالع المحقونة بتفاهات التعري واللواط والغولمة والثقافة الباذخة واليورانيوم المخصّب والسحر الاسود والحقيقة المقلوبة على ظهرها لكثرة ما نالت من بطنها السياط والصّبار والرمال اللافحة والجوع وتطفيف المكاييل وتزوير العملات السهلة. قالت له كل شيء في دمعة واحدة هطلت من عين حُزنها فأغرقت بمائها وملحها فضاء القصر، وحين ابتلعت الأرض ماءها طلبت اليه ان تقرأ ما تبقى تحت خطوط يده. نظر في عينيها وهي تنطق بكل شيء، لكنها عجزت عن فك رموز الدفء والسكينة النابضين تحت خط القَدَر.

ربما كان ذلك سبب عنائها وهي تلهث خلفه بلا طائل تسعة وثلاثين عصرا، وعبر تسع وثلاثين بابا. كانت تختم كلَّ عصرٍ بكأس تصنعها من تراب اسفارها الطويلة ودموع عينيها وتصنعها على احد ابواب القلعة لتكون مقدسة، تلهث خلف ذكراها الأمم لتتبرك، وحملات الاستكشاف، لتطويها اجنحة المتاحف المرفرفة للعتاقة، حتى اختلفت الأمم حول أي منها المقدسة فعلا، وتسبب الخلاف في حروب فمصالحات فعهود فمواثيق فمصارحات فحروب، والسيدة تراقب الوقائع بأناة* حجر وسط كهف العواصف، وتغرف من مرايا الكوارث صوراً شتى للفارس، وها هو أمامها.

ذكّرتهُ هيأتها بكل العهود الغابرة، ابتداءً بعصر مجاهدة النفس وانتهاء بعصر مجاهدة النجوم. تسعة وثلاثون عصرا من المجاهدات، وهما يتوكآن على أمل يعضّ على الأرض كما الماء، ويهرب منهُما فيفترقان. هي نحو البركة الازلية، وهو نحو الجبل الساكن في الطرف البعيج من رؤى المتنزهات الصاخبة والشجر والمنازل المتكاتفة على المنحدرات.

قالت له: أهلاً بك في قصري الذي يشهد لي فيضانُه وتكسُّر بلاطه وملح دموعي الذي لم تشربه الأرض أني امرأة بلا خطيئة. لم يردّ عليها. فقد أخذته الدهشة مما كان حوله، فراح يعُدُّ بلا كلل الجن والأنس والطواويس والهداهد والنمور التي تتقادح في عيونها الشرر حتى وصل نظره اليها، واقفة مثل شجرة حَور عتيقة، كانت نبّأته العرافة بظهورها في قصرها وعليها يعششُ مالك الحزين أبداً. في تلك اللحظة مرّت غيوم كثيرة، فاشرأبّت من جيوبها الممزقة سنونوات تصغي ولا نداء، ومرّت أمامه شاحبة أمٌّه تجرّ خلفها صباحات الطفولة الهالكة، وعلى كتفيها أدعية صادقت عليها الجوامع والكنائس والمعابد .. تلك هي أمّه، أدكن من الغابات وأعذب من الانهار واكثر غموضا من البحار، والطفل خلفها يهمس للحجر والسنابل والغموض، هناك بعيدا عن طقوس الزمن المُرتد والجراح المفتوحة في جسد الحكمة الضائعة.

***

لم يكن قد حُسم بينهما الخلاف الأزلي بعد.

قبل تسعة وثلاثين عصراً، قال لها: نجاةُ هذا العالم تكون على يد مُرسَلٍ من ولد اسماعيل، وعارضتهُ: مكتوب في الكتب انه من ولد اسحق. يومها احتكما الى شيخ معمّر كان قد خبر السنوات السيئة لكنه نصحهُما بحكيم أوحد في قلعة تتقاطع فيها المصائر ويلُمُّها بأصابع حكمته.

