ف

راسلنا

منتدى

عن الندوة

أدب وأدباء

صوت الشعر

شعر صيني مترجم

شعر إنجليزي مترجم

شعر مترجم

شعر عربي

شجيرات حب صغيرة
محمد عبد الله الهادي - الشرقية / مصر
 

عندما رأوها لأول مرَّة بصحبة أمِّها، في طريقها للسوق، انبهروا بجمالها الفاتن، الذي جذبهم جذباً، فتركوا لعب الكرة بالجرن، وتتبعوا خطواتها كالمنومين، وهي تتنقل مع أمِّها من بائع لآخر، يتطلعون لمحاسنها، ويرصدون حركاتها العفوية وهي تتكلم أو تبتسم أو تنتقي الثمار لأمِّها، كانوا مندهشين حقاً، بكل هذا الجمال الباهر الذي يمشي على الأرض..
وعندما تنتهي طقوس الشراء، وتصحبها أمُّها في طريق العودة لـ"العزبة" البعيدة، كانوا يتتبعون أيضاً خطواتها من السوق إلى الشارع حتى تعبر كوبري الميزانية، وتركب العربة عائدةً لدارها..
آنئذ يتحررون من سحرها ويفيقون، ويعودون للجرن الواسع، لاستكمال لعبهم الذي انقطع بمجيئها، وهم يتساءلون بحيرة:
هل تنجب البطون في "العِزب" الفقيرة مثل هذا الجمال الصارخ؟!..
لم تكن قريتهم الكبيرة، التي يمكنها أن تبتلع عشرات "العزب" الصغيرة، والتي يُعقد فيها السوق الرئيسي كل أسبوع، قادرةً علي إنجاب بنت جميلة مثل هذه البنت.
في الأسبوع التالي، عندما جاءتْ بصحبة أمِّها للسوق، عرفوا اسمها، وراحوا يرددونه على ألسنتهم:
" كوثر.. كوثر.. كوثر ".
وعندما ذهبت لشراء "الدردرمة"، تجمعوا سريعاً حول عربة "أبو زكي" المزركشة، واشترى كل واحد منهم قمعاً بقرش، ولم يرفعوا الأقماع لشفاههم، ولم يستحلبوا طعمها الثلجي الحلو على ألسنتهم، إلاَّ عندما لمستْ بشفتيها الدقيقتين ولسانها قمعها المثلج..
ينتهي التسوق، وتعود مع أمِّها، وينفض السوق، ويبقى طيفها الرائع هناك، في كل الأماكن التي مرَّتْ بها، يداعب مخيلتهم، ويوقظ لأسبوع كامل أحلام المستقبل الملونة في رؤوسهم الصغيرة..
متى يكبرون ويصيرون رجالاً؟..
متى يصبحون قادرين علي الزواج، وإقامة أُسر، لتكون "كوثر" هي الزوجة؟...
حتى تعود إليهم في السوق التالي، فتنةً تمضي على الأرض بين جموع القرويين.. تناول ولدٌ منهم طاقيته الصوفية، كوَّر طرفها، دعك بها جبهته بقسوة، رسم عليها شجيرة للحب، وأعلن صراحةً:
"أنا أحب كوثر".
لكن ولداً آخر فعل نفس الشيء، وأعلن أنّه هو الذي يحبها، فأيقظ مشاعر الغيرة والمنافسة مع الأول..
وعندما جاء السوق التالي، كانوا جميعهم قد رسموا شجيرات الحب علي جباههم. وانتفتْ المشاعر السلبية من قلوبهم الصغيرة، بعد أن أحبُّوها حبَّاً جماعياً، وصاروا ينتظرون مقدمها الأسبوعي مع كل سوق على أحر من الجمر... تأتي فيأتون خلفها، تمضي مع أمها، فيلاحظ كل ناس السوق الباعة والمشترون والنصابون واللصوص والشحَّاذون والمتسكعون.. شجيرات الحب الصغيرة التي تلتف حول "كوثر"، والتي تظللها بالمشاعر البريئة من وهج الشمس، فيبتسمون بمودَّة، ويرددون:
"سبحان الخالق المصوِّر".
وكان البائعون يتغاضون عن الأسعار الحقيقية لبضائعهم دون فصال مع الأم، بل ويهدون البنت الجميلة بأريحية بعض ما يبيعون، ويتفاءلون بالرزق الوفير إذا ما زارتْ أو مرَّت بمكان تجارتهم، وكانوا بتسامح حقيقي يبتسمون ويتغامزون ويعلقون بكلمات التورية المقتضبة، حول مشهد الحب الجماعي المتنقل بين جنبات السوق، ويخمنون بفرح: لأي هذه الشجيرات الصغيرة سوف تأوي الجميلة في قوادم الأعوام؟.. من هو صاحب القسمة والنصيب؟..
ويقلبون أكفهم في الهواء وهم يجيبون بتساؤل:
"من يعرف ؟.. الله وحده يعلم"..
ومرَّت الأيام سريعة..
ولم يسأل ناس السوق:
لماذا كبرتْ "كوثر"، وخرطها "خرَّاط البنات" بسرعة؟ ولماذا تزوجت صغيرة من رجل آخر تماماً، كما تتزوج كل الفلاَّحات في عزبتها البعيدة؟..
ولماذا يكبر الأولاد ببطء؟ ولماذا تستوي رجولتهم على نار هادئة؟ ولماذا عندما يكبرون يتفرقون؟..
لم يسأل ناس السوق عن شيء من هذا أو ذاك، لأنهم كانوا يتابعون "كوثر" أخرى، من عزبة بعيدة وفقيرة، وشجيرات حُب صغيرة تنمو حولها، وتحوطها، وتتنقل خلفها بين جنبات السوق.
 

1

 

Comments 发表评论 Commentaires تعليقات

click here 按这里 cliquez ici اضغط هنا

ضع إعلانك هنا