كان يوما طويلا، كألف سنة مما يعُدّ البشر وربما اكثر، سارا معا في الضاحية الهاربة بهما بعيدا عن جليد النقل الى لظى العقل ملتهم الضجيج والظلال الهاربة من شموس الحقائق، وافترقا عند المنعطف المؤدي الى ابواب القلعة الأربعين، وها هما بعد قطيعة تسعة وثلاثين عصراً يلتقيان كما افترقا اول مرة والخلاف بينهما قد بلغ زباه.*

تفرس الملكان المتقاعدان في شفاه الفارس وشفاه السيدة، ونبها الملائكة الموكلين على كتفيهما الى ما كان يدور من حوار العيون. قالت لها عيناه، وملكاه يكتبان على صفحة جديدة في السجل المفتوح، تفاصيل حكايته مع البحّار العجوز قبل ان يحضرَهُ الموت، وقريتُها التي مُسِخت ملحا والعرافات اللاتي كن ينفضن الغشاوة عن شاشة الأثير ويرينه السطور المنضدة وتعرجات قدره السائر نحو آتٍ قاحل، آتٍ لا يفضي إلاّ الى مناشدة العناءات و الاكتشافات التدريجية لما غربلته الملائكة دفعة واحدة من حريات ومهرجانات وشتاءات يتساوى بردُها وحرّها أما هي فقالت عيونها كلاما غريبا صُعق له الملكان المتقاعدان وسجّلاه مع النوايا النابضة خلفه. وراقب ملكاه سريرته التي أصرّت ان تبقى بيضاء، فأصرت على أن تغمر بمائها العميق أي يابسة يمكن ان تحلم بها كلماتها المحلقة ابدا في فضاء الاجتهاد غير المرخص، وحين ايقنت انه غالبها، قدّت قميصه من قُبُل قبل ان يستدير فَهَّم بها ومضى في همته الى منتهاها. حار الملائكة كيف يدوّنون المشهد فانتدب من كل ملكين ملك ليدوِّنا مناصفة خلاصة ما يجري؛ كانت صفحة سوداء بنسختين ترتقي سلالم السماوات وتدخل من باب الحفظة ولا تنتهي الا عند باب جهنم. وتناولها مالك وذيَّلَها بريشة من نار. أمّا الفارسُ والسيدة فقد غلبهما نوم بثقل التعب الذي بذلاه لوصل ما انقطع عبر تسعة وثلاثين عصرا حافلاً بالمرارات والشكوك والحيرة.

-5-

من شرق السؤال الى حدود الاجوبة، يمتد مثل طفولة رعناء شوق الفارس. كان ذلك قبل ان تقرضهما الشمس وهما نائمين وقبل ان تقلبهما ذات اليمين وذات الشمال والشيطان باسط ذراعيه بالوصيد.* لم يكن حلما ذلك الذي أطَر ملايين الموتى في التلال والوديان وعلى الجبال، وخلفهم يسير المعزون وفي ايديهم ترن أجراس ندم. نظر حوله. كان التنور مسجورا* يفور، ويدها الخاملة تعزف عن الرؤى المحمّصة وتزجُّها في آخر السرفات وتُعلن بأن فواتير العُمر قد ابتلعن آخر ما تبقى من أنفاس النبوءة، وبأن كفة ميزان الحبوب رجحت في يدها التي أصرت ان لا تبقي أي شيء في سنبلة، فمالَ القارب بهما من جهة القيدوم وطفح الماء والنذير معاً.

صاح: يا مولاي، مازلت على أوقاتها مكبوبة جُعبُ التضور، يتقاذفُها القلق، والصباح العجوز ما زال يئن من ثقل الظهيرة النافقة على منكبيه. عند المنعطف قالت له العجوز: هذا بعض ما كشفت يداك، وشرّدت في وجهه الخفافيش دون ان تحدق في ظلام القلب وهو ينمو. ماذا تبقى والعمر مستندٌ على عكازة النجوى وسوط القبر يجلد لحم الحلم، تماما كما تجلد قوائم التفتيش لحم العمر. ناداها: ايتها العجوز، هاتي أيّ برهان على صدق الخفافيش لأستقيل من الحقيقة وأقدِّم الاعذار للأوهام والعهود القديمة والجديدة والهفوات.

ليل ثم ليل ثم ليل، والشراع معلق في اصبع الريح وفي همة الموج المكابر. كل شيء تهاوى مثل انهيار حقيقة يكبو على انقاضها الفارس ويُعِدُّ لأسرارها الشاي ولا ينتظر. هل ستحط على مدرج عمره طائرة؟ هل تفزّ من رماد النوم طائرة أخرى؟ كان لمّا يزل يمتلك تلاً من القنابل والشتائم المعلبة والضغائن ولكنه احتار من سيحمله ولو لساعة واحدة كي يُلقيها دفعة واحدة على فجر جديد، او من ينفض عن حلمه غبار الخوف وينفتح في أوعيته صوت المغني. نظرا الى النخيل، نحيلا كان، تتناثر على مخاوفه الذكريات. ورأى القديسة تقتل طفلها وتسأل ربّها: لماذا اخترت يا رب ان يموت السطر قبل طلوعه؟

كان الكلام النحيل معلقا مثل غسيل على الأفق. غسقٌ يجيء، شَفَقٌ يجيء، ومغرب ينفضُّ عنه الكادحون، يود واحدهم لو تفرغ الاحداق ما تجمع في حقائبها من الارغفة البيض.

ومرّ السؤال عبر نفق الظهيرة فأيقظ الاسئلة المتهالكة على النبع المطمور بسنين الرق وفتح طريقا للفارس كي ينطلق، قبل ان تصادره القُرى ولغات الجرائد والشوارع والارصفة المثقلة بالبسطات والضجيج والزبد. إنطلق قبل ان يقك أزراره الرعاف، وكان في انطلاقته يتساءل مع كل خطوة ترى من أي كهف اوغار ستفيق مواجع الوقت وتنقلب عليه ريح الكلام المستعار، وهو الذي توقف كثيرا في مديات الحنف وانحنى امام لغات تفتش عن فم لا منتمٍ كي تفرغ الاعصار فيه، وكان مثل فنجان طافح بالنبوءات يدور بين شفاه قلقة، تارة تتأبطه الرغبة، واخرى يلتقمه كهف آبق أحالته الحروب ملجأ لشاحنات الأرزاق والذخيرة.

***

كان الفارس خلال العصور التسعة والثلاثين دائم التفكير بالعظماء ومدوّني التاريخ والحروب والهذيانات، إذ تنبعث أرواحهم من صفرة الورق المطلي بعتاقة الزمن وعذابات مجهولين؛ كيف ادّخروا لأنفسهم كل تلك الأمنيات الحبيسة في سطور الأنا وما يجللها من نظرات وكلمات وادعاءات وعقد تواصل دورانها في مركن ضبع* وكانت احلامه تلهث خلف غبار الليالي الهاربة من كل شيء والنهارات المنصوبة فخاخا في طريقه كيما* تلتهم الاوفياء المبعثرة على طول ايامه المغمورة في الحمى. ذلك كان خروجه من الباب التاسعة والثلاثين، فارغ اليدين لكنه حمل صرَّة المصائر المعقودة الى طرف عصاه، برغم الوحشة التي استمكنته، ودنا من الباب الاربعين. سأدشِّنُها، قال، ودخل. بلا حظوظه دخل. بالمنحَمنّا دخل، تاركاً لها الحروب والسلام والجوع والعطش والفقر والعذاب وعُميرة التي مزّقتها السيور.

وكان الملائكة، وهم يراقبون ما يجري، يرُخون سلاسل الشمس رويدا رويدا لتنزلق سائغةً الى معدة الغروب.

انتهت

الموصل/1997-2000م

 

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا